المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
26/05/2012 06:00 AM GMT
في ظلّ التشتت الذي يهيمن على المشهد العراقيّ، وغياب الرؤية الثقافية والسياسيّة القادرة على إنضاج مشروع فكريّ يقرأ الواقع. يعتقد الكاتب رشيد الخيون ما يحصل في بلاد الرافدين راجع إلى أسباب أو أزمات سياسية، تجسدت في جرائم الماضين وعجز الحاضرين وأخطائهم الشنيعة التي ارتكبوها. ويختلف في قراءته حول ما حدث في البلدان العربية من تحوّلات جذرية عُزيت إلى الشَّاب التونسي محمد بو عزيزي الذي أحرق نفسه. مع أن مثل هذه الحوادث كثيرة، لكنها لا تلهب الجمهور والقول لا زال للخيّون. إذ يرجع الأمر إلى فترة زمنية سابقة تمثلت بسقوط النظام العراقيّ، فمشهد الرئيس الطاغية، والحاكم الضرورة، واختفاء تماثيله وصوره بهذه السرعة، وخروج ذلك الرجل الذي يضرب صورته بحذائه، هذا المشهد كسر الخوف، وفكرة القائد إلى الأبد. صحيح أن النتيجة تأخرت ولكن مثل هذه التحوّلات الكبرى تأخذ وقتها. هكذا، يرى الباحث العراقيّ الدكتور رشيد الخيون الذي أكمل دراسة التعليم والتربية (دبلوم)، والدراسة الجامعية في الفلسفة، والدراسة العليا (الدكتوراه) في الفلسفة الإسلامية. عمل محرراً ثقافياً في جريدة المؤتمر (2000-2003). وباحثاً في تلفزيون الحرة (2004-2005) في قضايا التاريخ العراقي. وأشرف على طلبة الشهادات العليا في مركز الدراسات الإسلامية العالي (الجامعة العالمية للعلوم الإسلامية - لندن)، عضو أمانة مركز الدراسات العراقية - بيروت، وباحث في مركز المسبار للدراسات والبحوث المختص بالحركات الإسلامية المعاصرة بدولة الإمارات العربية المتحدة. يكتب في مجلات عربية عديدة: النهج، المدى، الثقافة الجديدة، العرب السعودية، الديمقراطية المصرية، أدب ونقد المصرية، وأبواب اللبنانية، وكاتب صفحة تراث في مجلة المجلة (2000-2001). له مقال أسبوعيّ في صحيفة الشرق الأوسط والاتحاد الإماراتية، ومجلة الأسبوعية البغدادية.
* هل تعتقد بأنك كاتب تقترب من الواقع أم تكتفي بالتعليق والتنظير على الوثائق إعلاميًا؟ - لم أكن محلّقاً بعيداً عن الواقع في قراءة التُّراث ومحاولة الاستفادة منه؛ أولاً برصد المتشابهات المتكررات من الحوادث والسلوكيات، أجد في العثور على واحدة من المتوافقات تأكيداً على دوراننا حول الماضي، سوى كان حوادثَ أو طقوساً، أو ممارسات سياسية، أو أفكار رافضة، عُوملت وما زالت تُعامل بالتكفير والعنف. في العديد من الأحيان تبهرني أفكار الماضي وممارسات العقلانيين، الذين تحملوا الإقصاء وحُرقت كتبهم أمامهم، ومُثل فيهم وفي نتاجهم الفكري، بينما وصلتنا الكتب الصَّفراء التي ما زلنا نقرأها وفيها ما فيها مِن الحط مِن تلك الأفكار. لقد اندحرت الفلسفة وإشراقات علم الكلام، التي توصلت في القرن الثالث والرابع الهجريين إلى محاولات لاكتشاف الجاذبية، وتميزت رسائل، مَن مازال يوصف بالجحود والخروج عن الملّة، بالليبرالية الثقافية والفكرية، فهل هناك شك في ما ذهب إليه إخوان الصفا وخلان الوفا عندما قدموا أنفسهم بأنهم يقرأون