في البصرة شركات سوداء وأخرى رمادية

المقاله تحت باب  قضايا
في 
26/07/2011 06:00 AM
GMT



نقاش :
قد تكون مهنة المقاول، أكثر المهن رواجا في البصرة. لا يعود ذلك إلى حجم الدمار الذي خلفته الحروب الثلاثة الأخيرة وحاجة البلاد إلى الإعمار السريع، بل إلى التساهل المفرط في إجراءات تسجيل الشركة. فمعظم الشركات مسجل فقط على الورق، ولا تمتلك أصولا مادية، وليس لها مكاتب أو موظفين، لكنها رغم ذلك تنال عقودا بملايين الدولارت، ومن ثم، تفشل في تنفيذ مشاريعها.. وتلتحق بالقائمة السوداء.

في مدينة كالبصرة، المركز الاقتصادي الثاني في البلاد بعد العاصمة، وصل عدد شركات المقاولات المسجلة إلى حدود الألف شركة بحسب مصادر في غرفة التجارة، في حين تنتظر آلاف أخرى دورها في التسجيل. لم يكن الحال هكذا زمن النظام السابق، حين كانت معظم المشروعات بيد الدولة، وشبه متوقفة في السنوات الأخيرة من جرّاء للحصار.

الأمر 64 الذي أصدرته سلطة الائتلاف المؤقتة في عام 2004 حمل تغييرا جذريا في خارطة الاقتصاد العراقي، إذ عدل القانون 21 للشركات الخاصة بذريعة تطوير القطاع الخاص وتحريره من سلطة الدولة، لكنه بالمقابل فسح المجال أمام العديد من المضاربين والشركات الوهمية ليدخلوا إلى قطاع الأعمال.

وفي غضون فترة قصيرة وصل عدد شركات المقاولات المسجلة في البصرة إلى 925، فضلا عن خمس آلاف غيرها تنتظر التسجيل، ومئات الشركات المسجلة في محافظات أخرى لكنها تعمل في المدينة. الخبير القانوني طارق الابرسيم يصف أمر الحاكم المدني بول بريمر بـ "المرتجل"، ويحمّله جزءا كبيرة من مسؤولية تفاقم الفساد في مشاريع الإعمار.

فقد اشترط بريمر لتسجيل الشركات المساهمة أن يكون رأسمالها مليوني دينار عراقي فقط كحد أدنى (أقل من 1700 دولار)، وهو مبلغ بسيط بالمقارنة مع العقود التي حصلت عليها فيما بعد والتي تناهز الملايين.

ويوضح الأبرسيم قائلا إن "مئات الشركات اكتسبت الشخصية المعنوية لكنها في حقيقة الأمر خاوية ووهمية، من ضمنها شركات تعاقدت مع وزارة الدفاع لشراء معدات للجيش العراقي وتعامت بملايين الدولارات بينما كان رأسمالها عند التسجيل مليونين دينار عراقي فقط".

وبحسب خبراء قانونيين، يشوب القانون المعدّل قصور كبير، ويستغل المقاولون المحليون الثغرات للنفاذ والتلاعب. فمسجل الشركات لا يضع أصول الشركة المادية ضمن شروط الاعتراف بها. ولا يتطلب دخول مجال الأعمال سوى توفر رأسمال المال البسيط المذكور آنفاً.

ومن الناحية القانونية، لا يسمح للشركة بتنفيذ عقود تزيد كلفتها عن ثلاثة أضعاف رأس المال، لكن الشركات تحتال على النص بمساعدة بعض البنوك.

ويوضح الخبير: "بالإمكان زيادة رأس مال من خلال خطاب ضمان من أحد البنوك، أو ما يسمى بالوديعة المؤقتة، وفي هذه الحالة يضع البنك نفسه المبلغ المطلوب لقاء عمولة ويقوم بسحبه بعد ذلك". ويضيف: "هذه اللعبة تجري على الورق ولا تكلف الكثير. بعدها تمارس الشركة أعمالها رغم افتقارها لرأس المال الكبير والأصول المالية".

ونظرا لفقدانها السيولة اللازمة، تعتمد اغلب الشركات على تسلم السلفة الحكومية التي تدفع لها عند إنجاز 10% من المشروع وغالبا ما تتلكأ هذه السلفة . لهذا يجادل المقاولون في ان تلكؤ تنفيذ المشاريع المناطة بشركاتهم يعود لتأخر الحكومة في تسديد ما عليها .

المقاول عمران المياحي يملك شركة تعمل في مجال البناء والإكساءات، خسر ملايين الدنانير نتيجة تأخر صرف ميزانية المحافظة في السنوات الماضية.

يقول: "لم أتمكن من إكمال بناء المدرسة التي عهدت لشركتي نتيجة تأخر الدفعات" محملا السياسة والصراعات الحزبية والروتين مسؤولية فشل المشروع.

