جَنّاز |
المقاله تحت باب قصة قصيرة تنساب الموسيقى عليه متدفقة بهدوء من نبع ماء. إنه القداس الجنائزي الذي قرر اختياره منذ الصباح. بودّه لو كان المدخل أبطأ وأطول قليلا، يكرّر القول في سرّه أكثر من مرة قبل أن يسبقَه صوت الجوقة بانطلاقِه. انفعالُه يجعله يخشى الإنتقالات السريعة وإن كان يتقن توقيتاتها. أصوات الرجال حجر غرانيت وهو يتقفّى أثرَ فصوصٍ بلمعان الماس في كتلته الصلدة، أما النساء فصوت ريح ثلجية حادة مُنذرة بالموت في دورانها. تجلّى له فجأة الوجه المكفهر محلّقا فوق رأسه. إحدى صور إعلانات الموت الشائعة. يرفض الدعايات من هذا النوع. جهاز التلفزيون على العموم مغلق. الحياة أقصر من أن يروجون لها بهذا الرخص. وهو يضيق بهذا الإيقاع السريع في توصيل رسالة ما. ليس اليوم ولكن مذ كان صغيرا. يقترب من الختام وهو يلمس شيئا قريبا من تفتّت الصخر وهجوع الريح. يبقى في مكانه قليلا ليستمتع بما استعاده من عمر قبل لحظات. إنه على يقين من أن الموسيقى، ليست كل موسيقى بالطبع، تحمل روحا قد فرّت من جسدٍ شاخ أو أصابه عطل تقني مفاجيء. لا تلجأ ولابد هذه الأرواح إلا لمن تجد لديه أداة خلق فذة. ينهض ليغلي الماء كي يعدّ له كوب شاي جديد. اعتاد أن يغيّر من طعم فمه ويمرّر القليل من الوقت قبل أن يختار اسطوانة أخرى. بالكاد يتلمس طريقه إلى المطبخ. يكتفي بنور شمعة فقط في حضرة الموسيقى والموسيقيين. لأنه يجلّهم. هو يغبطهم لعظمة إحساسهم وعبقريتهم. هو لا يمتلك ببلأسف غير أذنيه التي تشنّف مثل أذني كلب حين ينصت. الروح لا يقدّر وزنها كما رأى في أحد الأفلام إلا بما لا يتعدى ال21 غرام، ناتج فارق الحي عن الميت. هو كل ما يميّزنا عن بعض! ما يقرر شكل العالم! السرّ لا يتجاوز ال 21 غم! ما مكونات هذه الروح؟ ولكن لا لا، لنجنبّها الفحص والاختبار، من دون تحضير أو استحضار. لندعها تصعد وتختار ما تريد. يتذوق شايه براحة وارتخاء، بذهن مشغول على الدوام، مأخوذا لآخره بما يستمع إليه. يبتسم لكوب الشاي، يتنشق بخاره بشهيق طويل متنعما بدفء احتضانه. يرفع رأسه ويتلّفت بألفة يمينا ويسارا. كان يقرأ عن جنود يوشمون أسمائهم وأرقام هواتفهم على أذرعهم كي لا ينتهون كمجهولين. هو لم يفعلها. الأوْلى أن توشمَ الروح. يتحرك لهب الشمعة تجاوبا مع فكره ثم يعود ليسكن ويستعيد هالة الضوء من حوله متواصلا معه. ظِلُّ اللهب على الجدار كمانٌ. ظل الوسادة على الجدار وجه أمه. ظل رأسه على الجدار طيور تنبش في قمامة! تعتريه رعشة تُذهِب بسلامِه، لم لايستطيع أن يمسح تلك الصورة التي طبعتها أخته في رأسه؟
صوتها اختلف. كان ضعيفا مسالما يذكّره بوجهها البريء ورائحة ضفائرها المحنّاة وهي صغيرة. لهجتها صارت قاسية معه، تخلو من الخوف والاعتبار الذي اعتاد عليه منها كأخ أكبر. القبر بحاجة إلى بناء، هي ثكلى، يكفيها شقاؤها من أجل لقمة الأطفال. ستوكل بالمهمة لمتعهد يقوم بها. ولكن لِمَ كل هذا الشقاء من أجل شراء قطعة مرمر جديدة واستهلاك مبلغ خيالي في سبيل إعادة بناء قبر أيتها المجنونة؟ "لا احترام للأحياء إن لم يحترموا الأموات"، تقول له. من أين تستقي الأفكار وكيف تطبقها على واقعها التعس. أي احترام للأحياء هذا الذي تقصده، ومَن هُم الأحياء؟ "لا يبقى غير التراب أيتها التعيسة"، يقول لها. "حتى الدود، يموت ما أن تنتهي وظيفته التي وُجِدَ من أجلها". نسي في الحقيقة قبر أمه وسط مآزقه. ينسى في خضم انهماكه بتدبير يومه أن يبتاع بطاقة توفر عليه مبلغا للمكالمات الخارجية. ينسى الأهم وينشغل بالأقل أهمية لأنه لا يحسن تقدير قيمة الأشياء وترتيب الأولويات. هذا ما قاله له مديره في الإستدعاء الأخير. وظيفته في طريقها الى الإنحسار إن لم يسعف نفسه بتعلّم الجديد بإيقاع أسرع وتركيز على الأهم. رغم تعاطف المدير معه لم يستطع شرح الأمر الذي بات يتعقّد. التفّتْ حياتُه مثل كرة للصوف ولم يعثر حينها على طرف الخيط. ترك الأولوية في خياراته للأسهل، تأتي كما تحبّ. يجب أن يتشارك الجميع في بنائه، قالت. ولكنه الوحيد الذي بإمكانه الدفع استنادا إلى تقديراتهم. بربكَ، تزعق بإذنه، كيف ستقابلها، أ لم تفكر في ذلك؟ تخيّلها كما لو انها أمه التي كانت تنوح عند قبر أبيه في مرافقته الإجبارية لها مشوارها المتعب كل عام وهو صغير. أخته جعلت القبر قريبا منها ليكون في متناول يدها كلما اشتدّت الحاجة بها للبكاء. زوجها المفقود بلا قبر، "روح لائبة معذبة"، تبكي على الهاتف، "لم يغطه ترابا، لا أستطيع أن أقسم بروحه"، بصوت يتكسّر حزنا. ولكن كيف له أن يفهم وهو الذي نسي البلاد وما فيها، تقول له فجأة بصوت حارق بوثوقه. ماذا يعني المثوى، هل يضمن الإستمرار للأحياء أم الراحة الأبدية للأموات؟ المبلغ الذي طلبته منه يمكن أن يعينها هي لتستمر. روحها هي اللائبة لا روحه. لعلها تنافس الفراعنة في هوسها بحياتها الأخرى معه. لها قدَمٌ في الآن وقدم في الغيب وهو يتمنى أن تمهله بعض الوقت ليتوقف عند آخر ما قالته. الناس مجازات لأشياء وُجِدَتْ بالتأكيد قبلهم، الناس طالما هي حية فهي مجازات لأشياء، ماذا عن الأحاسيس؟ انها شعلة من نار يُقال، ولكنه جذع خاوٍ مثلا. يقف أمام صف اسطواناته على الرف حائرا. أمر اختياره لأخرى لم يكن سهلا عليه هذ المساء. يده بعد حيرة عادتْ ووضعت الإسطوانة ذاتها في محلها لتدور ثانية مستهلّة القداس بصوت الجوق الذي يشيع احتفاءه الوقور بالأحياء. يحكّ باطن يده، ينهض، يروح يجيء. انه قد قرّر مذ عَلِمَ بمرضه أن يمسحَ كل أثرٍ له بعد أن يغادر. لا يرغب في أن يثير ضجيجا عاديا من حوله وأن يحتل مساحة من دون داع بعدها. يقضي الليل منصتا إلى الموسيقى معجبا بصواب تقديره الأوحد لجودة جهاز الصوت الأخير الذي استقر عليه وإن كان مستعملا. رغم أن جاره اضطره إلى خفض الصوت الذي كان يتسلق المجاري بسهولة إلى الشقة من تحته فيتدفق على العائلة مضخّما. انصاع رغم ان الدرجة الأمثل هي الأقصى لملء الشقة تماما وزنا وكثافة. وفي مكالمة ستكون الأخيرة للمرة الرابعة قال الأخ بأمرةٍ أن بإمكانه الإستدانة وفق نظام البنوك المتاح له، مشككا في عدم قدرته على فعل شيء وهو المرفّه في كنف أوروبا. يغسل ببطء وجهه صباحا. يتأمل في الشحوب الطاغي في المرآة أمامه. لم تكن هناك موسيقى. تعطّل الجهاز. يخنق ضحكة تكاد تفلت لاستسلامه. عليه أن يزيل هذه اللحية من أجل المشوار الذي سيقوم به. انها عملية ستأخذ جلّ ساعات صباحه الأولى. الموسيقى كانت ستزيد من سرحانه ورخاوة يده. فكرّ أن يتوجه اليوم إلى البنك ليتقدم بطلب قرض لتغطية نفقات دفنه. لا أحد سيسير في جنازته بالتأكيد ولكنه سيختار الحجارة كمجازٍ له على الأقل. وسيخبرهم أن الأمر لا يتعلق به بقدر تعلّقه بالوطن وحفظ ترابه وكرامة أهله وسلامته. |