خالد المعالي: اكتشفتُ الفقر الروحي المروع لعملية النشر في البلاد العربية |
المقاله تحت باب مقالات و حوارات *سنبدأ من بيروت لا من العراق. منذ سنوات قليلة، غادرت ألمانيا حيث أقمت هناك ما يقارب الثلاثين سنة، لتقرر المجيء إلى بيروت للبقاء فيها والعمل. كيف يمكن أن نشرح هذا الخيار، وبخاصة ما يعانيه لبنان من أوجه عدة؟
- ثمة جانبان في هذا الخيار، الأول هو أنني كنت دائماً أنفذ وأحقق مشاريع السفر أو العمل مهما كانت النتائج. قد يبدو هذا الأمر نوعاً من الحماقة، لكنه كان هكذا دائماً، أما الثاني فهو أن ابني الثاني، رامي، كان يجب أن يدخل إلى المدرسة وكنّا أنا وزوجتي قررنا أن ندخله إلى مدرسة مختلطة اللغات. كلّ هذا مرتبط بعملي كناشر وبعملها الصحافي عن العالم العربي. بالنتيجة النهائية هو محاولة، بالرغم من كونها صعبة، لتغيير مكان الإقامة بعد هذه الأعوام الطويلة في بلدان الشمال الأوروبي.
* ولكن كان بالإمكان اختيار مدينة غير بيروت، نظراً لهذه الأسباب التي أوردتها؟
- من الناحية الشكلية، نعم، لكن من الناحية العملية، الأمر غير ممكن بالنسبة إلينا. ذلك أننا حين نقيم في بيروت فنحن في الشرق مثلما نحن في الغرب.
* ألا تظن أنك تستعيد هنا بعض الكليشيهات عن هذه المدينة التي يبدو، في الواقع، أنها تخلت عن ذلك، عن هذا الدور الذي عُرف عنها؟
- بالنسبة إليّ شخصياً لا أعتقد ذلك، فأنا من هذه الناحية لا أجامل، هناك أشياء كثيرة تختلف، فبيروت بالنتيجة هي مدينة شرق أوسطية وأنا أمضيت تقريباً ثلثي عمري، حتى هذه اللحظة، في أوروبا. ومن أجل استعادة بعض نفحات الماضي الشخصي، بيروت هي المكان الأمثل حتى لو اقتصر الأمر على الناحية السياحية، وأنا كما تعرف لست هنا لأسيح بالرغم من أني أمارس هذا، لكني بشكل خاص أعمل وابحث، وفي بيروت هناك إمكانيات مذهلة تساعد الباحث والكاتب والناشر مثلي.
* في أيّ حال، لا يمكن لكلامك هذا إلا أن يثير حماسة اللبنانيين. ذكرت في جوابك عبارة الكاتب والناشر، إلى أي كفة تميل هذه الأيام.
- من هذه الناحية، لا يمكن الفصل فيّ بين هاتين الصفتين فأنا حينما أنشر كتاباً، أنشره بخيار كاتب وليس بخيار ناشر يحسب حساب الربح والخسارة. لديّ صعوبة كبيرة في تحديد دور الكاتب في داخلي أمام دور الناشر. لهذا ربما تخاطب منشورات الجمل خيال القارئ فهي بالنتيجة رؤى خيالية وأحلام في الكتابة والانتشار. ضفاف الفرات ÷ بعيداً عن هذه الرؤى، بدأت "منشورات الجمل"، وكأنها محاولة بسيطة للتسلية إذا جاز التعبير، استمرت على هذا المنوال لسنوات قليلة، وفجأة بدأت تأخذ اتساعاً يجعلها اليوم واحدة من كبريات دور النشر في العالم العربي.
* بداية، لِمَ أسست هذه الدار؟ وثانياً ما الدافع الذي حركك بأن تجعلها داراً حقيقية؟
- كان أخوالي يسكنون على ضفاف الفرات وحينما كنت أزورهم في الصغر، كانوا يحذرونني من اللعب قرب ضفاف النهر، وغالباً ما يسردون على أسماعنا حكاية "السعلوة"، أي الغول النهري الخيالي، الذي بحسب زعمهم، يخطف الأطفال حينما يقتربون من النهر ويأخذهم إلى بيته في أعماق النهر. وبما أني كنت من الذين لا يأخذون تلك التهديدات على محمل الجد، كنت أقترب من النهر مدفوعاً برغبتي في رؤية أو اصطياد الأسماك. هكذا كانت علاقتي بالنشر، حيث خطفتني من دون أن أدري "السعلاة" وأُخذت إلى أعماق النهر.