كل كتاب وينفتحون على كل مذهب! لم يكن ارتباطي بالتراث، وعلى وجه الخصوص التراث الإسلامي منه، رغبة عابرة، بقدر ما تحول عندي إلى فعل ثقافي ووجداني، يُفسر لي مبهمات الحاضر، ويسعدني ويحميني من وحشة الحاضر ومسببات الاكتئاب. يقول لي: ليس هناك جديد سوى في المسميات، فمنطقتنا عُقرت ولم تلد شيئاً ذا أهمية، لأنها حُجبت بالفكر الديني المتدني، الذي لم يكتف بالعبادة والمعاملة إنما تحول إلى سياسة وقيادة مجتمعات، وحتى الأحزاب والحُكام المتنورين، إن صحت التسمية، تراها مِن أجل إدامة السُّلطة والسَّيطرة على الأوضاع تلجأ إلى الدين وتنافق في تطبيقاته المشوهة، بدلاً من الحلول الجذرية في نواحي الاقتصاد والاجتماع. لقد ضُحك علينا كثيراً، وما زال بعض المثقفين، الذين عدوا أنفسهم بالكبار ووجدوا مَن يلتف حول رقاهم، يضحكون علينا بالمعاصرة والأصالة وما بينهما مِن تماه مختلق. بينما الحقيقة أننا ما زلنا ننبهر بفكر المعتزلة وإخوان الصفا والفارابي وابن سينا وغيرهم لأن حاضرنا عاقر لا يلد، واسمع بتنظيرات ترمى على عواهنها: بأن اللغة العربية ستضمحل، وأن العرب سيضمحلون. لست قومياً، بل على العكس أنا نشأت ضد التعصب القومي تماماً، لكن كم تبدو تلك التنظيرات مضحكة، فمن جهة يجري الحديث عن أصالة الأصالة وتماهيها مع الحداثة، ولما انكشف المستور جاء القول: العرب في طريقهم إلى الانقراض. أقصد هناك كم في حاضرنا من أكاذيب وأقاويل، أصحابها أضروا كثيراً بالتراث وبقراءتهم له، وبنوا سمعتهم الفارغة على حسابه. أحاول أن أكون غير ذلك، اكتفي بنقل المعلومة وابتعد عن التنظير، فقد وجدت التراث واضحاً يحيله التنظير إلى غموض، وأقاويل لا تعكس حقيقته. فعلى سبيل المثال أن أحدهم قدم قراءة لكتاب "الملل والنحل" لأبي الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني، المتوفى السنة 548 هـ، لكنه حول الشهرستاني إلى فيلسوف، وأنطقه بما لا ينطق، بينما الكتاب واضح، وهو ببساطة تاريخ للملل والنحل، لم يخرج الشهرستاني عن أشعريته. لكن طلب التفرد ولعب دور المكتشف هناك مَن جعله إسماعيلياً، وهذا كله يدخل بعمى التنظير. * لو دخلنا في مقاربة تاريخية/ اجتماعية كيف يبدو المشهد العراقي عندك؟ كيف تنظر لهذه الأزمات المتناسلة: (الفساد، البطالة، الأرامل، المحاصصة) ما هو تقييمك لأداء الحكومة؟ - لا أقول إن أسبابها فكرية وحضارية، إنما هي مجرد أزمات سياسية، سواء تجسدت في أخطاء وجرائم الماضين أم في عجز الحاضرين وأخطائهم الشنيعة. السياسة غير الرشيدة تبذر الثروة وتبذير الثروة يؤدي إلى وجود اقتصاد منهار ومجتمع كسيح. على اعتبار، حسب ما أعتقد، أن العامل الفكري والحضاري للنهضة موجود، وله ظهير متين، سواء كان في الثروة المادية أو الطاقات العقلية، لكن الإخفاق السياسي يمنع من النهوض بل يساعد على الكبوة بعد الكبوة. ستسألني، وبم تفسر هذا المشهد المريع من الانحطاط في العقل العراقي الجمعي؟! أجيبك هو سياسي أيضاً، فالقوى التي هيمنت لا تريد الخروج مِن دائرة هذا المشهد، لأنه سبب وجودها وإدامتها، بل هو