الاحتلال وفن صناعة العنف في العراق

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
12/04/2012 06:00 AM
GMT



لم يكن تهديم البنى الاجتماعية، وتمزيق روابط وأنسجة المجتمع المادية والروحية، وتخريب بناء الدولة وتعطيل وظائفها التقليدية، محض إجراء سياسي وإداري احترازي قام به المحتلون.  لقد أثبتت الأحداث انه كان عاملا حاسما من عوامل إطلاق طاقات العنف، ثم تحولها الى قوة ضاربة، عظيمة الجبروت، سرت سريان النار في الهشيم، فاقت - لسرعتها ووحشيتها - توقعات وحسابات قوات الاحتلال نفسها. أمام هذا الواقع المظلم الجديد، الذي شق طريقه من تحت رماد الانهيار العسكري والسياسي المفاجئ، أضحت كلمات بوش عن انتهاء العمليات القتالية، بعد ستة أشهر من الغزو، خرافة تافهة.
 إن خلخلة أسس مجتمع ذي بنية تعبوية مسلحة، محمّل بأمراض وأعصبة الحروب، وإلقاء ألوف البشر خارج نطاق الفعالية الاجتماعية، وإخراجهم قسرا من دورة الحياة اليومية، في ظل تبدل الأدوار الاجتماعية والسياسية العنيفة، وفي ظل فراغ حزبي وتنظيمي غير مسبوق، خلق مفقّسات عنفية فاعلة، استطاعت الانفلات من الحدود التي صممها لها منظرو عملية الغزو. الغاية الأساسية لهذه المولدات العنفية النشيطة هي رسم حدود الخريطة الطائفية والعرقية والمناطقية ذاتيا، في ظل تحطم القوة المحتكرة للعنف الرسمي: الدولة وقواتها المسلحة. بهذا الإجراء الجراحي القاتل أراد مخططو الحرب ابتكار  ضابط تنظيمي داخلي، يعمل ناظما لمعادلات التوازن الإجتماعي. أي أرادوا استحداث منظومة عنفية جديدة، ذاتية التوليد والحركة، تسهل وتسوغ عملية تمرير مشروع بناء عراق مصنوع، تركيبي البنية، يتم تحريكه سياسيا من الخارج وفق قواعد تنظيمية وحسابية، كما تحرك أدراج المكاتب وجواريرها. بيد أن تلك المغامرة المهلكة لم تأخذ بنظر الاعتبار الطبيعة التراكمية لقانون العنف، والآثار السلبية نفسيا واجتماعيا لعمليات تدمير المجتمع، التي قادها الطاغية السابق بانسجام تام مع منافسه الأكبر: قادة الولايات المتحدة الأميركية ومن تحالف معهم. لقد أدى هذا الاختلال في المعادلة النفسية الاجتماعية السياسية الى نشوء مفاجآت عسكرية، استثمرت بشكل فعال وسريع قوانين فوضى الحرية لصالح الخزين العنفي المحلي، فقلبت كل التوقعات. لقد تناسلت القوى العنفية، التي تلقت صدمة تغيير الأدوار المفاجئ ، تناسلا فوضويا عارما، لم يُمكّن حتى صانعيه أو مخططيه من التحكم به والسيطرة عليه، إلا بمشقة، بعد خسائر جسيمة. وهذا يعني أن تطوير فعالية تناقض اجتماعي ما، من دون حساب لخصوصية الواقع التاريخي لمجتمع معقد كالمجتمع العراقي، قاد الى خلق تناقض آخر، فرعي، غير محسوب وغير منظور ومتوقع، تمكن من التحول الى تناقض رئيسي، في ظروف تفكك مركزية النظام السابق، وبطء وتعثر قيام سلطة توحيدية جامعة، بديلة.