* جواب يحيلنا إلى الكاتب الذي لا تعرف أن تفصله عن الناشر كما قلت. ولكن ما تقوم به من عمل اليوم، على صعيد النشر، يتخطى هذا "الشعر".
- بالتأكيد، فنحن حينما نسلك الطريق لا نسمع إلا نداءات وإغراءات بنات أفكارنا، فكل قصيدة تقود إلى شاعر وكل فكرة تقودنا إلى كتاب. وكل كتاب يقودنا إلى كتب أخرى وهكذا دواليك. لا يمكن التوقف عن لعبة الاكتشاف والمعرفة.
* عال، ماذا اكتشفت بعد هذه التجربة؟
- اكتشفت الفقر الروحي المريع لعملية النشر في البلدان العربية. وإلا كيف تتصور بأني وبمجرد نشري لكتب عدة، أصبحت مشهوراً في عالم عربي يتجاوز عدد سكانه الـ 300 مليون نسمة؟ أليس هذا دلالة على أن عملية النشر والتفكير في العالم العربي هي عملية مقننة ولا وجود تقريباً لحرية التفكير والبحث العلمي بحيث يبدو كل شيء مستحيلاً حتى نشر أي مخطوط عباسي أو أموي قديم؟
ضفاف الشعر
* أن نستمر في الحديث عن النشر، سينسيننا التجربة الأساسية. لنعد إلى الشعر، الذي كان البداية. بعد هذه التجربة، أين القصيدة في مناخات خالد المعالي؟
- أنا وحسب تعبير الشاعر السوري علي الجندي، على ما أظن، "أستجدي من الصمت قصيدة". هذه العبارة في ذاكرتي منذ سنوات العراق الأولى، وفيها، كما أعتقد، أن الشاعر، يتحدث عن "الخوارج القاعدين". فأنا بحسب فهمي لعملية الكتابة، أنتظر القصيدة بل أحياناً أتركها تنتظر كالكلبة لأنه لا مفر من ذلك. وربما هذه الصورة الأخيرة، صورة القصيدة المنتظرة كالكلبة، قرأتها في حوار مع سركون بولص. أحياناً أكون غير هذا تماماً. ولكن ما باليد حيلة. اليوم نكتب وغداً نكتب وبعده ربما.. لكن ما الذي يأخذ طريقه إلى النشر؟ نحن لا ندري، لهذا تجدنا دائماً نبحث عن السلوى في الترجمة.
* في جوابك العديد من التفرعات التي تقود إلى فضاءات متعددة. لذلك سأحاول أن أبدأ بنقطة إثر أخرى، لكن بعد أن أطرح سؤالاً جديداً عن الشعر: أين قادتك القصيدة بعد هذه الرحلة الطويلة معها؟
- إلى الصحراء.
* هي عودة إذاً إلى المكان الأول؟
- لم أكن أعني بجوابي هذا المعنى، وإنما الصحراء هنا بمعنى التلاشي والانمحاء. لكنها ولنعترف أيضاً هي لحظات تجلّ يمكن أن نستجمع أنفسنا في أوقات لاحقة لكي نحاول الكرة من جديد. الشعر ربما هو داء وعياء لكنه أيضا دواء.
* نحمّله في ذلك، الكثير مما لا يحتمل أصلاً؟
- يعني هذا أن الشعر بريء، والشعر في الأساس ليس بريئاً. إنه لسان حال الشاعر.
* ربما ولكننا نحن العرب جعلناه قضيتنا
- الغريب أننا أبعد الأمم عن فهم الشعر.
* كلام خطير، لماذا؟
- أنظر اليوم إلى الكتب الشعرية التي تنشر، إلى عملية نشر الشعر، إلى عدد القراء ولا تنسى قبل ذلك أن تلقي نظرة على المعاجم اللغوية وبأي حال، يعاد طبعها سنوياً، حينذاك يمكنك أن تفهم كلامي بعد المقارنة بالطبع بأوضاع أخرى لدى الألمان، الفرنسيين، الانكليز، الأسبان، الخ.. ولا تنسى الصفحات الثقافية في كبريات الصحف العربية والالكترونية من دون استثناء.
