الروسي ميخائيل شيشكين يحصد "جائزة الأدب العالمي" الالمانية

المقاله تحت باب  منتخبات
في 
15/07/2011 06:00 AM
GMT



اضطر كتّاب روس كثيرون في اعقاب سقوط الشيوعية الى المنفى، وانصاعوا بغير إرادة منهم الى الخوف. في حين كفّ مواطنهم ميخائيل شيشكين عن الاستسلام الى الهلع بقرار شخصي، وإن أفسح لترف التحسّر على واقع بلاده التي غدت قطارا معتقلا في نفق، حيث تترنح، على ما يرى، بين ريح الديموقراطية وجزمة الديكتاتورية. جعلت المغادرة الروائي يكتشف لغته ويخلع باب الغيتو الأدبي حيث تنتقع روسيا منذ اعوام. والحال ان رواياته غير الهيّنة لا تكف تكرّمه بالامتيازات الدولية وآخرها "جائزة الأدب العالمي" التي منحته اياها "دار برلين لآداب العالم" 2011 عن "شَعر فينوس" بنسختها الألمانية.
رواية شيشكين الفائزة تمرين على صعوبة. غير ان حصولها على الاحتفاء الألماني يحل ضمن عقد طويل من التكريمات لم يتوقف منذ صدورها في 2005، ويجعلها تستحق التمهل في جوارها. منحت "جائزة الأدب العالمي" لصاحب النص ومترجمه الى الألمانية، لتحلّ كملحق منتظر في قدر رواية لاقت جوابا نقديا متحمسا مذ رأت الضوء. عدّ شيشكين الجائزة الأحدث إطراء يوجّه الى القارئ الروسي، وهو كذلك بلا شك. انه القارئ عينه الذي تلقف شيشكين كاتبَ روسيا، في نصوص على طموح، من طراز المنارات التعبيرية، في حين تخاذل مغادرو الوطن الباقون في الكتابة عن مسقطهم، بحجة معرفتهم بالتاريخ فحسب. لكأنه أساس ركيك لا يعوّل عليه.
يكمن سحر "شعر فينوس" في تركيبها المنقّى وفي تعجيلها المضطرب ومنطقها المتحول وتنويعها المذهل. الرواية ذات الإيقاع الموسيقي المتصاعد تجعل الشخوص يتواترون، ناهيك بالأماكن والأصناف السردية. تتلاحق الحكايات والتجارب، ليبين في وسط هذا الازدحام مترجم فوري يوفر خدماته لطالبي اللجوء الروس الى سويسرا. ينطلق كل شيء على الحدود السويسرية في الأساس، حيث يستوي شخص يتوق الى تبني هوية وطنية جديدة، قبالة ضابط في دائرة الهجرة. لا يلبث حديثهما ان ينفتح على حشد من الأصوات تنصهر لتصير واحدة حينا وتتقاطع احيانا.
لا ترتكز صفحات الرواية الخمسون بعد الأربعمئة على شخصية المترجم الفوري المحورية وانما تصير انتحابا يخرج من مضمون اليوميات والأحاديث والرسائل والسرد الغنائي. في منصة المشهد الروائي ثلاث نساء، المدرّسة غالبيترا والمغنية إيزابيلا وحبيبة المترجم. تترءاى المدرّسة غالبيترا راضية، ذلك ان صمت الحجارة يسود في صفوفها، في حين تجهل انصراف التلاميذ خلسة الى أن يرسموها على جدران الحمّامات، عارية وبشارب. اما المترجم الفوري فيعثر على دفتر يوميات ايزابيلا مصادفة، ليلاقي القارئ مضمونها في دوره، ليستحوذ عليه عفويا. تلد اليوميات في 1914 لتقدم تسجيلا شخصيا وصادما للعقد الثاني من القرن المنصرم.
في توزيع الاماكن، تأخذ روما الدور المحوري. ينطلق المترجم الفوري هناك، يقرأ ويترجم ويعي انه لا يشكل، بالنسبة الى زوجته، سوى نسخة باهتة عن طليقها. في اللحظة عينها، تتقاطع سير النساء الثلاث، تأتي كل واحدة منهن عبر درب خاصة. كأن هذا كله لا يكفي، يضيف شيشكين الى تشتّت الحكايات لغة بارعة تتبنى أنماطا جميلة ومتلونة كالحرباء، تمطّ بين قاموس يستوحي نظام البرقيات وآخر أكثر فصاحة وتطلبا وهجاء ايضا. في فورة هذه الحمّى المضبوطة في معظم الاحيان، ثمة ملامسة لأسماء ومواد وقرائن، ناهيك بإحالات على القصص الشعبية الروسية والاسماء الأدبية البارزة هناك، من مثل دوستويفسكي وبوشكين وتشيخوف وغوغول خصوصا. بل لنقل ان ثمة ما يتخطى الملامسة، ذلك ان هؤلاء الكتّاب ينبثقون من النص، من طريق اقتباسات معبرة ومستترة في آن واحد.
