سقف بغداد

المقاله تحت باب  في السياسة
في 
16/07/2011 06:00 AM
GMT



تناولت الافطار في فندق شاهق يطل على دجلة وعلى جزء اساسي من رصافة بغداد، ويسمح لك برؤية جانب من نخيل كرخها الباسق على الضفة الاخرى.المنظر النادر يمنحك منظورا مختلفا للعاصمة. انه يدلك على سقفها، ويكشف لك كيف تبدو من فوق. والسقف هنا اشبه بمرآة للأرض تعكس ما يدب على السطح وتشهده التفاصيل السفلية.اتركوني اشرككم في خيالي "المريض" على عجالة. فالمرء يشاهد وهو يطل على العاصمة من اعلى نقاطها، جبلا من دخان يستلقي فوق بغداد باسترخاء شديد. ولست معنيا هنا بملاحظات خبراء البيئة والصحة، لكنني مرعوب من مشهد في السماء يحمل رمزية عالية لمشهد آخر في الارض.المباني العالية نسبيا في بغداد قليلة، فندق بابل، ميريديان وشيراتون، وبضعة مبان اخرى. لكن هذه العمارات تغطس على نحو كامل، في جبل الدخان الاسود والرمادي والاصفر الذي يطوقها ويقوم بخنقها.النخيل الذي يزين جزءا من ضفاف دجلة، ساحر يروي لنا حكاية امل صار باهتا اليوم. لكن سحره الاخضر الباسق ينغمس كذلك في سواد الدخان الذي يطوق كل شيء.جبل الدخان الذي يستلقي فوق العاصمة ليس من مخلفات صناعة منتجة ولا منشآت تحسن احوال الناس، بل هو دخان خيباتنا المنبعث من آلاف المولدات العملاقة وملايين مولدات الطاقة الصغيرة، والسيارات الخربة التي تستوردها الحكومة.سحابة مخلفات الوقود التي تغلف بغداد، تعيد الى ذهني مشهدا مشابها تلمحه حين تلج الى البصرة قادما من جهة البحر، او اطراف الصحراء، حيث تباغتك سحب سوداء تغلف الافق، وتمطر مرضا وبؤسا على افقر حزام ريفي عرفه الشرق الاوسط. سحب تدر اموالا على الفاسدين، وتنهمر نقمة على من يعيش فوق ارض البترول.سماء هذه المدن، منظورها العلوي او سقفها، مرآة للطريقة التي تدار بها الاشياء على الارض. وحين تحدق في سحب الدخان او جبالها، في وسعك ان ترى حقا، اشكال الشياطين والعفاريت القادمة من اسطورة سحيقة للخيبة، وهي تضحك بوقاحة في وجه فرص التقدم المبددة منذ عقود، وحجم الخسارات الذي نخشى ان يتواصل.الخطوط التي ترسمها على جبل الدخان، ألوان سوداء ورمادية، واخرى كبريتية مائلة للحمرة، تشبه خطوط كف لمدينة عجوز عمرها ألف عام. وحين يتاح قارئ كف ماهر، فإن في وسعه ان يؤول لنا ويفسر كل ما يراه، لينبش في العوادم السابحة بخيلاء، بحثا عن تفسير للغز خيباتنا.المفكر الايراني عبد الكريم سروش، عرض مرة وصفا هائلة للحظة انبثاق العلم الحديث على يد اسحق نيوتن. يقول مستعيرا او مبتكرا الفكرة، ان مكتشف الجاذبية كان يحدق في السماء فيجدها تشبه سقف المعبد. مليئة بصور وايقونات الملائكة والشياطين والاساطير والحكايات الشعبية. وفي تلك اللحظة قرر نيوتن ان كل هذه الصور عاجزة عن تفسير ظواهر الكون والطبيعة، عن سر نزول المطر وظهور الشجر وسقوط تفاحته ذائعة الصيت. حرك نيوتن يده مشيرا الى السماء وقام بمحو كل تلك الايقونات، وحين ازاح صور الشياطين والعفاريت والارواح الغريبة، ظهرت له الحقيقة.. ارقام ومعادلات رياضية تفسر قوانين الحركة، وتدير عجلة علم حديث يهتدى بالرياضيات الى طريق جديدة نسخت تقاليد العلم العقيم، وصانت العقول من الارواح الشريرة.هل في وسع مدننا ان تنجب "نيوتنها" الخاص، الذي يمحو صور عفاريت وأبالسة ترتسم على سقفنا العلوي، وينظف مرآة الارض المليئة بالمعارك الزائفة، والنهب المنظم، والنفوذ المتخلف؟تحدق في المنظر فتشعر كم هي ضعيفة ومبددة انفاس المظلومين البيضاء والبريئة، انفاس الذين يعيشون في التحت، وهي تنعكس في الفوق هذا، مخلوطة بأحزمة قوية من السواد المنفوث، عبر انفاس قاتمة لصنف آخر من اهل الدار مهمل وسيء ومهدر للثروة.. الخطوط السوداء القوية للعابثين الذين يفجرون شوارعنا كل يوم، وخصومهم، اولئك الذين بددوا فرص القضاء على العنف، وأنهكونا بمعارك مزيفة وخاسرة، وساهموا في ابقائنا معزولين عن العالم بطبقات كثيفة من دخان الخسارة والخيبة، وبطبقة اخرى من كلمات ظلت بلا معنى، وشعارات تصادر الاحلام المسروقة، والمصائر الغامضة لنا جميعا.بغداد مخنوقة بدخان كلمات فارغة، وموت يومي، ومعارك تخلف زائفة. سماؤها او سقفها، لن يتغير إلا بتغيير حقيقي لابد ان يتاح عن جدارة يوما، لنا نحن المقيمون في "العالم السفلي" المعزول.