* إذا أردت، تكمن المشكلة في كل العقل العربي الذي استقال من التاريخ والجغرافيا؟
- بالضبط، المشكلة تكمن هنا، فنحن قد كففنا عن طرح الأسئلة واكتفينا بالتملي بدلاً من التفكير، اكتفينا برؤية الصافي الكاذب بدلاً من مغامرة التفكير.
* هذا صحيح، اكتفينا بالجاهز، ولكن الحل يتخطى إمكانياتنا في هذا الحوار، علينا قبل ذلك تغيير هذا العالم العربي بأسره؟
- هذه أشياء يمكن الحديث حولها خلال مثال بسيط، وهو مثال شخصي جداً. في مراهقتي كنا تقريباً قد كففنا عن الارتحال كأعراب في الصحراء واستقرت العائلة بشكل نهائي في قرية صغيرة هي آخر قرية تقريباً وبعدها الصحراء، ليس بعيدا عن مدينة "السماوة" ولم يكن هناك لدينا كقرويين غير زراعة الحنطة والشعير وتربية الحيوانات وحينما هممنا أنا وأخي الأكبر بزراعة بعض الأشجار حتى اقتلعها أبي وحاول أن يفهمنا بأن هذه العملية غير ممكنة هنا. عليك أن تفكر بأننا تقريبا نمضي غالبية أيام السنة "بالخبز الحافي"، ولم يهتم أحد لا والدي ولا غيره بعملية زرع الأشجار والخضراوات. هذه السلبية لدى أعراب وفلاحين هي النمط السائد مع الفروقات في الثقافة العربية وهو العيش في فقر مدقع بواقع ثقافي غني.
* لكن المشكلة من يريد البحث عن هذا الغنى؟ ما نفعله اليوم، يصل إلى حدّ تشويه تاريخنا والتغاضي عنه؟
- بالطبع هذه هي المشكلة الأساسية التي يمكن للمثقف الغربي أن يطرحها بسهولة. اليوم نحن وحسب بودلير في يومياته، علينا كمثقفين فرادى أو جماعات أن نملك طاقة هائلة جبارة لكي نجابه التحجر بكل مستوياته في الحياة في البلدان العربية.
* أعتقد أننا، أنت وأنا، نهرب من المشكلة الرئيسية. أزمتنا الكبرى هي الدين, يجب أن نعترف بذلك؟
- بالتأكيد، المجتمعات التي تخاف من المعلومة، وهي أساس البحوث العلمية، هي مجتمعات يمكن اعتبارها ميتة. ونحن حسب هذا الوصف، مجتمعات ميتة، حيث تؤدي الإخلاص في العمل واحترام الاكتشاف على التخوين والطرد ويتم عكس ذلك التهليل للرطانة واعتبار الاستسلام للمسلمات البديهية بطولة وانتصاراً. فمن برأيك له الجلد لكي يردد مع أبي العلاء: يرتجي الناس أن يقوم إمام ناطق في الكتيبة الخرساء كذب الظن لا إمام سوى العقل مشيراً في صبحه والمساء وعلى ذكر أبي العلاء من أحق من هذا الإنسان اليوم، حتى بطبعة نقدية حقيقية لأعماله؟ وهل هو فعلاً مقروء لدينا وله الحضور في حياتنا وعلى الأخص في حياة الأجيال الطالعة دوماً، باعتباره عقلاً نقدياً فذاً؟
* ليس أبا العلاء فقط، هذه مشكلتنا الراهنة والكبرى في ظل الذين صادروا كل شيء واعتبروا أنفسهم ناطقين باسم "الحقيقة المطلقة"؟
- لا وجود لحقيقة مطلقة بكل المعاني، هناك تفسيرات نسبية ومقترحات وحلول أثبتت عبر التاريخ أنها موقتة. وبأن الأفكار أيضاً تتحوّل من مجموعة فكرية إلى أخرى لتأخذ صيغاً مختلفة جزئياً ولكنها هي ذاتها وهذه الأفكار تنتقل عبر العصور ولا يمكن لأحد أن يوقفها مهما كانت سلطته أو قوته. نظرة بسيطة على مؤلف، على بحث صغير، نشرته قبل فترة قصيرة للباحث العراقي سعيد الغانمي وهو بعنوان "حراثة المفاهيم"، يريك بكل يسر كيف أن الأفكار والصور تنتقل من فترة زمنية إلى أخرى، تقرأ الماضي في هذا الكتاب وكأنك تقرأ تاريخك الحاضر.
