المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
26/07/2011 06:00 AM GMT
في خضم الهوس الروائي الذي يجتاح المشهد الثقافي العربي والعالمي، يبدو الإخلاص لفن القصة القصيرة ضرباً من الشغف الخاص لازال يتملك قلة من كتاب السرد العرب ممن يمسكون بزمام هذا الفن الصعب ويواصلون السير معه إلى آفاق جديدة...عبد الستار البيضاني واحد من أولئك اللاعبين المثابرين في هذا المضمار وهو من الأسماء العراقية التي تركت بصمتها الواضحة عليه خلال مسيرة طويلة تجاوزت ثلاثين عاماً من الكتابة الصحفية والقصصية والروائية، لتؤشر قبل عقد من الزمان واحدة من علامات تلك المسيرة الفارقة وهي مجموعته القصصية (مآتم تنكرية) والتي صدرت في بغداد عام 2000 وترجمت الى الاسبانية عام 2004 ..في كل قصة من قصص تلك المجموعة وبلمسة واحدة كان البيضاني يستطيع أن يؤسطر قصة واقعية ويحولها إلى حكاية فوق خط الحرب والقهر والخرافة....ولا تغيب عن الذاكرة قصته (مآتم تنكرية) التي كانت واحدة من القصص المتميزة للحرب كما هي عليه الحرب فعلاً، لا كما يراد تزويقها أو تبريرها للناس .. إذ عامل البيضاني الشخصية الرئيسية في (مآتم تنكرية) كمادة تقترب من الروح الهائمة في سحرها وجعلها تدخل الى وحدة عسكرية للبحث عن زوجها المفقود فتثير إعجاب الجنود بجمالها وثباتها وإخلاصها ولكنها عندما تنتهي إلى مصير مأساوي على رصيف من أرصفة الساحة الهاشمية في عمان ...ستنكر هويتها كإمرأة في غاية الصلابة والثبات وتضيع مع ضياع الباحثين عن منفى أو وطن بديل...
أساطير الجنوب ـــــــــــــــــــــــ حتى الباحثين عن الشباب وإخفاء الشيب وقهر السنين سيفعلون ذلك من خلال طقوس الموت والرعب والخرافة ..وسيكون هذا الحلم المفقود وهماً يتحول إلى صورة مرعبة في نهاية قصة )مسحوق الخفاش( وهي قصة أخرى من قصص تلك المجموعة ذات الأثر الطيب . يحاور البيضاني في كل قصصه القصيرة ثيمته المفضلة والأثيرة إلى نفسه وهي عبثية الحرب وويلاتها التي تصل إلى أعماق الروح فيتبعثر المكان ويبدأ التحول باتجاه المجهول. أبطاله المأسورون بأطياف الموت والناهضون من أساطير الجنوب القديمة أو من أساطير المدن الحاضنة سيظهرون على شكل شخصيات تبدو بلا دليل ..ينتخبها ببراعة لكي تضيع من خلال الدليل ..وذلك بإنغمارها بطقوس تقترب في إعادة انتاجها من الغضب دون أن تتجاهل شحناتها الفولكلورية الأصيلة، وحتى عندما يتناول واقع مدينة كبغداد فإنه يدخل اليه من باب الشجن والحنين الى الرموز القديمة التي شكلت أهم علامات المدينة وتاريخها السري أو المعلن..إنه قاص الجذور التي تتشبث برائحة الطمي ونسائم الأهوار وطيورها.. ولكن حارس الذكريات الذي يجمع بين الهم الوجودي وهموم الناس من البسطاء والفقراء والمتألمين.. سيصيبه الأرق، لأن حراستة تتأمل وتتأسى ...وتنتهي أحياناً إلى مسحة من التشاؤم والرثاء....شخصياته دائماً خارجة من الحرب أو قريبة منها ومجروحة بأحداثها بشكل أو بآخر.. ويأتي إنزواء شخصيات البيضاني وميلها إلى الانعزال عن هذا العالم الملئ بالدجل والدم ، عبر اختيارات تشاؤمية مخلصة في بحثها عن خلاص مستحيل صادقة في عدميتها وتخليها عن الأمل ..