لقد طرحت أفكار كثيرة حول حل الجيش العراقي منها فكرة رامسفلد وبريمر، المسؤولين المباشرين عن قرار الحل، القائلة بأن الجيش حل نفسه بنفسه. وهي فكرة سقيمة الى حد يشعر من يناقشها بالاشمئزار، لأن هؤلاء الأنفار تحملوا مسؤولية قيادة وتدمير شعب كامل. إن الجيش العراقي هو المؤسسة الأكثر تشربا بالتراتبية والضبط والمقدرة على تحمل الأعباء الجسيمة، بصرف النظر عن انتمائه السياسي أو العرقي والطائفي. وهو في تسلسله الحكومي، عدا القوات الخاصة، يشبه مؤسسات الحكم المختلفة: الصحة والتعليم والزراعة وغيرها، يتبع جهازا أعلى حكوميا هو وزارة الدفاع. لذلك فإن هروب القوات عند دخول الأميركان يشبه هروب موظفي الدولة الآخرين، يقتضي إرجاعهم بطريقة مماثلة، من طريق دعودتهم للالتحاق بوحداتهم، وليس بقرار حلهم وإعفائهم من الخدمة. هذه الحقيقة البسيطة تلقي الضوء على أن النيات كانت أكثر خطورة، وأكثر خبثا إذا جاز لنا القول، مما يعتقده كثيرون. هناك أسباب خارجية تتعلق بإسرائيل، وأسباب عرقية تتعلق بالقيادات الكردية، ومشروع بايدن. وقد اعترف رامسفلد في مذكراته بضغط القوى الطائفية والعرقية في هذا الشأن، وأراد تحميل بريمر مسؤولية قرار حل الجيش، لكنه أثبت من حيث لا يدري أنهم جميعا كانوا مسؤولين عن اتخاذه. ولكن الجانب الأخطر الذي لم يدركه أحد حتى الآن هو أن الخلافات بين القيادات الأميركية وعدم وجود برنامج لما بعد الحرب، واستهانتهم بالمجتمع العراقي، واعتمادهم محليا على رجال يحتقرونهم، يقول بريمر عنهم  " لا يستطيعون قيادة تظاهرة، فكيف يقودون بلادا". قاد ذلك الى نشوء عدد من الجيوش العراقية، معترف بها رسميا، ولكن بسلطات ومهمات وقيادات مختلفة، واحد يتبع بريمر اسمه القوات الوطنية العراقية المسلحة، وآخر يتبع سانشز وأبي زيد اسمه "قوات الدفاع المدني العراقي"، وثالث يتبع جهاز المخابرات، وهو جهاز مستقل يضم جهاز الاستخبارات القديم بكل طواقمه: شعبة ايران، اسرائيل،  الدول العربية، أوروبا، المعسكر الاشتراكي، أميركا، حركات التحرر، آسيا وأفريقيا وغيرها، ورابع يتبع القطاع الخاص (عصابات المتعاقدين)، وخامس يتبع القادة المحليين (الحمايات الشخصية)، وسادس اسمه البيشمركة، وسابع اسمه الصحوات. وطبقا للقوانين الأميركية تولت وزارة الخارجية مسؤولية تأسيس قوة عسكرية ثامنة هي الشرطة العراقية. وكلها قوات لها حق التحرك والنشاط وممارسة الأعمال العسكرية، منفردة أوبصورة مشتركة، بطريقة قانونية وشرعية، ينفق عليها تسليحا وتدريبا وإدارة  من موارد الشعب العراقي.
 كانت الخطة الأساسية الداخلية وراء حل الجيش العراقي، هي إعادة ترسيم الحدود الطائفية العرقية ذاتيا، من طريق العنف الداخلي. وقد اقتضت الخطة منح المجتمع العراقي فرصة تاريخية فريدة لإطلاق مخزوناته العنفية بصورة مذهبية وعرقية، منظمة ومرشّدة مركزيا من قبل قوات الاحتلال. فعلي أنقاض الجيش، القوة التقليدية الحاسمة في الحياة السياسية العراقية،  جرى إيجاد بديل محلي داخلي، ذاتي الحركة، يقوم بدور صانع وحافظ التوازن المناطقي الطائفي، ويعمل على تنقية الأماكن المختلطة طائفيا، ويرسم الحدود النفسية والجغرافية والسياسية بطريقة طبيعية، من طريق التهجير والتطهير العرقي، وصولا الى رسم خريطة توازن الطوائف جغرافيا وعرقيا ومذهبيا وعسكريا، وحتى ثقافيا. كانت المهمة ايجاد شحنات تشغيلية ذاتية الطاقة والحركة، تستطيع ادارة نفسها بنفسها، متحركة صعودا وهبوطا بحركة لولبية، غير قابلة للكسر أو التفريغ. وقد شكّل مشروع بايدن عراقيا، مدعوما بفكرة الشرق الأوسط الجديد إقليميا،  الجانب النظري والسياسي لهذا المخطط. أما القوة العسكرية والجيش الأميركي، مدعومة بالميليشيات المتصارعة، فتمثل جانبه الأرضي الميداني. ويمثل خبراء الإرهاب الدولي: نغروبونتي، زلماي، بريمر، رايس، شركات المتعاقدين، جانبه العملياتي الإداري والتنفيذي القيادي. وتمثل الاجراءات السياسية : الدستور المشوه، والانتخابات الطائفية العرقية المناطقية، وتحاصص مجلس النواب والحكومة، وقوانين الفوضى الاعلامية والاقتصادية  وما رافقها من نهب منهاجي وعلني للثروة