أطياف هولدرلين
* لندخل إلى الشعر، وبخاصة أن الدافع لإجراء هذا الحوار، صدور مجموعة شعرية جديدة لك "أطياف هولدرلين". لكن قبل أن ندخل في أجوائها، لنعد على البدايات كيف جئت إلى القصيدة؟
- لقد جئتها من العزلة حيث كنت في الصغر أمضي أغلب أيامي خارج ساعات المدرسة، في الرعي. وحسب توزيع المهمات: رعي الأغنام أو الحمير وفيما بعد الأبقار أو في الأوقات التي تسبق أيام الحصاد كان علينا أن نمارس مهمة "الفزاعات المتحركة" كي نطرد الطيور. وكم كانت قاسية هذه المهمة فالطيور التي نطردها في هذا الجانب تذهب إلى جانب آخر. في هذه المرحلة، بدأ الانشداد إلى النفس وبدأت المحاولات الأولى لكتابة القصيدة. علينا أيضاً أن لا ننسى أنني كنت أعيش في أجواء حسينية، كان المهيمن فيها، القارئ أو كاتب القصائد التي تتلى في عاشوراء. وكانت هذه تخلب لبّ الصبي الذي كنته آنذاك.
* بعيدا عن هذه الأجواء الدينية، من قرأت من الشعراء في تلك الفترة، أي من مارس تأثيره عليك ليدفعك إلى الكتابة؟
* القراءة كانت تتم عن طريق الصدفة. صحيح أننا كنّا من الأوائل الذين ذهبوا إلى مدرسة القرية بداية، ومن ثم إلى مدرسة المدينة إلا أنه كان علينا أن ننتظر طويلا حتى نصل فعلا إلى الأماكن التي تتوفر فيها الكتب. وحينما توفرت أمامنا كان علينا الخيار وبقينا لسنوات في حيرة من أمرنا. فقد قرأت "الأغاني" لأن أحداً قال لي بأنه لا يمكن لي أن أكون شاعراً إلا إذا حفظت هذا الكتاب عن ظهر قلب. وحاولت أيضا قراءة أبي تمام وكتب أخرى قليلة إلا أنني لم أفهم إلا القليل جداً حتى أوقعتني الصدفة على بدر شاكر السيّاب و"أزهار الشرّ" لبودلير في ترجمة مغربية أو تونسية، لم أعد أذكر ذلك، وهكذا أخذت أصل إلى الكتب ذات التأثير والتي كان باستطاعتي فهمها. آنذاك، ومع رحلات بسيطة إلى بغداد تحولت إلى شبح فكل كتاب كنت أقرأه كان يقودني إلى كتب عديدة وهذه بدورها أوصلتني إلى أخرى. فقد قرأت طرفاً من التراث الشعري والنثري واهتممت كثيرا بالصوفية وبما تيسر من ترجمات الأدب الفرنسي والانكليزي والألماني وبعض الأشعار الروسية والاسبانية الخ..
* في أيّ عام كان ذلك؟
- بدأ هذا المشوار عام 1973 وانتهى في خريف 1978 حين غادرت العراق نهائياً.