الذي يحقق لها تطبيق أيديولوجيتها في التخلف والانحطاط. أقول مطمئناً: إن الإصلاح السياسي، والاتفاق على حكومة تنكنوقراط، وحلّ المشاكل العالقة كفيل بالحلّ، والمجتمع العراقي الذي تراه في أسوأ حالاته بدأ ينتقد المقدسات الفارغة، ويُسمَّي العمامة بــ (الدِّش، طبق لاقط)، وهي سخرية ما بعدها سخرية. أما الفساد والبطالة والأرامل والمحاصصة فهي مظاهر للإخفاق السياسي، ووجود قوى تحاول بأنانية المحافظة على تلك المظاهر، لأن وجودها يبقي الناس في غفلة عنها. * ثمة من يقول: الآن دولة الثقافة والعلم ودولنا السابقة بُنيت على الأيدولوجيات المستورة والطاردة لحرية الإنسان ومن ضمنها المؤسسة الدينية؟ ما هو تعليقك؟ - لا شك أن الدَّولة السَّابقة بنيت على الإيديولوجية وعلى القسوة، لكنها الإيديولوجية الرثة أو الغبية، إن صحت العبارة، فدول عديدة شيدت على الأفكار والعقائد وكانت خالية من الليبرالية بشكل من الأشكال، لكنها لم تغامر بحروب وتستعدي على شعبها دول العالم، وتبني القصور في زمن توزع الدقيق على محكوميها بالبطاقة الشخصية، زيادة في ذلهم، حتى صار الحرمان من البطاقة التموينية يعادل عقوبة الإعدام. كذلك، يكذب مَنْ يقول أن البديل الذي نشأ هو دولة العلم والثقافة، فمثلما تقوم القوى المهيمنة طاردة للعلم والثقافة، اذ انها لا تجيد غير إدارة المسجد أو الحسينية، فعند وجودها في دول الغرب المتطور كان أقصى ما تسعى إليه هو أربعة حيطان تجعلها مسجداً، وأغلبها على هيئة مسجد ضِرار المعروف. فهي أرادت عبادة الله في المكان الذي تحدده هي، إلا أن الله معبود قبل أن يكونوا، لكنها بضاعة رائجة، وبعد الوصول إلى السلطة احتفظت بالمسعى نفسه، لأنها لا تمتلك غيره. فتصور أن أحدهم ظلّ مدنياً حتى جاء إلى بريطانيا واعتمر العمامة(الدِّش) فيها، بعد قراءة قصيرة في حوزة دينية، هذا الآن يترأس أعرق جامعة في تاريخ العراق. رأيت أحدهم يغلف عمامته بقطعة نايلون لأنه لا يقوى على خلعها وسط الأجواء الممطرة. أما المؤسسة الدينية التقليدية، كالمرجعية الدينية، فلم تنافق، وأنا لم أنافقها في قولي هذا، هي هكذا من فجر تاريخها قبل أكثر من ألف عام، لكن وجدت نفسها في مأزق احتلال والفوضى، وإلحاح قوى الإسلام السياسي التي استغلتها مثلما تستغل الدين نفسه. أراها الآن تيقظت وامتنعت عن استقبالهم ودعمهم، بعد أن أشار الناس إليها باللوم. فالشاعر يقول: ومَن يربط الكلب العقور ببابه/ فعقر جميع الناس من رابط الكلب. التأثير العراقي *كيف تقرأ ما حصل من تطورات جذرية وسريعة في منطقتنا العربية؟ وكيف سينعكس على العراق؟ - ربَّما اختلفت رؤيتي في رصد أسباب هذه التطورات، فقد عُزيت الشَّرارة الأُولى إلى الشَّاب التونسي بو عزيزي، عندما حرق نفسه وخرج الجمهور، مع أن مثل هذه الحوادث كثيرات، لكنها لا تلهب الجمهور بهذا الإصرار على إسقاط حكامه. أرى أن سقوط النظام العراقي بهذه الكارثية هو المحفز والمؤهل، فمشهد رئيس طاغية، وحاكم ضرورة، واختفاء تماثيله وصوره بهذه السرعة، وخروج ذلك الرجل الذي أخذ يضرب صورته