يروق شيشكين ان يصف المعركة التي تدور بين يده ورأسه إبان الكتابة. يفكر في شيء معيّن ويخطط لخيط في القصة ويسعد به، بيد أن يده تأبى الإذعان. يستسلم عندئذ وينتظر الى حين تكتب اليد من تلقاء نفسها. ثمة خادم وربّ، عمل على ما يقول. الرواية هي ربّ العمل، أما هو فخادمها المتواضع بالكاد. ينسحب هذا الطقس التأليفي على متن روايات شيشكين التي تبدو كأنها صيغة سحرية. يشيّد نصوصه بناء على توليف عناصر جمّة تبدو غير متجانسة في الظاهر، على تلاعبات أسلوبية مجانية، بحسب ما يتراءى. هناك دفق في الناس وقفزات مزاجية وانحرافات عدة، وترحل شخصي وتاريخي وأدبي. تعرّج "شعر فينوس" على أساطير مصدرها سيبيريا، وعلى رواية المؤرخ زينوفون للحرب الإغريقية الفارسية، التي تحل كحلقة اولى تؤدي الى حرب الشيشان، ناهيك بانطباعات الكاتب في شأن سويسرا.
عند شيشكين، يبلغ التلاحم بين تعدد المعارف والإلهام الغنائي مستوى الكمال. يجمع الكاتب بين الأنواع الأدبية في براعة لافتة، ويتجاوز قوانين الرواية التقليدية مستثنيا إمكان توفير الإجابات البسيطة علن الاستفهامات التي يحركها في شأن مسار العالم ومصير الافراد. يغرف الروسي من تجربته، من حياة المترجم الفوري الذي كانه ومن حكايات اللاجئين التي سمعها ومن يوميات فنانة روسية شهيرة من أجل الفوز بتنقيب غنائي وفلسفي لموضوعات الحب والتاريخ عبر ثلاثة مستويات سردية. انها فورة من الألسنة، بل جوقة ضخمة، تتورم قبل ان تنهار.
تشبه "شعر فينوس" حافلة تقلّ الحياة، او ربما تكون الحياة عينها، تبسط تشكيلات عدة من الألم والغبطة والحقيقة والتخييل والعنف. "شعر فينوس" مؤلّف أدبي لا يهادن، يحيل على الميثولوجيا والتاريخ يعبران الجداول الزمنية والحدود. انه تكريم متعدد الطبقة للتعايش بين الحب والموت، يذكّرنا بأن ثمة قصصا نعيشها وأخرى نحكيها، الى جانب قصص لا ننفك نكررها.
لا يتردد الأدباء الروس الراهنون في التصادم، مباشرة، مع الموضوعات العنيفة والمتوترة التي تجلبها العولمة. تختبر الآداب في ذاك الشطر من العالم، تأثيرها في النفوس، تطرح استفهامات في خصوص الترتيب العالمي الجديد، وتحاول ان تسائل الصراعات الوطنية ومسائل التسامح في المجتمع الحديث، وترصد تبريرات الحرب ايضا. أما شيشكين فيطرح في رواية "شعر فينوس" أسئلة الضيافة والتواصل والتراجيديا الشخصية، في لعبة رؤيوية تصل الى تخوم الهوية الإنسانية حتى.
خلال جزء وافر من القرن العشرين اقترب الأدب الروسي من الحواف الخطرة، في حين وضع الناس في ما يشبه القفص. انقطعوا عن الآخرين، فقام طراز من الثقافة السفلية تملك لغتها الخاصة ونكاتها، في موازاة فقد المواطنين اهتمامهم لما يجري أبعد من حدودهم. كان التوجه صوب العالم المجاور، اياً يكن، محظرا لأعوام. خلال عقود، فوّت الأدب الروسي فرصة التطورات السردية في المضمار الأدبي. لهذا السبب تراه اليوم يسعى الى التعويض قبل ان ينجح في اعادة تطوير نفسه على نحو مستقل. اما الخطوة الضرورية الى الأمام فتتمثل ربما في الإقامة خارج الحدود لفترة، انها الفرصة السانحة ليخرج المرء من روسيا- المنزل حيث لا وجود لمرايا.
وفّق شيشكين في اجتياز العتبة، كان له ان يجاور مرايا كثيرة أتته بحشد من الصور. كان الانعكاس في الزجاج قبالته اساسيا، ذلك انه مكّنه من ان يكسب معرفة نفسه، أخيرا.