* من العراق إلى أوروبا، هل ثمة صدمة أصابتك هناك وأنت تكتشف كتابة أخرى ولغة أخرى؟
- كانت صدمة هائلة لم تنفع معها كل القراءات السابقة أولا لأني لم أكن كائنا اجتماعيا وربما ما زلت حتى الآن، وثانيا لأني لم أكن أتكلم الفرنسية أبداً ولم يكن بمقدوري أيضا صوغ جملة واحدة بالانكليزية. كذلك جئت بعقلية من قدم إلى بغداد تواً أي الذي ينتظر حلول المساء قبل أن يبدأ بالبحث عن فندق لينام. وهذا عنى من ضمن ما عناه أنه كان عليّ أن أعيش في عزلة تامة. ÷ أفهم من كلامك أنك لم تعش مرحلة بغداد وحضورك "العراقي" جاء متأخراً، عبر أوروبا؟ } نعم كنت أمضيت عامين في بغداد على الهامش. ÷ هل تابعت من ألمانيا، التي رحلت إليها بعد سنة من فرنسا، لتقيم فيها ما كان يكتب في العراق؟ } بالطبع حاولت متابعة كل ما يكتب وينشر ويمكنني أن أجزم هنا أنه لم يفتني إلا القليل. فالشخص الوحيد والمقطوع مثلي يحاول بكل السبل المعلنة والمضمرة أن يخلق إطاراً لهويته وأن يملأ هذا الإطار وهذه تتراوح بين الاهتمام بالموسيقى والأغاني والكتب العراقية والتاريخ ولا تنتهي عند الطبخ. ÷ هل نشرت أول ما نشرت وأنت تعيش هجرتك؟ هل أحسست بانقطاع ما عن محيطك، أي أن قصيدتك لم تتكوّن فعلياً في محيطها البيئي؟ } نشرت محاولاتي الأولى في العراق بداية عام 1978 وكانت كتابتي قبل وبعد تعيش تحولات متسارعة، فقد كنت لا أترك شاعراً عربياً من القرن العشرين إلا وحاولت الاطلاع على أعماله بالإضافة إلى القراءات الأخرى التي تخص الأدب القديم عربياً وعلى صعيد العالم. فهذه القراءات المكثفة منحتني إمكانية أن أكتب بشكل مكثف وان أتغير وان أتبدّل وحينما وصلت إلى فرنسا وفيما بعد إلى ألمانيا كان أول شيء قمت به – وهو حسب تصوري نوع من العمل الفكاهي – ولكنني آنذاك كنت أهتم به بشكل جاد.. ÷ ما هو؟ } هو أنني كنت أقتني بشكل مستمر دواوين لشعراء فرنسيين معروفين ومن دون دراية كافية باللغة وكنت أحاول أن أقرا برفقة القاموس. والأنكى من ذلك أني كنت أيضا أحاول الترجمة وقد ملأت بهذه الطريقة العديد من الدفاتر بترجمات عدة عن اللغة الفرنسية. ÷ ثمة الكثير من قصائد دواوينك الأولى، ترسم حنيناً إلى مكانك الأول. لكن بعد كتابك النثري "جمعة يعود على بلاده"، تبدو مناخاتك وكأنها تحاول أن تقطع مع هذا العالم. هل صحيح ما أجده أنا؟ وبخاصة أن "أطياف هولدرلين" يأتي من محاولة لكتابة أخرى؟ } بالتأكيد فقد كنت في الكتابات الشعرية والنثرية السابقة أحاول استعادة المكان. حاولت العودة إلى المكان الأول وفي لحظة ما، ربما حدث هذا في عام 2002، شعرت بأن تلك العودة قد تحققت بشكل ما وأخذت نصوصي تنحى منحى مغايراً. صحيح أن هذه العودة لم تكن بعد قد تحققت فيزيائياً إلا في العام 2003، إذ في ذاك العام زالت عقبات كثيرة كانت تخيم على المخيلة. أصبحت وكأنني قد فككت من الأسر حقا. هي ربما ولادة أخرى، صحيح أنها ولادة مؤلمة لكن كلّ عمليات الحمل والولادة هي ألم بألم. القطيعة مع المنفى ÷ لا أعرف أيضاً إن كان كلامي صحيحاً ولكني أشعر في بعض المواقع من "أطياف هولدرلين" وكأنك ترغب أيضا في الكسر مع منفاك الطويل، ربما لأنك أصبحت أكثر حرية بالتنقل. } كلامك يبدو شبه صحيح، ذلك أني كنت أساساً منذ العام 2003 أحاول الانتقال إلى العراق فالعودة لشخص مثلي بعد هذه السنوات غير ممكنة.
* لماذا أطياف هولدرلين؟
- حينما تركت مدينة "كولن" لم يعد لي مكاني السابق، حينما أزور ألمانيا فكنت أقوم بزيارة الأصدقاء هنا وهناك وأمضي غالبية الفترة التي أكون فيها في تلك البلاد في قرية قرب مدينة توبنغن التي أمضى هولدرلين في أحد أبراجها سنوات جنونه الطويلة. هذه الفترات جعلتني على تماس من ناحية المكان والتخيلات فهناك أيضاً أماكن أخرى وذكريات لكتّاب ألمان آخرين أمثال شيلر ومتحفه الخاص بالأدب الألماني لا يقع في مكان بعيد عن القرية. كل هذه الانشغالات تجعلك في لحظة ما تفتح الباب وتشاهد..