بحذائه، بالمشهد المشهور، كسر الخوف، وكسر فكرة القائد إلى الأبد. صحيح أن النتيجة تأخرت ولكن مثل هذه التحولات الكبرى تأخذ وقتها. لكن هذا التأثير العراقي في البلدان الأُخرى سيعود للتأثير في الداخل العراقي من جديد، فالمنجز لم يتحقق والحلم بدولة آمنة ورخاء مازال مطلباً شعبياً قوياً. فلا يعتقدون أن الديموقراطية حامية للمناصب والفساد والنهب بالمال العام وظلم الناس باسمها وباسم الدين، إنما في لحظات يكفر الناس بالديموقراطية. فإذا علمنا أن هناك في مأثور الكلام: "لولا الخبز لما عُبد الله"، وفي مأثور الكلام أيضاً: "لو أن الله حبس عن النَّاس القَطر سبع سنوات ثم أرسله لأصبحت طائفة به كافرين"! وهذا هو الله، فماذا يكون هؤلاء وقد طال أمدهم وبعد شهور سيبلغ عشر سنوات عجاف، ألا يكفر الناس بديمقراطيتهم؟! للأسف لم ينجز إسقاط نظامنا إلا بحرب اجتياح وهو فرض أميركي، وإلا كان يمكن للنظام أن يتهاوى بلا حرب لو فعل الأمريكان والغربيون ما فعلوه مع مصر وليبيا وتونس، لكنها إرادة أميركية جعلت العراق يتعرض إلى تجربة قاسية. * من وجهة نظرك أيّ نموذج للحكم يصلح لبلد كالعراق؟ ما هي المشكلة الفعلية في العراق إدارية أم سياسية أم اجتماعية؟ - باختصار النموذج العلماني أي المدني لا الديني. مع توقعي أن القوى الدينية تحسب سنوات الحكم البعثي على العلمانية، بينما العلمانية بعبارة واحدة هي فصل الدين عن الدولة، وهي كلمة متداولة في شرقنا القديم، فعلما مفردة سريانية، وهي لغة ما زالت حية بالعراق، وتعني: الخلق أو الناس أو الدنيا. مع علمنا أن النظام طبق الحملة الإيمانية وأدخل الدين في مفاصل الحياة عامة، وباختصار أيضاً مشكلة العراق سياسية مثلما تقدم. * ألا تعتقد أن كوردستان تعيش لحظات ذهبية انتظرتها لسنوات؟ وقد بدا واضحًا بأنهم يفكرون في اللعب بأوراق مع حكومة المركز؟ - لا يُحسب الأمر باستفادة مكونات، أو جماعات أو طوائف، فبعد أن كان الكلّ مشتركا في التعرض للمأساة، عمت الفائدة الجميع، وقد لا يقبل البعض بهذا التوصيف على أساس أن زوال النِّظام السابق جاء بمأساة، وهي حال العنف التي عاشها الشعب العِراقي. حسب عقيدة الطائفيين أن الشيعة استفادوا من زوال النظام السُّني، وأن السُّنة خسروا الحكم، لا أجد في هذا الحكم صحة أو حكمة، فالنَّظام السَّابق لم يكن سُنياً مثلما ليس النِّظام الجديد شيعياً. فلو دققت في الحال تجد الجميع استفاد والجميع تعرض لمأساة جديدة، فالشيعي الآن ليس بأفضل حال مِن السُّني والسُّني لم يكن بأفضل حال من الشِّيعي في النِّظام السابق. الطائفة لا تحكم إنما الأشخاص والأحزاب يحكمون باسمها، ولم يكن وجود الشيعة في حزب البعث قليلاً، مثلما ليس القتلى من السُّنة بيد النِّظام السابق كانوا قليلين، بل القتلى من البعثيين بين نظام البعث ليس بالعدد القليل. أما الكُرد فالحال مختلفة معهم، فقد تخلصت مناطقهم من قبضة النظام السابق بأكثر من عشرة أعوام، ومارسوا الديمقراطية قبل مناطق العراق الأُخر، وإن كانت ومازالت فيها السيطرة للأحزاب التقليدية الكُردية، كذلك لم