المقاله تحت باب منتخبات في
16/12/2011 06:00 AM GMT
فيما ساد المشهد الثقافي العراقي نوع من الركود والإحباط إثر اغتيال الفنان هادي المهدي، جاء «مهرجان منتدى المسرح التجريبيّ» في دورته السادسة عشرة، ليكوّن احدى التظاهرات الثقافية النادرة الناجحة في بغداد. بعد عشر سنوات من الانقطاع إثر توقّفه عام 2001، عاد المهرجان المسرحيّ الذي نظّمته «دائرة السينما والمسرح» في «وزارة الثقافة». وتزاحم الجمهور أمام بوابة «منتدى المسرح» في شارع الرشيد، طوال أسبوع لمتابعة عروض عراقيّة وعربيّة وأجنبيّة. رغم ضعف المشاركة النسائيّة في الأعمال العراقيّة، وافتقار بعضها إلى الاحترافيّة، تتّسم مبادرة إعادة تنظيم المهرجان بشجاعة استثنائيّة، في زمن اللامعقول واللامتوقّع. لكن لا بدّ من وقفة تتأمّل هذه العروض وتراقب المثير منها ونقيضها العابر الذي لم يخلُ من عثرات واضحة.
في عرض «صوت إنسانيّ» المقتبس عن نصّ المسرحي الفرنسي جان كوكتو، أدّت الممثلة ماريا فيشنفكيا قصة فتاة من أوكرانيا تتواصل مع حبيبها عزيز في العراق، وتعاني من صعوبات التحدُّث معه عبر الهاتف. كان يمكن المخرج والتشكيلي العراقي زهير الخفاجي أن يبثَّ حركة أكبر في الشكل العام للعرض، وألّا يجعل بطلته تسرد حوارها من دون توقّف. تجاوب الجمهور العراقيّ مع عرض «الرغبة» للتونسي الشاذلي العرفاوي، المأخوذ من رائعة «عربة اسمها الرغبة» لتنيسي وليامز، بفضل أداء جميلة الشيحي وزملائها معز التومي، وأمينة دشراوي، وصبري الجندوبي. إذ إنّ خفة الأجساد والقدرة الكبيرة من جانب الشيحي على تجسيد دور المرأة التي تكابد شهوتها وتفشل في مقاومتها نهاية الأمر، كانت كافية لطرح تيمات مثل الحبّ، والحريّة، والعزلة... العروض المحليّة تفاوتت من حيث مستواها. منها من لم يوفّق في نيل رضى النقّاد وإعجاب الجمهور، مثل عرض «وهم» لمحمد مؤيّد. أجاد الراقص والكوريغراف في أدائه التعبيري، لكن أي تجريب هذا وسط استثمار مقطوعات من الشعر الشعبيّ المألوف؟ في مسرحيّة «جليد»، ركّز المخرج صميم حسب الله اهتمامه على السينوغرافيا، في عرضٍ يمثّل العراق الملتهب بالأزمات، وأهله المتأرجحين بين ضحية وجلّاد، حين تحال المساحة البيضاء، إلى رقعة من الأحمر القاني. رغم طول بعض المشاهد، تجلّى التجريب في «جليد»، من خلال معالجة ظاهرة الإرهاب، وإلغاء الآخر، وسطوة الأب/ الحاكم. عرض «رنة هاون» للمخرج خضر عبد خضير، نال إعجاباً كبيراً، بسبب خطاب تمتزج فيه المرارة والسخرية في الوقت ذاته. يعاني عنتر (الإنسان العراقيّ) من طغيان شداد (ايحاء ربما الى شخص صدّام)، ويقول: «لأنّني فارس لا بدّ لي من أن أبقى في الباب؟». هنا يستعيد فكرة أنّ العراقيّ يساق إلى الحروب لأنّه حارس للبوابة الشرقيّة. غير أنّ دخول ماكنة الخياطة الكبيرة إلى الخشبة، في إشارة إلى بطلان ما جاء به الاجتياح الأميركيّ، وغيرها من العبارات في حوار عنتر المفترض مع أشقائه العرب، جعلت العرض مباشراً، خصوصاً في المشهد الذي يركل فيه الممثل علي مجيد الماكنة. العديد من العروض جاءت مشغولة برؤية عميقة، تواجه الواقع بذكاء واحتراف، ومنها «جلسة سرية» التي تعاين الوقاع العراقي من جهة علاقة المثقف بالسلطة الدينيّة. يقترب العرض من مسرح القسوة من خلال تجسيد صراع الأفكار والتوجهات، بين المثقف والمتشدّد الذي يحاول فرض قناعاته ولو بالقوة. طوّع المخرج علاء قحطان نصّ جان بول سارتر «جلسة سريّة»، لصناعة طقس مسرحيّ مختلف، جعل الجمهور يتقبّل الرمزيّة العالية في عمل هو ابن لحظته، ليس في العراق فحسب، بل في العالم العربي أيضاً. لكنّ العرض لم يسر بإيقاع منضبط، وإن تكرّرت العبارات والصفعات والبروفات المفترضة التي يؤديها الممثلون. تكرار عبارات السأم، وإعلان الثورة على الواقع المأزوم، جاءا ليعمّقا البحث في جملة سارتر الشهيرة، «الآخرون هم الجحيم». ومن هنا يسأل العمل من هم الآخرون؟ هل هم الأميركيون، أم جهات داخل المجتمع العراقي نفسه؟ وفي عرض «بلاتوه»، استعاد المخرج أكرم عصام ما يشبه حبكة غودو من خلال قصّة ممثلين ينتظران مخرجاً لا يأتي. نحن في مكان مهجور مخصص للتصوير، يحتضن اللعبة البيكيتية الشهيرة، ذات الرمزيّات العالية، وخصوصاً في موقف انتظار «المخلّص» الذي هو المخرج هنا. وبين الأعمال التي تابعها الجمهور والنقّاد باهتمام، نشير إلى «البردة» من إخراج غسان اسماعيل، ومن تأليفه مع حيدر جمعة الذي فاز بجائزة أفضل عمل جماعي. زجّ العمل قصصاً عدة من اليومي، وحوّلها إلى صياغات مسرحيّة ناطقة بلسان شباب يرفضون الواقع. وبزوال «البردة» ـــــ وهي ستار من قماش يغطي بعض البيوت ـــــ تتكشّف الكثير من العيوب والمشكلات.
|