العراق في المفارقة التاريخية

المقاله تحت باب  في السياسة
في 
30/11/2011 06:00 AM
GMT



الصورة : جامع ابو حنيفة عام 1900
كان المعلق السياسي وخبير الشؤون الخارجية دانيال بايبس هو الذي نبهني إلى المفارقة التاريخية في الشرق الأوسط.

لم أكن مولعاً بكتاباته، فهو مؤرخ أميركي ومعلق سياسي يميني، يؤمن بأن القوة هي الحل الأمثل للصراعات الدولية، درس الإسلام الوسيط في جامعة هارفارد، ورأس معهد أبحاث السياسة الخارجية، وحاضر بغزارة في الولايات المتحدة والخارج، وشغل منصب مستشار رودلف جولياني في الحملة الانتخابية للعام 2008، كتابه "طريق الله، الإسلام والسلطة السياسية" والذي صدر في العام 2002 أصابني بالذعر، أما كتابه "قضية سلمان رشدي: الرواية، آية الله والغرب" الصادر في العام 1990، لم يتحل بالموضوعية أبداً.

قبل عام إلتقيته في جامعة أمستردام أول مرة، ومع أن محاضرته كانت مستلة من كتابه "الجنود العبيد والإسلام نشأة المنظومة العسكرية" الذي صدر في العام 1981 -وهو الكتاب الثالث الذي قرأته له من مجموع كتبه فقط- إلا أنه قص حكاية ملفتة عن الشرق الأوسط حدثت في بداية القرن السادس عشر، حينما كانت الدولة العثمانية في صراع دائم ضد الدولة الصفوية، أي في الوقت الذي كانت فيه الدولتان منهمكتين في معارك طاحنة في السيطرة على الشرق الأوسط، قال أن السلطان سليم يومها كان منشغلاً بكتابة الشعر باللغة الفارسية، والتي كانت تتبوأ مقعداً حضارياً عالياً في الدولة العثمانية، تعادل ما كانت عليه الفرنسية في بلاط بطرس الأكبر في روسيا. أما السلطان إسماعيل الأول الصفوي، فقد كان منهمكاً بكتابة الشعر بالتركية، والتي كانت لغة أجداده، بطبيعة الأمر!

هذا التعارض، أو هذه الثنائية الضدية في واقع الأمر- حيث العثماني ثقافته فارسية، وبطل بلاد فارس القومي تركي الثقافة- هي التي قادتني إلى التفكير في موقع العراق الأبدي في هذه المفارقة التاريخية.

حيث قادتني هذه الحكاية البسيطة إلى التساؤل عن موقع العراق في هذه المعادلة المتعاكسة، ذلك أن تركيا العلمانية شكلت في العصر الحديث النموذج والمحتوى لدولة العراق الحديث والتي تأسست بعد نهاية الانتداب البريطاني، وكانت النخبة المتعلمة العراقية والتي شكلت فيما بعد النخبة السياسية تعيش ذلك الوقت في اسطنبول، وقد جاءت إلى العراق عقب الاحتلال البريطاني من تركيا، وكانت بشكل عام منبهرة بالتركيبة العسكرية والمدنية معا في صياغة دولة حديثة على الطراز الغربي. هذه التركيبة السياسية التي اصطلح عليها المؤرخ التركي الشهير أحمد وفيق "بالأتاتوركية"، والتي حددها في فترة حكم أتاتورك بين العامين 1923 والعام 1938 قد استمرت كصيغة حكم سياسي وحياة مدنية في تركيا طوال القرن الماضي. لكننا نشهد اليوم تآكلها حجراً حجراً، فالصياغة السياسية الأردوغانية تتجه إلى صيغة إسلامية محورة، بل تتجه إلى نحو من العثمانية الجديدة سواء أكانت في سياستها الخارجية (الدور السياسي الذي تلعبه في الربيع العربي) أو في صياغات سياستها الداخلية، والتي تحاول فيه الاستحواذ على أجهزة الدولة والحكم، من خلال صياغة أسلوب سياسي ماكر، أي يتم القضاء على العلمانية من خلال لجم العسكر (حراس العلمانية في تركيا منذ أتاتورك) وقد انتهجت صيغة جديدة، وهي تقديم الضباط إلى المحاكم المدنية بتهمة المؤامرات والانقلابات العسكرية، وهو ما شهدناه على نحو كامل بين العام 2008 والعام 2010.

