المقاله تحت باب قصة قصيرة في
26/06/2012 06:00 AM GMT
لا أحد يعرف تاريخ الصورة بالضبط، لكن يوسف يتذكر بأنها التقطت ذات جمعة قبل أشهر قليلة من حركة رشيد عالي الكيلاني عام ١٩٤١، أي أنه كان في الثامنة من عمره. والتقطت في بيت العائلة القديم في عقد النصارى الذي كانوا يتقاسمونه مع عائلة عمه يوحنا. مر المصور الأرمني على الشارع بيتاً بيتاً يحاول إغراء العوائل بأن تلتقط صورة جماعية. تردد أبو يوسف في البداية لكن الجميع ألحّوا، خصوصاً أن أخاه يوحنا وافق وبدأ ينادي زوجته وأولاده كي يجتمعوا ويستعدوا للصورة. اختار المصور زاوية مناسبة في باحة البيت فيها ما يكفي من الضوء، وطلب منهم أن يعلقوا قطعة قماش بيضاء كبيرة على الحائط في حوش البيت لتقف العائلة أمامها كي تلتقط الصورة. بعد أن استُحْصِلَت الموافقة، وبعد أن انتهى المصور من التقاط صورة لعائلة يوحنا جاء دور عائلة كوركيس. يبدو كوركيس، أبو يوسف، جالساً بوقار في قلب الصورة، يرتدي الصاية واليشماغ ملفوف حول رأسه على طريقة القادمين حديثاً من قرى الشمال، رغم أنه كان قد هجر تلكيف وجاء إلى بغداد قبل أكثر من ثلاثة عقود، إلا أنه رفض أن يغير ملابسه ويلبس «أفندي» مهما ألح عليه الآخرون. وظل يرتدي هذا الزي حتى موته عام ١٩٥٧. كانت ذراع كوركيس اليسرى تطوق عنق يوسف، ويده اليسرى تمسك بيد ابنه الذي كان يجلس إلى يساره، وكان كالعصفور لا يكف عن الحركة. أما يد كوركيس اليمنى، فكانت تستقر على ركبته اليمنى بعد أن سوّى شاربه مرة أخيرة، قبل أن يطلب منهم المصور أن يتوقفوا عن الحركة ويركزوا جميعاً على العدسة. ثم سحب لوحاً من داخل الكاميرا إلى خارجها وبدأ يعد من خمسة إلى واحد. بجانب كوركيس جلست زوجته نعيمة تبتسم ابتسامتها الواثقة. الصورة بالأبيض والأسود، إلا أن اختفاء الألوان عنها لم يخف بريق عينيها السوداوين واتساعهما الذي طالما سحر كوركيس وشجعه على أن يعود بعد سنين من التنقل بين بغداد والمحمرة، والعمل في الملاحة النهرية بين المدينتين مع أبناء عمومته، لكي يخطبها بعد أن كانت قد ظنت بأن بغداد أنْسته القرية ومَن فيها. حذّر البعض أهلها من أن يوافقوا على تزويجها، لأنهم قالوا إن الرجل منحوس، فقد ماتت زوجته الأولى وطفلاها غرقاً، وها هو سيأخذ نعيمة لتغرق هي الأخرى، لكن والدها لم يأبه بهذا الكلام، وكان سعيداً بتزويجها لرجل كان يثق بمعدنه، لأنه يعرف أباه، خصوصاً بعد أن عملا عمراً بأكمله بعضهما مع بعض يزرعان الشعير في أرضيهما المتجاورتين في تلكيف. بدت نعيمة سعيدة في الصورة، فقد كانت «أمل» آخر العنقود، تتحرك في أحشائها بنشاط وتعلن عن وجودها وكأنها تريد أن تظهر في الصورة هي الأخرى، أو أن تلعب مع سليمة، التي كانت في عامها الثاني في حضن أمها. سليمة، التي أصر كوركيس على أن تحمل الاسم الأول لأشهر مغنية في العراق في تلك الأيام، سليمة مراد باشا. أرادت نعيمة أن تضيف المزيد من ثمار بطنها، ربما لتظل تعوض كوركيس عن زوجته الأولى وولديه اللذين ماتا مع أمهما قرب المحمرة في حادث يرفض كوركيس أن يستعيد تفاصيله. لكن قلب نعيمة توقف ذات ليلة بعد العشاء وفارقت الحياة بعد سنتين من تاريخ الصورة، وتركت لأكبر بناتها حنة، التي كانت تجلس بجانبها وتتشبث بذراعها اليمنى، حملاً ثقيلاً، فسيكون عليها أن تترك المدرسة في الخامسة عشرة من عمرها وتتفرغ للطبخ ولتربية إخوتها وأن تعمل بالخياطة خمس سنوات طوال كي لا تغرق سفينة العائلة، وكي يكمل إخوتها تعليمهم ويشقوا طريقهم في الحياة. وكان عليها أن تقدم تضحية هي الأكبر بنظرها، وهي التخلى عن حلمها بأن تكون راهبة تكرس حياتها للمسيح، فكرست حياتها للآخرين. وظلت عانساً بدلاً من أن تكون عروس المسيح الطاهرة وتلبس ثياب العذرية الأبدية البيضاء. أما حبيبة، التي كانت تصغر حنة بثلاث سنوات لكنها أطول من عمرها ومن أختها، فكانت تقف وراءها بالضبط وتضع يديها على كتفي أختها الكبرى كأنها تشكرها مقدماً على كل ما ستفعله. ولم تكن تعرف بعد أنها ستكون في ما بعد من أوائل دفعات الممرضات في العراق، وبأن أول تعيين لها سيكون في السليمانية، في كردستان العراق. سينتقل الأب وبناته إلى تلك المدينة البعيدة كي يكونوا معها وهي تعمل هناك لثلاث سنوات، وبقي الذكور الخمسة في بيت عمهم في بغداد. كان راتب حبيبة يكفي لإعالة الجميع، ولأن يرتاح أبوها -بعد سنين قليلة- من عناء السنين ويظل في البيت بعد الإصابة التي ستُقعده. طلب المصور من غازي وجميل وإلياس وميخائيل، الذين كانت أعمارهم تتدرج من السابعة إلى الرابعة، أن يجلسوا على الأرض تحت أقدام والديهم. كانت هذه هي الصورة الوحيدة التي تجمع العائلة بأكملها. تفرقوا بعدها في أرجاء البيت وأرجاء الدنيا ليظهروا في صور أخرى. غازي سيعمل في ال- «آي بي سي» في كركوك حتى عام ١٩٦١، ثم يعود إلى بغداد بعدها ويعمل مع شركة رابكو للأصباغ، ثم يهاجر إلى ميشيغان عام ١٩٧٩ ويعمل هناك سنين شريكاً في محل، قبل أن يستقر في سان دييغو، كاليفورنيا. جميل سيعمل مع شركة «شاكر إبراهيم وإخوانه»، ثم يسافر إلى بيروت عام ١٩٦٩ بعد أن يُعدموا صديقه بتهمة الماسونية. وسيظل هناك ولن يعود ولا مرة إلى العراق. إلياس كان الوحيد من بين الذكور الذي سيدخل الجامعة، سيدرس الحقوق لكنه سيتورط في السياسة ويدخل السجن مرات. أصغر الذكور ميخائيل، الذي كان المدلل، سيعمل بعد تخرجه من كلية بغداد، مثل يوسف، مترجماً، لكن مع عدة شركات أجنبية، ثم وكيلاً، قبل أن يستقر كمدير تسويق في السفارة الاسترالية عام ١٩٧٧.
|