الوطنية، الجانب التطبيقي والتشريعي الإجرائي. أما المهام التعبوية المباشرة فقد أوكلت الى بعض عناصر القاعدة والتنظيمات التكفيرية، التي تم اجتذابها، من طريق فتح ممرات داخلية وخارجية آمنة ومحددة لها، وحصر ومراقبة مواقع استضافاتها، لكي تتم السيطرة عليها لاحقا بعد اتمام عملية الاصطفاء النوعي الطبيعي عنفيا. لكن المفاجأة التي وقع فيها الأميركان هي دخول عناصر- من الطرفين السني والشيعي،  ومن  الطرف الكردي-  أرادت أن تسير بعملية التصفية والاصطفاء النوعي، أبعد ( في حسابات التكفيريين، وأسرع في حسابات العرقيين) من حدود رسم خريطة التقسيم النظري (بايدن). كانت الطاقات العنفية المختزنة في هذه المشغلات أكثر ضراوة مما توقع النظريون، فقادت الى انفلات مسارات العنف، وراحت تكتسب خصائص متنوعة: إرهابية خالصة، وطنية مقاومة، مصلحية تحاصصية، انتقامية وردود أفعال، حماية ذاتية، قتل عبثي استعراضي، أعمال مختلطة الدوافع، وغيرها من فنون العنف. وفي أحوال كثيرة اختلطت بواعث العنف ببعضها وتقاطعت أيضا، نظرا لتشابك عناصر الواقع وشدة الخلخلة التي أحدثها إسقاط سلطة محلية بالغزو الأجنبي. لكن نتائج الواقع العنفي، في نهاية المطاف، ظلت تؤشر ايجابيا  لمصلحة من يدير، من أعلى، موازين الحركة ونتائجها المتحققة على الأرض.
تداخل التناقضات ببعضها- تناقضات الأفراد والكتل والطوائف والأعراق والمهمات الجماعية والأدوار الفردية - قاد الى تداخل مواقع العنف في العراق تداخلا يفوق حدود الخيال. ولم يتوقف الأمر عند كشف ارتباط نائب رئيس الجمهورية، ذي التوجه الأخواني الصاعد قوميا،  بدورة العنف حسب (سُجلت على حماياته 150  عملية إرهابية). لقد كشفت حادثة تفجير مرآب مجلس النواب عام 2011 عن أن حمايات النواب يتبادلون الأدوار العنفية. فلم يعد غريبا أن يستغل رجل الحماية الشيعي هويته الأمنية والطائفية لصالح إرهابيين سنّة، وبالعكس. لقد جرى تعويم الجانب السياسي للعنف، وصار لدى ممارسيه  عملية صيرفية خالصة، تقترب في تجردها الايديولوجي من أسهم البورصة. كشفت حادثة مقتل رجل حماية تابع للنائب جعفر الموسوي عن أسرار مروعة تتعلق بفن صناعة العنف وسبل بيع وشراء جرعات القتل. والموسوي هو رئيس هيئة الادعاء العام في محاكمة صدام، ورئيس اللجنة القانونية في هيئة اجتثاث البعث المعينة من قبل بريمر، وهو الوسيط القانوني لشركة بلاك ووتر في مواجهة عوائل الضحايا. ينتمي سياسيا الى تيار شيعي هو حزب الفضيلة، ويُعتقد انه بعثي سابق. هذا التداخل الشخصي بين القانون والإرهاب والسياسة والاستهانة بالمجتمع والفساد المادي والروحي، هو الصورة النموذجية المثلى للحياة السياسية الجديدة.
المناقلات الميدانية، وتغيير مواقع الحاضنات، وتعديل مسارات الممرات الآمنة، لم تعد سرا. فقد اعترفت بها الحكومة العراقية رسميا على لسان نائب وزير داخليتها. في أفغانستان صارت تنقلات بؤر القاعدة الرئيسية جزءا طبيعيا من المشهد الحربي المتحرك. إن حدود المناقلات في بورصة أفغانستان العنفية  تمتد من مزار شريف وهيرات الى عمق الأراضي الباكستانية. في العراق كونت الفلوجة أكبر وأسرع وأخطر الحاضنات، التي تناسلت بسرعة مخيفة، فاقت توقعات المحتلين والسياسيين العراقيين وأذهلتهم. لقد خرجت الفلوجة سريعا من حدود السيطرة،  نظرا لاتحاد عوامل كثيرة، بعضها يعود الى شدة استهتار سياسة الاحتلال واستهانتها بحياة المواطن والمجتمع العراقي، والبعض الآخر يعود الى مقدرة الواقع العراقي على الرد العنفيّ التلقائي وعلى إنتاج دفاعاته الذاتية الملائمة، السوية وطنيا أوالخاطئة على حد سواء. فالعراق، مثل أفغانستان، مجتمع يتميز بامتلاك خبرات ومقدرات عالية على توليد العنف واتخاذه سبيلا للمقاومة، أو طريقا للحوار وتبادل المصالح والابتزاز. المناقلات الميدانية، أوالهجرة العنفية المعاكسة، التي نشطت قبيل الانسحاب الأميركي من العراق باتجاه سورية، عبر ممرات كردية، وسنيّة قبيلية وحزبية، أشبهت حركة العبور بين تونس ومصر وليبيا. ولكن، من دون أن تبرز الحاجة  الى استخدام "القاعدة" في تقرير صناعة المناخ السياسي المتعلق بتقاسم