يخضعوا للحصار فمحافظاتهم (الإقليم) كانت خارج تأثير الحصار، ذلك الحصار الذي حول العقل العراقي إلى تراب، هنا تبدو الاستفادة واضحة عليهم. إلى جانب أن التأثير الديني خفيف الوطأة هناك، بينما يشتد وما زال في مناطق بقية العراق. لقد خلت مناطقهم من الميليشيات، ومِن ورجال الدِّين والرايات الدينية غير المنطقية. ولولا الكُرد لأعلن العراق دولة دينية، فالإسلام السياسي كافة، السنّي والشيعي، ينزع إلى إخضاع الدَّولة للمسجد والحسينية، اعتقاداً منه او مسايرة للفكر السائد، أو ما أسميه بهزيمة العقل، التي أخذت تنسحب ولكن بخطوات غير ملحوظة. أما ما عبرت عنه باللعب بالأوراق فالجميع يلعب، ولم يظهر مَن يلعب لصالح العراق، الكلِّ يلعب فئوياً بما فيهم الكرد. لكن على ما اعتقد أن الضمائر ستصحو والعقول ستدرك أن الكل يتضرر بضرر العِراق، العراق الواحد. * تميل دائًما في قراءتك للتراث إلى الوسطية، برأيك كيف يمكن صوغ حالة وسطية إذا كان السياسي يستدعي الانقسام لتحقيق أهدافه؟ - لست كائناً سياسياً، ولم أقرأ التراث قراءة سياسة، بمعنى لم انطلق من تجربة سياسية في قراءته، إنما أقرأه بمجموعه السياسي والاجتماعي والفكري حباً به وغراماً، وكثيراً ما أعثر على ما استشهد به لتأكيد الوسطية في الدين وفي العلاقات الاجتماعية. أبحث فيه كمَن يبحث عن ذرة ذهب في ساحل من الرِّمال، عن التآلف الاجتماعي بين أهل الأديان، وعلى وجه الخصوص بعد الكوارث التي تعرضت لها مختلف فئات المجتمع العراقي بسبب انتمائهم الديني أو المذهبي، ولهذا أزعم أني أرغب بحالة وسطية، وبالفعل أتتني ردود أفعال إيجابية ومِن شباب داخل العراق. أما السياسي فله مقاصده ولي مقاصدي، وهو في حالة انتمائه الديني أو القومي المتشدد لا ينزع بمكان إلى الوسطية بل يسعى إلى قمعي بما لديه مِن وسائل، والوسطية بحاجة إلى كافة على مستوى من النزاهة. ولمحمد مهدي الجواهري، شعر في العام 1929: ستبقى طويلاً هذه الأزمات/ إذا لم تُقصر عمرها الصَّدمات/ إذا لم ينلها مصلحون بواسل/ جريئون في ما يدعون كفاة. لا قصد نفسي في هذا الاستشهاد أتمنى هذا للسياسيين فهم الفاعلون. الاسلام السياسي * هل تعتقد أن مشروع الأحزاب الإسلامية في العراق نجح أم أنه فشل في أول اختبار حقيقي؟ وهل تملك الأحزاب فكرًا واضحًا لبناء دولة؟ وكيف لنا فكّ هذا الترابط بين العقل الديني (عقلية النّص) والدولة بمعناها الحديث؟ * لست أنا الذي أقول لم ينجح الإسلام السياسي، بل ما حصل وتحقق يصرخ بأنه فشل فشلاً ذريعاً، ولولا الطائفية والمحاصصة ما وصل منهم هذا العدد إلى البرلمان العراقي. دليل آخر على فشلهم هو هروبهم من أسمائهم وعناوين منظماتهم وأحزابهم، فلو نجحوا كإسلاميين لقدموا أنفسهم للجمهور بعناوينهم. فنجد حزب الدعوة الإسلامية لاذ بعنوان دولة القانون، وإخوان المسلمين أي الحزب الإسلامي، لاذ بعنوان: كتلة الوفاق، وآخرون لاذوا بعناوين وطنية لا دينية، أليس في هذا هروب من عناوينهم واعتراف بالفشل وهم يقدمون أنفسهم تحت راياتها ويطبقون شعارتها. لا يفك هذا الارتباط إلا