أقدم حقيبة في العالم ــــــــــــــــــــــــــــــ هذا النوع من المفارقات الأثيرة إلى نفسه، يمضي بها البيضاني في مجموعته الجديدة(تحت خط الحب) الى مستويات أخرى من خيبة الحلم.....إنها تجربة جديدة تنتمي بجدارة إلى عوالمه التي جعلها تتضوع بدمار عطر صلصال التنور و أريج النبق البمباوي ..وهذه المرة من خلال مضاعفات الحرب التي انتقلت من سواتر الجبهات الى البيوت والشوارع والأرصفة والمحلات والبيوت ناهيك عن المطارات والطرقات التي شهدت أسرع الهجرات الجماعية في تاريخ العراق المعاصر، فطارت منها الى المجهول أحلام أجيال انتظرت الضوء بعد نهاية النفق ولكن القدر كان لها بالمرصاد.....يختار البيضاني حقيبته التي تأخرت في الوصول إلى مطار القاهرة فيخترع لها مكاناً ساخراً للإنتظار، حيث تذهب الى المخزن مع حقائب أخرى وتلتقي بنماذج أفرزتها الحرب فتروي له ولنا ما حل بالمجتمع بعد الحرب من غرائب وعجائب وتقتفي بطريقة ساخرة آثار الناس... من رحل منهم ومن بقي ومن رقص ومن بكى.. المفارقة ان تلك الحقيبة التي سال دم صاحبها عليها عندما جرح في إحدى المعارك، ستضيع مع ضياعه في المنفى: "ربما هي أقدم حقيبة في العالم مازالت بيد مسافر ! فقد جلبتها أمي رحمها الله من مكة المكرمة قبل أكثر من ربع قرن(......) وعند ذهابي الى ايران أصرت امي على أن آخذ هذه الحقيبة تبركاً ببيت الله الحرام وقبر النبي لتحميني من شرور الحرب (....) تنقلت معي هذه الحقيبة من أقصى جنوب العراق الى أقصى شماله، على حافات الحدود الملتهبة بالحرب.شهدت معي الانتصارات والهزائم،حفظت أسراري ومقتنياتي، حمت رأسي من أن يداف بالتراب حين تكون وسادتي عندما تنقطع بي الطرق أو تعز الوسادة في الجبهات والمعسكرات ومحطات القطارات والكراجات " ص 38- 37 في (دم الأراجيل) تكون المرأة المنتظرة هي موضوع القصة . كان الموظف يتأملها كل يوم في الموقف.... ومن خلالها سنعيش تجربة انفجار يذهب ضحيته الكثير من الجرحى والقتلى وبعض المحلات بينها محل للأراجيل الملونة الجميلة ذات النقوش المذهبة يقع قريباً من الموقف....وفي شكه من أن تكون تلك المرأة قد قضت في الانفجار، يقف الموظف كل يوم في المكان المخرب ليبحث عن أثر لها ..وسيحادث بائع علب المناديل ويسأله عنها..ولكن هنا ستلتفت القصة التفاتها المؤثرة من خلال ماتبقى من أراكيل المحل المحطم ... ليكتشف أن هناك من يشربون الدم ويجعلونه يقرقر في الأراجيل الحمراء: " حاولت تفحص لونها الغريب،إلا أن رائحة الدخان المنبعث منها شغلتني عن ذلك..الأرجيلة مشتعلة إذن؟! رائحة..ليست رائحة تبغ أو فواكه كما اعتدنا أن نشم من الأراجيل ،رائحة احتراق أسلاب ولحم بشري وخليط من الخشب والبلاستك والقماش وأغذية عطنة"ص15.