السلطة الليبية تحديدا، حتى الآن. لكن بصمات "القاعدة" العنيفة قد تغدو شحنات ضرورة ملحة، في الواقع الليبي، في حالتين: انسداد طرق اقتسام السلطة، أو الحاجة المحلية والدولية الى تصدير العنف. أما  اليمن المعزولة جغرافيا فتمت المناقلات الميدانية فيها وعمليات فتح المعابر محليا، بالتوافق مع حركتي المد والجزر بين الجيش والقبائل ومقدار تماسك أهداف و تحالفات المعارضة، الجنوبية خاصة. فقد سايرت حركة تنظيم "القاعدة" تقلبات التوازن السياسي واتجاهاته، راسمة خريطة متحركة، تتنقل فيها ضرباتها المسلحة من شبوة الى جعار، ثم الى أطراف العاصمة صنعاء. أي تنتقل ميدانيا من بقعة الى بقعة،  لكي تكون صورة خريطة العنف مكبّرة، جاذبة، تستقطب الفعل والخبر معا. بذلك توفرُ للسلطة أهدافا منتخبة، تنقل فيها مواقع المعركة إعلاميا وسياسيا. أسطورة "القاعدة"، وزعماؤها الحقيقيون أو الوهميون، التي أسست الملامح الرئيسية للتعبئة العالمية ضد الإرهاب، شرعت تختفي بلمح البصر. فقد أخذ أبرز الذين استخدموها، يؤكدون على أنها وحدة إثارة ميدانية متحركة ومتغيرة، أكثر مما هي واقعا ثابتا، ذا أبعاد اجتماعية ووجودية متينة وفعلية. فهي لا أكثر من جيوب وخطوط محتملة الوجود، تعبوية، تعمل في اتجاهين: تنشيط فعل الحضانات التكفيرية وتوجيه مساراتها، ورفد الجهد العسكري والمخابراتي الأميركي من طريق صناعة واقع  تشغيلي فعال، يمهد الأرض لتنفيذ خطط سياسية وعسكرية متوسطة وبعيدة المدى. أي إن نواة "القاعدة"عبارة عن  شحنات عنفية مزدوجة، مبرمجة، تتحرك حيث توجد أقفاص التفقيس التكفيرية، وحيث يراد رسم خريطة سياسية محتملة. لكن هذه النواة، أو النوى على وجه الدقة، محاطة بعدد غير معلوم من الالكترونات التطوعية، السائبة، التي تعمل بشكل ذاتي من طريق التحفيز والشحن الروحي، الذي يخلقه الواقع المأزوم، ومناخ الحرب العالمية على ما يعرف بالإرهاب. فـ "القاعدة" ليست حزبا سياسيا، وليست هيكلا تنظيميا. إنها روابط خيطية مموهة، تعمل وتتفاعل وتنجز مهماتها، في محيط ناشط وانفعالي، من طريق الروابط الشبحية، مسنودة بالمبادرة الفردية الطوعية والفعالية الذاتية من قبل العناصرالأكثر مثالية وإخلاصا للهدف الجهادي. فهي حركة عالمية افتراضية مشاعة، لكن الولوج اليها لا يتم إلا من طريق كتابة رمز الدخول السري المتفق عليه. أما ترابط خطوطها ( افادت من تقنيات الاتصال بشكل جيد، ومن خبرات نقل المعلومات والأسلحة التابعة لأجهزة المخابرات الدولية) فيتم من طريق تشابك قنوات الاتصال، المباشرة وغير المباشرة، بين قيادات ميدانية متحركة، وهمية حينا، وصحيحة حينا آخر، ومزيج من الوهم والحقيقة حينا ثالثا. هذا التكوين الهلامي يلائم تماما دورها التشغيلي أولا، باعتبارها محرك احتراق، ذا أهداف تمهيدية، لا يصنع الأحداث، وإنما يكتفي بصناعة المناخ الملائم لتحرك سياسي وعسكري ما. وثانيا يموه ارتباطاتها بمصادرها الخارجية، التي تكون في أحوال كثيرة معادية في الظاهر لتوجهات "القاعدة" والحركات التكفيرية، ومنها ما يجمع بين العداء والتعاون. ولا يشمل هذا ارتباطات الأفراد المتطوعين ببعضهم، ونعني بهم المتطوعين تحت تأثيرات مثالية وإيمانية صادقة، أو دوافع عاطفية وأخلاقية، الذين ينخرطون بحماس ديني وعاطفي ويؤسسون خلايا تلقائية، تهب نفسها للقاعدة أو تضع نفسها في خدمتها. تفجيرقاعدة تشابمان ـ خوست الافغانية تم بواسطة عميل رباعي الولاء: تشاركت فيه طالبان والمخابرات الباكستانية والأردنية والأميركية، التي رفعت الطبيب همام خليل البلوي الى مرتبة أهم خمسة أصوات جهادية في "تنظيم" القاعدة، قبل أن يفجر مقر المخابرات الأميركية في 30 كانون الاول 2009.  خروج الفلوجة عن طوع وإرادة المحتلين تم بفعل العامل ذاته. أحداث 11 أيلول، التي هزت العالم ، خضعت للمبدأ ذاته: خيط للقاعدة المدارة من الخارج، هدفه إعلامي، دعائي بخسائر محدودة وأرباح دولية عظيمة؛ وخيط للقاعدة المتمردة خُطط للسير بالعملية الدعائية الى غايات أكبر وأبعد من وراء ظهر الفريق الأول؛ وخيط جهادي عفوي امتثل للفريقين السابقين ونفذ ما أرادا، من دون شروط.