* تشاهد ماذا؟
- أطياف هولدرلين.
* ولكن هذه المشاهدة لا تذهب إلى التماثل معه وكأنك أيضاً ترغب في كسر هالة ما مع شاعر وسم الشعر في العالم؟
- التماثل عملية غير ممكنة بالنسبة إليّ وأما الهالة فهي في مخيلة الآخرين فقط، فنحن حينما نقرأ تفاصيل كتابات هذا الشاعر وحياته وحتى حين نقرأ مجرد قصائده لنرى أشياء أخرى تقول لنا كلّ شيء عنه، ولكنها لا تذكر شيئاً أو توحي بالهالة. فكما نعرف الهالة كما أعتقد تصنعها المخيلة الشعبية حتى ولو كانت نخبوية. وقد أكون صفيقاً إذا أكدت لك الآن هنا بأنني أعيش دائماً أسوأ لحظات حياتي من أجل كتابة جملة قد لا تصل بالصورة المتمناة، ولا أعتقد أن هؤلاء الشعراء الذين يتخيل الآخرون حولهم تلك الهالات بصورة تختلف عن صورتي المتواضعة.
* أنا معك ولكن ما رغبت في قوله بعدم وجود التماثل هو محاولتك للوقوف على نقيض لآخر من كتابة هولدرلين، أي كتابة شرطك الإنساني الخاص لا شرطه هو؟
- بالتأكيد فأنا أكتب عن الأشياء التي خبرتها ولا يمكنني الكتابة عن أشياء أخرى، فالكاتب أو الشاعر فيّ ينطلق من خبرته وكل اللقاءات بالآخرين هي لقاءات تفتح فينا الرغبة في التعبير عمّا عشناه.
* حسناً، إزاء ذلك كلّه، ما الذي ترغب فيه بعد من الكتابة؟ إلى "أين المسير" فيما لو استعدنا أحد الشعارات العربية أو لنقل إحدى أغانيها؟
- الأغنية كما أتذكرها هي تساؤل، "قل لي إلى أين المسير/ في زحمة الدرب العسير"، فمهما بدا لنا أنّا وصلنا حتى نجد أنفسنا فجأة في البداية. الكتابة الصحيحة هي فاتحة آفاق دائمة وهي لا تجلب لك الراحة الدائمة ولا تقودك إلى الاستراحة، وحظك إن كان جيداً تستطيع أن تمسكه بين فينة وأخرى، هذا الذي يمكن كتابته وهي قصائد أو نصوص نثرية أو خيالات من هذا وذاك، لا تنتهي طالما نحن نقرأ ونكتب أي طالما نحن نعيش ونفكر.
عيون
* أعدت مؤخراً إصدار مجلة "عيون"، عرفت المجلة الكثير من عمليات التوقف وإعادة الإصدار. أي مشروع تبحث عنه فيها؟
- عيون لم تتوقف إلا مرّة واحدة.
* (مقاطعاً) ولكنها كانت تعرف الكثير من عدم الانتظام في الصدور.
- كلا، وإنما كانت تصدر نصف سنوية طيلة الأعداد الـ 18 التي صدرت فيها قبل العدد الأخير، أي أنها صدرت بشكل متواصل ومنتظم طيلة الفترة الماضية. الآن، "عيون" من جديد، لأني كلما زرت العراق شعرت بالحاجة الماسة لمجلة ثقافية لا تنشر الأدب فقط وإنما أشياء أخرى تدور في فلك الأدب أيضاً، كما حول الحياة الثقافية في العراق. هذا هو أحد الأهداف الأساسية لإعادة إصدارها. وهذا بالطبع سيختلف عن المرحلة الماضية فالمجلة تصدر الآن فصلياً وتدخل مباشرة إلى السوق العراقية في جميع المدن الكبيرة أو التي تتواجد فيها المكتبات وهي كثيرة جداً في العراق مقارنة مع البلدان العربية الأخرى.
* تحدثنا في البداية عن بيروت، ولنختم الحديث عن "بلدك". أين العراق اليوم في حياة خالد المعالي؟
- لو لم يكن العراق لما كان خالد المعالي بكل ما فيه من محمولات سلبية وإيجابية، محزنة ومفرحة، أو بين هذا وذاك. لا أستطيع أن أنزع هذا الحمل عني.
|