وها نحن إزاء نخبة جديدة في العراق، جاءت هي الأخرى بعد الاحتلال وأخذت تحكم منذ العام 2003، وهذه النخبة متأثرة إلى أبعد حد بالتجربة السياسية الإيرانية، إذ عاشت في إيران إبان العصر الذهبي للثورة الإسلامية في الثمانينات، وشهدت صعود الخمينية كنظام سياسي وحكومة إسلامية، تقع بالتقابل تماما من التجربة الأتاتوركية.

ومثلما نقلت النخبة السياسية العراقية في العشرينيات التجربة العلمانية التركية (شكلياً بطبيعة الأمر) نقلت النخبة السياسية الحالية شكلياً أيضاً التجربة الإيرانية، لقد نقلت النخبة السياسية العراقية الحالية تجربة ثورة كانت في أساسها موجهة ضد الاستبداد الملكي غير أنها انتهت إلى ثيوقراطية من نوع خاص. انتهت إلى ثيوقراطية مكونة من معممين صغار، وقراء مدارس دينية، ومثقفين إسلاميين بلا تجربة سياسية، وتكنوقراط ثائرين يشكل عفوي على النموذج الغربي، ولأنهم لم يتمكنوا- بسبب الإيديولوجيا- من تجاوز الأطر القديمة للثورة، فأدت بهم إلى طريق مسدود، وسرعان ما تآكلت أطرها الحقيقية وكشفت عن نوع آخر من التدهور، وهو اقتصاد منهار تقريباً، وصراع ضار بين تيارات متشددة متعددة، وهيمنة مخضرمي الحرب على أجهزة الدولة ومصادرة الحريات، فسارع بانفصال كلي للجماهير عن السلطة السياسية.

إيران بصيغتها الحالية في طريقها إلى النهاية، وقد تسرع من نهايتها مشاريعها النووية وتحالفاتها الإقليمية، وتطرفها الأيديولوجي، وهذه النهاية قادت قبل عقد تقريباً إيران إلى الخاتمية، وهي صيغة محورة من العلمانية داخل الدولة الدينية، يذكرني بهذا الصدد ما كتبه خسرو هافار لاحقاً في مقالة لافتة حقاً عن نشوء مجتمع علماني في إيران داخل الدولة الدينية، أي شروع المجتمع الإيراني ببناء نظام اجتماعي خاص منفصل كلياً عن هيمنة الدولة الدينية، بل يتعارض معها بالكلية، وهو الذي سيقوم بتهشيمها دون شك في الطريق نحو الدولة العلمانية.

يا للمفارقة التاريخية في الشرق الأوسط إذن، والتي نشهدها يوماً إثر يوم، تركيا العلمانية في طريق الدولة الإسلامية، وإيران الإسلامية في طريق العلمانية! ولكن السؤال الذي يشغلني هو، أين يقع العراق مرة أخرى في هذه المفارقة التاريخية...؟

كان أتاتورك نسبة إلى صحفي نمساوي برز في الثلاثينات وهو، ليوبولد فايس، محرضاً للنخب المتعلمة في العالم الإسلامي على بناء الدولة العلمانية. بينما كان ليبولد فايس ذاته هو المحرض الأول على الحكومة الإسلامية، يا للمفارقة التاريخية الثانية هذه المرة، النمساوي اليهودي ليبولد فايس الذي أصبح اسمه فيما بعد محمد أسد، والذي كتب كتاباً ذائع الصيت ذلك الوقت "الطريق إلى مكة" أجمل فيه تجربته السياسية والروحية في العالم لإسلامي، هو مخترع الحركات الإسلامية! لقد كان المحرض الأول على فكرة الدولة الإسلامية عند طبقة الانتلجنسيا في العالم الإسلامي ذلك الوقت وهو الذي أثر بشكل مباشر على محمد إقبال، ومحمد علي جناح، وحسن البنا وغيرهم الكثير.

لمن يريد أن يعرف (عليه أن يقرأ كتاب الطريق إلى مكة) أن الحماس للاستقلال لم يحرّض النخبة المتعلمة في العالم الإسلامي ذلك الوقت إلى بناء الدولة الدينية، غير أن إسهامة ليبولد فايس في إقناع محمد علي جناح على انفصال الباكستان خلق من أتاتورك مثلا سيئا. مع ذلك اتجه العراقيون إلى بناء دولة مفارقة لدولة ليبولد فايس أو محمد أسد الإسلامية.