الحقائق المتعلقة بدور القاعدة السياسي والعسكري ستظل خفية الى أمد أطول قادم، بيد أن تقلبّات الواقع قد تلقي بعض الضوء على جوانب مظلمة من تاريخ وأسرار هذه الحركة. وربما تكون حادثة مقتل ممثل الأمم المتحدة بالعراق الإيطالي  سيرغيو فييرا دي ميلو في أب 2003، ثم حادثة إطلاق النار على سيارة الصحفية الإيطالية الرهينة جوليانا سيغرينا ومقتل مرافقها نيكولا كاليباري في 4 آذار 2005 تلقيان الضوء على أحداث إرهابية كبيرة الدلالة سياسيا أو عرقيا أو مذهبيا، أمثال مجزرة  سيدة النجاة في بغداد 2011، وتفجير مرقد الإمامين العسكريين في سامراء في 22 شباط 2006 ، واغتيال محمد باقرالحكيم  (29 آب 2003 ) وعزالدين سليم (17/5/2004) والسفير المصري إيهاب الشريف في  تموز 2005. هذه الحوادث النوعية تؤكد، بملابساتها وتنوع أهدافها وتعدد وتعقد مساراتها، أنها لم تكن تقع من دون وجود ممرات آمنة، ومن دون وجود يد ما تضبط إيقاع العنف وتحدد مواقيته وغاياته.
كان اغتيال دي ميلو علامة فارقة في طريق العنف بنتائجه وبمغازيه وبوسائله. فدي ميلو أحد ممثلي الخيار الديموقراطي، الرامي الى التغيير بواسطة الدعم الأممي السلمي. وهو خيار رفضته أميركا رفضا تاما باختيارها طريق الحرب. ولم تكتف بذلك بل ذهبت الى الحرب من دون قرار دولي. لذلك يعتبر وجود الأمم المتحدة كمنظمة،  ووجود دي ميلو شخصيا، تحديا سياسيا سافرا للقرار الأميركي اللاشرعي دوليا. في مذكرات رامسفيلد تقفز عبارات غامضة بين سطوره وتفلت من سيطرته، لتكشف لنا أن الخلاف مع دي ميلو لم يكن سياسيا وقانونيا حسب، بل كان شخصيا الى درجة كبيرة. يذكر رامسفيلد عبارة دي ميلو الرافضة للنهج الأميركي بنوع ممن الشماتة: "أخبرني القادة العسكريون أنهم قد سبق لهم تحذير مسؤولي الأمم المتحدة عدة مرات من قبل بضرورة وضع حواجز إسمنتية وعوائق عند البوابات لحماية مجمعهم، ولكنهم امتنعوا عن ذلك وبرروا موقفهم بالقول: "هذا سيجعلنا شبيهين بكم."
لقد فهمت الرهينة جوليانا سيرغينا أن "الأميريكيين لا يريدون عودتها" حيّة، لأنها مثل دي ميلو لا تريد أن تكون" شبيهة" بهم.
كانت الضرورة الأميركية تقتضي أن لا يكون هناك من لا يشبههم. لذلك "بعث هذا الهجوم رسالة إنذار مروّعة للدول والمنظمات التي كانت تفكّر في الإنضمام إلى جهود دعم الإستقرار وإعادة الإعمار، ومن تلك اللحظة غدت محاولة إقناع بلدان أخرى بالمشاركة أشق بكثير. أما الأمم المتحدة فقد أغلقت أبوابها"، هكذا قال رامسفيلد.