بيت الروح ـــــــــــــــــــــــ ومثلما يتتبع البيضاني تاريخ أقدم حقيبة في العالم.. في ضياعها الكوميدي الأسود زمن الحرب، فإن قصة (يشماغ) تتبع رحلة يشماغ من الحب الى الكراهية ثم الى الحب مرة أخرى.. أما قصة (بيت الروح) فنجدها معنية مرة أخرى بحراسة التاريخ من الضياع من خلال غرفة مشيدة منذ زمن الآباء والأجداد وتسبب المشاكل للحاسدين والشامتين بسبب قيامها بمهام عديدة جلها ترتبط بلمة الناس وجمال الحياة وتعليم الفلاحين حتى ذاع صيتها في الآفاق وسميت ببيت الروح: "هذه الغرفة بنيت بجهود أجيال متعاقبة وخبرات أقوام تكاد لا تجد رابطاً بينها غير بنائها.." ص 80 "كانت محل تجمع السمار من وجهاء القوم والضيوف الذين يأتون من أماكن بعيدة لفض النزاعات ومحط استراحة الرحل والجائعين والفلاحين العاملين في البساتين والأراضي المجاورة وصيادي الاسماك والحرفيين الذين يأتون من المدن البعيدة والعطارين الجوالين.روى أبي أنه شاهد فيها أثناء طفولته هنود وعجم ومسقطيين وشركس وأرمن وأتراك وغجر يبيعون الأسنان الذهبية وفتاحي الفال والمنجمين وقراء المناقب النبوية والمقاتل الحسينية ،وكان لكل هؤلاء موسمه..يأتون إلينا لأن هذه الغرفة هي الوحيدة في المنطقة التي تسعهم "ص77. ولكن الخوف يتسرب الى نفسه من خراب هذه الغرفة بعد سماعه رجل الدين وهو يلقي موعظته عن يوم سيأتي يتهدم فيه كل شئ حتى هذه الغرفة .لا أحد من الأقرباء أو أبناء العمومة يهتم بها ماعداه وحتى عمه كبير العشيرة يقابله ببرود بعد علمه بحدوث ثقب في جدار الغرفة التي تمثل تاريخ و تراث العائلة ..وطريقة الترقيع لن تنهي مشكلة التقشرات والثقوب التي تتعمق كل يوم في جدران الغرفة ولهذا تذكرهم الجدة بالحل الوحيد لردم تلك الثقوب وهو الطين الحري "قالت جدتي إن هذه الثقوب لا تغلق إلا بالطين الحري وهو الطين الأحمر الذي لاتجده إلا في الجروف العذراء وأعماق الارض"ص87. قصة (تحت خط الحب) التي حملت المجموعة عنوانها تبدو من تاريخها المثبت في نهايتها، أنها أحدث قصص المجموعة ولكن الغريب انها تبدو غير منتمية إلى المجموعة بموضوعها..بل تنتمي إلى أجواء كافكوية تتحدث عن عالم معتم وصباح بلا أنوار يتحول فيه بطل القصة إلى قط والغناء إلى مواء..يبدو إن الغطس في تلك القصة كان بديلاً عن الضفاف المشوقة التي يعجن من طينها ثوباً طقسياً تلبسه القصة كما فعل في تنور الثكلى وكف مريم واليشماغ ...مسك ختام المجموعة كان قصة (شيخوخة) التي أهداها الى وليده محمد وهي قصة طريفة في موضوعها تتحدث عن طفل رضيع في الساعة الأولى من حياته ضحك ساخراً من الحياة ..وفي يومه الأول غرق في الصمت والتأمل وفي أسبوعه الأول راح يضيق بأحاديث المهنئين بولادته "فيحاول أن يخفي رأسه في صدره مثل القنفذ، أو يدير وجهه عنهم صوب الحائط، أو يفل قماطه ويلفه على عينيه وأذنيه." ص 101وعندما يكمل هذا الطفل (الوجودي) عامه الأول، لا يعبأ بقبلات أهله وتهانيهم بمناسبة عيد ميلاده، إنما يشعل سيكارة من شمعة في كيكة الميلاد ويروح يدخن على سرير جده العتيق. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ *تحت خط الحب – دار الشؤون الثقافية العامة.سلسلة سرد – بغداد - 2011
|