ومع أن أتاتورك لم يظهر في فكر محمد أسد سوى متعصب يعقوبي أخذ ينشر أفكار التنوير الفرنسية، ويبث وهو سالونيك الأفكار العلمانية، إلا أن النخبة المتعلمة في العراق كانت منشغلة بأمر معاكس تماماً، كانت منشغلة بفكرة فصل الدين عن الدولة، والمدارس الحديثة، والمساواة، والفكرة الوطنية وكلها كانت قد تهشمت كليا على يد صدام حسين ولا سيما في العقد الأخير من حكمه، وهذه الأفكار لم تأت فقط من تقليد تجربة تركية، إنما جاءت بشكل آلي كنتيجة لحالة تمرد دائمة في العراق، حالة تمرد على الاستبداد منذ ظهور الحركة المشروطية في النجف والتي اندلع جدالها رسمياً في العام 1905، ووصلت زمنياً وسياسياً إلى العام 1958، زمن الثورة- الحلم، حين يقود زعيم ما، زعيم (كائن من يكون) ذلك الوقت، يقود جماهير الفقراء تحت راية "كل شيء ينتهي مع الثورة"، وهو الأمر الذي أصبح ذلك الوقت في عرف الشيوعيين شعاراً، ذلك أن النخبة المتعلمة في العراق في الخمسينيات والستينيات كانت منبهرة بيوتوبيا فوضوية لم يطرحها أي من العرب على أنفسهم، لم يطرحها إلا الأوربيون في زمن باكونين وهو علينا أن نكون متساويين، أي أن أي عراقي من الذين نقرأهم في صحف بغداد في الخمسينيات والستينيات هو باكونين الذي يحلم بالثورة ويريد أن ينقلها إلى كل مكان في العالم، كل عراقي ذلك الوقت كان يشعر بأنه موكل من أعلى بالقيام بعمل عظيم، كان يحلم ببلد قوي يظهر فجأة ليغير العالم، بلد صغير يلقن إنجلترا درسًا لن تنساه أبداً، أبطاله يجولون في الشرق الأوسط يزودون الثوار بالسلاح، ويخوضون معارك كثيرة من أجل تحرير الأمم الأخرى...

في العام 1925، كتب محمود أحمد السيد "أن كتاب "العقد الاجتماعي" لجان جاك روسو، كان ينتقل سريعًا من يد ليد"؛ شيء شبيه بما كتبه سارمينتو في كتابه الكلاسيكي "فاكوندو: الحضارة والبربرية"، ذلك أن النخبة المثقفة في العراق حتى اليوم تعتقد أن بغداد يمكنها أن تكون دولة للعدل والمساواة، ومعنى هذا أن الطبقة المتعلمة تخيلت ديمقراطية مثالية، ديمقراطية مقترحة من قبل طوباويين، لكنها ديمقراطية من عَلٌ لم تضع في اعتبارها التنويعات الكثيرة التي عليها الواقع الذي كان يجب تغييره حتى تتحول الديمقراطية إلي شيء أكثر من النية، وتتحول الحرية إلى ما هو أبعد من إعلانها.

ولكن أين انتهى العراق؟

انتهى العراق إلى صيغة مهلهلة مرة تركية منقوصة، ومرة إيرانية منقوصة، صيغة ذكرتني بالنادرة التي أوردها دانيال بايبس الكاتب الذي لم أكن أحبه أبداً، وأنا أستمع إليه وهو يتحدث عن السلطان سليم وإسماعيل الصفوي، بل كنت أغيب عن المكان، وأتساءل مع نفسي كيف انتهى العراق الحلم، وما الذي حدث للوعد بالمجد والحرية؟

لقد جاءت الجيوش الأممية في العام 2003 وأسقطت صيغة ثورة العام 1958، ومع ذلك جاءت مع هذه الجيوش الأممية التمردات والفتن، كان الزعيم الثوري بوليفار يعتقد أن من وقع أحذية الجنود الأجانب وهي تدك الأرض يظهر الزعيم اللامع والعصامي، ومعه تأتي الثورة، ويأتي معها المجد والانتصارات. ولكن رحل الجنود الأجانب قبل أيام ولم يأت الزعيم اللامع! لم تأت الثورة، ولم نشهد المجد ولا الانتصارات! بل نحن نشهد مع رحيل الأجانب، ويا للمفارقة! ضياع حلم الاستقلال بشكل سوداوي ومؤلم، ونعيش على الحلم ذاته الذي ابتدأ مع القرن الماضي حين كانت النخب المتنورة تضع في ذاكرتها إقامة جمهورية ديمقراطية مثالية تقوم، ثقافيًا وقانونيًا، على شاكلة النموذج التركي الذي نرى انهياره الآن، بينما النخبة السياسية التي تحكم في العراق الحالي تسير على النموذج الإيراني الذي نشهد انهياره الآن، وسيكون لها صوتاً مدوياً في الأيام المقبلة بالتأكيد.