لذلك يبرز السؤال الأخطر الآن، في ظل الثورات الشعبية العربية: هل هناك ضرورة لوجود "حركة قاعدة" تمهد وتحرك وتلهب المناخ السياسي؟ وما موقع حركة " القاعدة" على الخريطة السياسية، حينما تستولي جماعات الأخوان المسلمين على الثورات العربية ثورة بعد أخرى؟  ليس سرا سبب بروز "القاعدة" في اليمن و سوريا تحديدا،  بشكلها النموذجي، التقليدي المعروف. السبب في ذلك يعود الى أن جمود الواقع العنفي، استدعى  تنشيط المحرك الذاتي الداخلي، الذي انتفت الحاجة اليه في تونس ومصر وحتى في ليبيا مؤقتا، والذي لم تكن له حاجة أصلا في البحرين. لا ضرورة لوجود "قاعدة" في مصرالآن  مثلا، لأن الثورة قائمة بالفعل، ولأن نتائجها آلت الى الأصدقاء والحلفاء. في ظل المتغيرات الجديدة تنتفي ضرورة وجود دور مبرر "للقاعدة". لذلك أضحت القاعدة وهما، في أعين من أرعب العالم بها، وفي تقدير من جّيش البشرية  ضدها ومن صنع وجودها الأسطوري الخارق للمنطق. ظهورها في سورية واليمن، بزيها التقليدي المعهود، كان فاقعا، أشبه ما يكون بعودة الموتى من قبورهم، متزنرين بأحزمة ناسفة.
إذا كانت مشاريع الاحتلال والتمدد قد نجحت في استثمار جزء من "خلايا القاعدة" لمصلحتها المباشرة، ونجحت في توظيف "القاعدة" أجمع كتيار تكفيري لمصلحة انجاح حربها الدعائية العقائدية عالميا، فإن المخابرات الأميركية سجلت فشلا ملحوظا في صناعة نظير شيعي للقاعدة السنيّة. فلم تنجح جهود تحويل منظة "مجاهدي خلق" الى "قاعدة" شيعية، لأسباب تتعلق بالمنظمة نفسها، باعتبارها تنظيما مؤطرا سياسيا وهيكيلا  يصعب تمويه حركة أعضائه واتجاهات ضرباته العنفية، وبسبب طبيعة الموقف الشيعي عامة. لكن  جهاز سي آي أيه أفاد بشكل كبير من مواصفات "مجاهدي خلق" العنفية العامة سياسيا، ومن عناصر وحلقات خاصة في تنفيذ العنف على الأرض. وفي العراق تحديدا فتح الاحتلال مثل هذه الإمكانية، ولكن بشكل عشوائي وخفي، من طريق استخدام وتوجية قوة السلطة لأغراض العنف الداخلي (تفجيرات البطحاء 2009 نفذها شرطي شيعي)،  ومن طريق تجنيد عناصر ما يعرف بالحمايات والشركات الأمنية، وعصابات الجريمة، وبعض الأفراد من الاحزاب، يسندهم جيش كبير من الاعلاميين، المنظرين للحرية الأميركية والتحرير من الخارج.
لقد شهد الجميع مسلسل بداية ونهاية "أبو مصعب الزرقاوي" وأسامة بن لادن، وشهدوا معه كيف قتل الأول محصورا في قبو تحت الأرض، وكيف ذهب الثاني طعاما للأسماك، بدلا من أن يكونا شاهدين حقيقيين على نفي تهمة الوهم عن القاعدة. بذهابهما ذهب الوهم الى المكان الذي نبع منه: مقبرة الإعلام التحريضي، خالق الأوهام.