بالدولة المدنية، وعزل المسجد عن السلطة، مع أن التطبيقات الدينية الحاصلة سطحية إلى حد بعيد، تجد العديد منها في الحملة الإيمانية التي أطلقها النظام السابق 1994، ومنها التضييق على المرأة، وليس لي علم هل أن وجود الوصاية على المرأة في استمارة جواز السفر ومعاملتها أسوة بالقاصر هو بقايا تلك الحملة أم فرض جديد. من الصعب أن تحقق دولة حديثة، مثلما يدعون، ديموقراطية مع هيمنة النص الديني. * تصرح في حواراتك: بأن العلمانية موجودة في القرآن والسنة النبوية الشريفة، هل تعتقد بأن المجتمع العراقي (بما في ذلك المؤسسة الدينية التي تؤثر في الوعي الجمعي) مستعد لطرح هذه الأفكار؟ - أقتبس لك شيئاً من كُتيبي "رسالة العلمانية والخلافة: " لا أضع العلمانية مقابل الإسلام الدين، مثلما يضعها خصومها، أما محلها الصحيح فهو مقابل الإسلام السياسي الحزبي، فيمكن ما يقابل الدين، وما ظهر من نظريات أو فرضيات علمية، هو العِلم (كسر العين)، ومنه تكون العِلمانية (كسر العين). لا يهم أن تسمى الدولة اللادينية بغير العلمانية، إذا كان هناك مَنْ يتحسس ويجفل من هذا الاسم أو المصطلح، مع أنه يعني ان توكل إدارة العَالم أو الدُّنيا الى أهل كل زمان، او الدولة المدنية مثلاً، لكن الخلاف على ما يبدو ليس في التسمية إنما في المضمون، وهو فصل الدولة عن الدين، وبالتالي فصل السياسة الحزبية عن الدين، إذا كان هدف كل حزب الوصول إلى السلطة". نعم، في القرآن الكريم أكثر من مائة آية تؤكد على العلمانية، ولنسمها المدنية، أي الحكم الدنيوي، منها آيات البلاغ، مثل: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبلاغُ الْمُبِينُ﴾(النَّحل: آية 82). وآيات التذكير والإنذار، مثل: ﴿فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ﴾(النَّمل، آية: 92). وآيات الحفظ: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ (النَّساء، آية: 80). وآيات الوكالة: ﴿وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ﴾(الأنعام، آية: 108). وآيات نفي الإكراه: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾(يونس، آية: 99). وأعتقد ليس هناك أوضح من الحديث النبوي الآتي على صحة الدولة المدنية: «وإذا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ فَلا تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَلا ذِمَّةَ نَبِيِّهِ وَلَكِنْ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ وَذِمَّةَ أَصْحَابِكَ فَإِنَّكُمْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ". والحديث مشهور أيضاً: "قَالَ أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُم". في حدود التعامل مع المصطلح (العلمانية أو المدنية) المجتمع العراقي مستعد تدريجياً، وهناك علماء دين يقرونها في قولهم بفصل الدين عن الدولة بل وعن السِّياسة. الدولة المقبلة * ما هو الشكل المتوقع لهُوية الدولة العراقيّة القادمة، هل هو علماني أم ديني بثوب جديد؟ هل هو مزيج منهما (الديعلمانية) مثلًا؟! - دولة مدنية، فالسعي من أجلها جارٍ، على ان يبقى الدين ضمن التشريعات والأحكام، بما يتلاءم مع روح العصر. أرى القوى الدينية نفسها مستقبلاً تتحرر من الإيديولوجيا والطائفية، فهي بصورتها الحالية تدعم الطائفية وتعرقل تقدم الدولة والمجتمع، على الخصوص بعد ممارستها السلطة، وبهذا لن يحالفها الحظ في المستقبل، أعني انها لا تتجاوب مع نهضة المجتمع القادمة عاجلاً أم آجلاً. * هل تعتقد أن الصراع المذهبي بدأ يتحول إلى صراع بين فضائيات تدعمها أجندات خارجيّة، هل نحن في زمن الفقيه الفضائي؟ - يمكن أن تكون التسمية صحيحة، إلى حد ما، لكن الفضائيات عبارة عن مكبرات صوت الهامسين لا أكثر، ومقدمو البرامج يلعبون فيها دور المؤذنين، وبالفعل أحد مقدمي البرامج الكريهة التي تدعم الإسلام السياسي، في محطة معروفة، كان مؤذناً وتدرج إلى رتبة مذيع ومقدم برنامج. بينما الصراع في حقيقته سياسي لاطائفي إنما يُلبس ثوب الطائفية تمشياً مع حالة الانفعال ولحشد الجموع، فهو عامل مؤثر عند توظيفه واستخدامه. * هل يملك العراق مشروعًا ديموقراطيًا فعليًا؟ وكيف يمكن تأسيس نموذج ديمقراطي إذا كانت الأحزاب الإسلامية لا تؤمن بوجود ديموقراطية؟ - لا أستطيع تحديد معالم المشروع بقدر ما أستطيع القول انه مطلب وحاجة. بدأت جماعات من العراقيين تجميع نفسها في تيار عُرف بالتيار الديموقراطي، بين مختلف طبقات الناس، ومِن الإسلاميين الذين وجدوا في العلمانية الطريق الصحيح لبناء العراق، كونها تضمن حرية العقائد والأديان على اختلافها. فليس هناك حرية للمسلمين، على اختلاف المذاهب، مثلما هو الحال بالبلدان الأوروبية. أما إيمان الأحزاب الإسلامية بالديموقراطية فمعلن لساناً لا قلباً، فهي تقرها مازالت لصالحها، أي تحملها إلى سدة الحكم واسلمة المجتمع، وإلا فإن في تاريخ هذه الأحزاب لا توجد مفردة اسمها الديموقراطية، وهذا ليس تجنياً عليها، إنما زعماؤها اعترفوا بذلك. ولا يفوتني القول: إن الديموقراطية مشروع يستغرق زمناً طويلاً لنجاحه؛ تجري فيه تحولات اجتماعية جذرية، فهي ليست عملاً سياسياً فحسب إنما سلوك اجتماعي، تبدأ من المدرسة والدار إلى قمة السلطة. وما يجري الآن من دورات انتخابية هي بمثابة (بروفات) أو تمرين لتحقيق ذلك المطلب. * بدأ كثير من المثقفين العراقيين التخندق ضمن أطر طائفية ضيقة، لماذا أصبح المثقف مفعولاً به؟ هل هناك حراك ثقافي قادر على إنضاج أطروحة فكرية جديدة تعيد تشكيل الواقع؟ - أجد في هذا الوصف الكثير مبالغة، فهناك مَن كتب عن هذه الظاهرة وانتقدها، لكني اعترف بوجود مثقفين كان سلوكهم الطائفي مفاجأة لنا للأسف، ومع ذلك أجدهم سقطوا تحت تأثير سرعان ما يفيقون منه. ليس هناك أطاريح فكرية فزمنها انتهى، إنما هناك حراك ثقافي في الأدب والفن والبحث ومجالات الثقافة الأُخرى، أهم ما يحتاجه هذا الحراك هو حرية وليبرالية، لكن بوجود القوى الدينية والجماعات المسلحة يبدو هذا الحراك مقيداً، يضاف إلى ذلك ان هناك وزارة ثقافة مشلولة بالمحاصصة والقوى الفاسدة، حتى عجزت عن اقامة معرض كتاب ببغداد أم الوراقة والوراقين.
|