وزارة التخطيط في نيسان (ابريل) الماضي أعلنت عن ادراج 433 شركة محلية في عموم العراق على اللائحة السوداء لعدم تنفيذها المشروعات المنصوص عنها في العقود، ومن ثم أعلنت في تموز (يوليو) عن لائحة جديدة ضمت 243 شركة متلكئة.

أما في البصرة المدينة التي تعرضت للتدمير خلال الحروب، وتضم أراضيها 60% من احتياط النفط العراقي، فأصدر مجلس المحافظة لائحة سوداء تتألف من أربع شركات فقط.

مدير العقود الحكومية ولاء عبد الكريم عبيد عزا إدراج الشركات الأربعة إلى عدم وفائها بالتزاماتها في تنفيذ مشاريع خدمية كالمجاري وإكساء الشوارع قائلا: "منحنا هذه الشركات أكثر من فرصة ولم نتوصل إلى حل معها".

حصة البصرة من اجمالي الشركات المتلكئة أثارت شكوكا في أوساط المراقبين، نظرا لوجود مئات الشركات المسجلة والمستوفية للشروط القانونية، بعضها ينفذ أكثر من مشروع في آن واحد.

الخبير القانوني المحامي طارق الابريسم يميل إلى الاعتقاد بأن "المسؤولين صرفوا النظر عن اخطاء العديد من الشركات واستلموا المشاريع على علاتها". وأوضح "نحن لم نر أية شركة أنجزت مشروعاً بصورة صحيحة".

ماجدة كاظم، عضو مجلس محافظة البصرة ونائبة رئيس لجنة التطوير والأعمار قالت لمراسل "نقاش": "ربما تكون هناك شركات اخرى مخالفة حالفها الحظ ونفذت من اللائحة، فهناك فساد إداري كبير يطال كثيرا من المجالات".

وبحسب القوانين، يتم رفع اسم الشركة المتلكئة واسم مديرها عن المشاريع المحالة والمناقصات والمزايدات لمدة سنتين أو ثلاث سنوات، لكن المراقبين يشيرون إلى ثغرات تسمح للشركات بمزاولة نشاطها من جديد.

وقال الأبرسيم في هذا الصدد: "لم تتم محاسبة أي من أصحاب الشركات وكانوا يستطيعون القفز على قرارات المنع بتأسيس شركات جديدة بمسمى آخر وهذه الشركة الجديدة والوهمية تتولى مشاريع محالة للتنفيذ ونعود إلى المشكلة ذاتها".

فيما يقول عباس الجوراني أن "السياسي أو المسؤول لن يكون في الواجهة بشكل مباشر فالشركة غالبا ما تكون مسجلة بأسماء الزوجات او الأقارب أو أبناء العمومة مقابل نسبة معينة يتقاضاها ويتم استبداله لاحقا باسم آخر".

ويؤكد المختصون الذين التقتهم "نقاش" إلى أن فشل الشركات لا ينبع فقط القوانين "المرتجلة" التي صدرت في عهد بريمر، بل من سوء استخدام السلطة.

وهو ما أشار إليه نائب رئيس مجلس محافظة البصرة أحمد السليطي، الذي كشف قبل أيام عن وجود حالات فساد مالي وإداري في احد مشاريع تنفيذ المجاري في المحافظة، لافتا إلى أن "الشركة المنفذة تتبع لعضو البرلمان عن ائتلاف دولة القانون عبد الهادي الحساني".

كما قال مصدر في المحافظة طلب عدم كشف اسمه أن هناك مشاريع تجري بطريقة "الاعلان المباشر"، تحت ذريعة تجاوز الروتين. وأوضح أن "الحكومة المحلية تقوم بإسناد المناقصات لشركة بعينها دون المرور بتنافس وهذا ما يدفع للشك بوجود حالات فساد ونفوذ".

مدير العقود الحكومية يؤكد على وجود الثغرات التي تسمح بالتلاعب، لكنه أشار إلى ضوابط جديدة سيجري تفعيلها، "فالشركة المتلكئة ستتحمل غرامات مالية، وستكون هناك متابعة قضائية بين المحافظة والشركة المذكورة".

الخبير القانوني طارق الأبرسيم يرى أن معالجة الموضوع "سياسية وقانونية" في آن واحد، "فلا بد من إعادة النظر في قرار بريمر رقم 64، بالتزامن مع تفعيل أساليب الرقابة الحكومية على عمليات الفساد المالي".

وبحسب هذا الخبير، فإن اللائحة السوداء في البصرة تضم أربع شركات فقط في حين أن هناك "لائحة رمادية بعشرات الشركات الأخرى أسهمت بإهدار أموال الناس وأحلامهم، ولا بد من كشف الغطاء عنها ومحاسبته