لقد فتح العنف في العراق شهية القتلة والسياسيين الصغار الطامعين، وألهبت الانتصارات المتحققة على الأرض، أمام أنظار العالم كله، جنونهم وخيالهم. فسعوا الى هدف أبعد من مشروع المخابرات الأميركية الأساسي. وبهذا الصدد يعترف عبد الناصر الجنابي، أحد قادة الجماعات التكفيرية العراقية، أنه تلقى الأموال والدعم من الجانب الأميركي وتقاسمها مع مجاميع عزت الدوري، وأنه تم فرضه بالقوة في مجلس النواب وفي العلمية السياسية بإرادة أميركية. لقد أراد بعض وافدي القاعدة، وبعض تكفيريي السنة، السير بمشروع التطهير الى مديات تفوق ما خطط الأميركان له، وما توافقوا ضمنا معهم عليه. فقد أرادوا إعادة الدور السياسي القيادي لطائفة معينة، هي الطائفة السنية، التي ظلت على رأس الحكم لقرون مديدة. لقد شجعتهم الانتصارات المناطقية فحبذوا إقامة سلطتهم القيادية المراقبة أميركيا على رقعة أبعد مما قُرر له، وعجلوا، تحت ضغط القواعد، الى هيكلة الاستقطاب الطائفي والانتقامي المتعاظم في هيئة دولة معارضة داخل كيان الدولة المصطنعة. لذلك باشروا بتدمير الجزء الشيعي والمختلط من العراق، في محاولة لزعزعته والاستيلاء عليه،  واستعادة الدور السياسي "المغتصب" منهم بقوة السلاح. ولهذا السبب أيضا رأينا أن مناطق بغداد وديالى هي المناطق التي ضربها العنف الوحشي الجماعي- عمليات الذبح الشعبية-  بقوة ملحوظة. كان استبدال الجيش بالعنف المدني، وسيلة ولعبة ناجحة نظريا، لكن خيوطها العملية فلتت من يد الأميركيين لمدة أربعة سنوات كاملة، مما ألحق ضررا جسيما بهم أيضا، وبقواتهم وخططهم السياسية على حد سواء. لقد استمر  فقدان السيطرة هذا حتى اللحظة التي تم فيها تدمير أكبر مواقع وقيادات العناصر الوافدة وحماتهم المحليين (الحاضنات المناطقية المصنوعة والممولة من قبل الأميركان وحلفائهم الأتراك والعرب)، ثم أعقبته إعادة شراء ذمم أطراف من ذلك الجيش المدني المحارب، المنخرط في مشروع التنظيف على الهوية، في الجبهتين. فقد تم استيعابهم ضمن إطار الدولة نفسها، كحلفاء أو متعاقدين أو موالين، تحت تسميات عديدة: الجيش الوطني، الشرطة الوطنية، شركاء العملية السياسية، رجال صحوة، قوات أمنية خاصة وحمايات، رجال القبائل والعشائر، حماية المنشآت، وغيرها من التسميات. من يعود بالذاكرة قليلا الى الوراء يكتشف بيسر كيف تمت صناعة  الحاضنات سياسيا واجتماعيا وزراعتها بشكل رسمي وقانوني، وكيف كونت بدورها تناقضاتها الخاصة غير المخططة والمحسوبة في مجتمع مريض يصعب ضبط ردود أفعاله. فقد تولى النائب مشعان الجبوري مثلا مسؤولية قوات حماية خطوط النفط المتجهة الى تركيا، قبل أن يُعاد توصيفه داعما للارهاب.  حكم على الجبوري بالسجن 15 عاما بتهمة الفساد الاداري لتأسيسه شركة وهمية للأطعمة والمشاركة في الاستحواذ على المبالغ المخصصة لإطعام أفواج حماية المنشآت النفطية التابعة لوزارة الدفاع خلال عامي 2004- 2005 . إن الخبرات الشريرة يتم توارثها توارثا مبدعا سياسيا وسلطويا. فقد تولى مشعان مهمات تعبوية أيضا إبان الحرب العراقية الايرانية. وتولى أبو ريشة مسؤولية حماية خطوط الإمداد في المنطقة الغربية، وهو عين ما فعلته القوات البريطانية مع بعض عشائر البصرة، وما استثمرته القوى العراقية المتنفذة لحسابها السياسي والعسكري أيضا. تلك مهمات رسمية، حكومية، عقدت صفقاتها بأمر من الأميركان وفرضت على الحياة السياسية كأمر واقع، أدرج ضمن ما يعرف بالعملية السياسية. أدوار مجاهدي خلق ، وحزب العمال التركي، وحزب الحياة الحرة الكردي الإيراني "بيجاك"، التي تتحدى وتلغي المنطق الديموقراطي الدعائي الأميركي كله، استخدمت بنسب محسوبة أيضا، ولكن لتحريك وتنشيط مشهد  العنف الحدودي والإقليمي، للغرض نفسه.
لقد أسهم تنشيط التناقضات القائمة ( حقبة مجلس الحكم، علاوي، الجعفري)، ثم احتواء التناقضات الجديدة (حقبة المالكي)، في تحقيق ما سمي بالانتصار الأمني على الإرهاب، الذي سُجل باسم نوري المالكي. لكن هذا الإجراء، الذي ضرب العنف خارجيا، مستهدفا هياكله وأطره التنظيمية وروابطه الخاصة بدرجة أساسية، قاد الى انسياح مكونات العنف وعوارضه الى الداخل. فتسبب في مضاعفة تسميم بنية الدولة والمؤسسات الحكومية، التي استخدمت لامتصاص (احتواء) العنف، من طريق ابتلاعه وهضمه حكوميا.
أوردت صحيفة الصباح الرسمية في الناني من نيسان 2012 خبرا مثيرا يوضح بشكل مبسط  فكرة العلاقة بين السياسة والإرهاب وعملية الهضم الحزبي " قررت وزارة الداخلية اتخاذ اجراءاتها القانونية ضد عشرين ضابطا في شرطة ذي قار، لشمولهم بإجراءات المساءلة والعدالة.وأضاف أن الهيئة قررت إنهاء خدمات ثمانية ضباط لانتمائهم سابقا الى تشكيل ما يسمى “فدائيي صدام”، كما تقررت إحالة سبعة آخرين على التقاعد، في حين سيتم حرمان الضباط الخمسة الآخرين من تسلم أي منصب أمني أو إشغال درجة خاصة، بحسب المصدر." تحقق هذا الاكتشاف الأمني بعد تسع سنوات على سقوط البعث.
 
لقد انتقل العنف وتقاليد وخبرات الإرهاب علنا الى داخل البنية السياسية أو ما يعرف بالعملية السياسية، المثقلة أصلا بالعنف والخلل القانوني. إن طرقات العنف في العراق تشبه الأواني المستطرقة، تنتقل فيها المياه السامة من بقعة الى أخرى بحكم قوانين الطرد والجذب والإزاحة، وليس بحكم قوانين الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي. في ظل هذا المناخ بدا تيار الصدر أكثر التيارات تقلبا في مواقفه من قضية دخول الحكومة والخروج منها، وفي مسايرة العملية السياسية والجنوح عنها. هذا التقلب أو القلق لم يكن فشلا سياسيا، بقدر ما كان حنكة وهوية خاصة، معترفا بها، هدفها الجمع الوقتي بين المتناقضات، بقدر ما يتيح الواقع. أي إنه كان  انعكاسا نموذجيا لفعل قوانين التناقض المتداخلة في الواقع.  كان هذا التقلب محاولة  واجتهادا معقدين وفطنين وإرغاميين  للتوفيق بين المتناقضات الموجودة في داخل التيار، وفي داخل الجسد العراقي في الوقت نفسه. إن التيار الصدري، أكثر التيارات السياسية الكبيرة قربا من المواقع الشعبية. لذلك يخضع بالضرورة لضغط القاعدة، التي تدفعه نحو المعارضة. لكنه يظل، بحكم تكوينه الديني والمذهبي، محكوما بقانون التناقض، الذي يفعل فعله عراقيا. لهذا السبب جمع تكوينه وسياسته بين الوحدة السياسية مع التكوين الحكومي استجابة لقانون التوافق الطائفي، وبين الرغبة في التميز، من طريق تبني المعارضة المسلحة، استجابة لضغط القاعدة الشعبية. تيار الصدر هو التجسيد الأمثل للجمع بين تقاليد الشيعة التاريخية في مقاومة الاحتلال وبين متغيرات الواقع المتناقض، القائم على تبدل الأدوار الطائفية، وصعود دور الشيعة السياسي الى كرسي الحكم، ولكن بواسطة المحتلين "الأعداء"! إن تغيرات الواقع ستتكفل بنفسها بمهمة  تفجير صراعات عنيفة داخل بنية التيار، لغرض حل التناقضات، التي أجّل الاحتلال حسمها.
لكل هذه الأسباب مجتمعة، بدأ تأثير الاحتواء الحكومي الخاطئ للتناقض الثانوي، غير المتوقع، يفعل فعله عراقيا من الداخل. ثم غدا تناقضا رئيسا بشكل علني عند خروج جيوش المحتلين الرئيسية. في هذا الطور من تطور السلطة صار التناقض العنفي يدار من داخل ما يعرف بالعملية السياسية - داخل السلطة وداخل الكتل-  بطرق أكثر مهارة وتمويها، ولكن باسم المجتمع والقانون والدولة هذه المرة. لقد دفع العراقيون ثمن الاحتلال، ثمّ ثمن  صناعة الحرب التكفيرية، وثمن امتصاص هذه الحرب والانتصار الكاذب عليها. لكنهم يدفعون الآن الثمن مجددا من أعمارهم، وهم يعيشون مرحلة تسوية حسابات الرابحين والخاسرين في معركة استيراد وتصدير الإرهاب والعنف. قاد هذا الواقع بدوره، برغم أنف مشرعي ومنفذي العملية السياسية، الى زراعة ألغام جديدة (تناقضات) في جسد الدولة التجميعية، الوليد المشوه لعملية التحاصص الطائفي العرقي، التي أضحت، هي بذاتها، أداة جديدة لتفقيس وولادة الأزمات والتناقضات. بهذه الطريقة تتناسل تناقضات العنف في المجتمع العراقي. عنف يرث عنفا، وتناقض يلد تناقضا.
حقاً، لقد بنى المحتلون عراقا جديدا. لا أحد يستطيع أن ينكر ذلك البتة. لكنهم شيدوا بناءه على حافة الهاوية، وحشوا قاعدته بالعبّوات الناسفة.