كنــت ترعــى حيــاة لــم تكــن لــك

المقاله تحت باب  نصوص شعرية
في 
15/07/2011 06:00 AM
GMT



سوى المرارة
تلفحُ وجوهنا بدخانها
النارُ التي تأتي من التهلكة
وفي الطريق، حينما نمرُّ
نرى الأشجارَ ترنّحُ أثمارَها
في الهواء لكي تتساقطَ
ودائماً نخفي العيوبَ التي فينا
نغطيها بأثوابنا البالية
وحين تكون في كلامنا
نلجأ إلى الصمت أو إلى التأتأة
لا شيء هنا، نعرفُه ويخصُنا
سوى المرارة التي في لُعابنا.
نصفّرُ لحنها
في الأغاني التي نصفّرُ ألحانَها صامتينَ
كنّا نعودُ من رحلةِ الأسى إلى البيتِ
وفي الطريقِ التي نسلكها وابن آوى
كان الذئبُ عند الغروب يمرّ
أجسادُنا تقشعرُّ وتصطكُّ الأسنانُ
خوفاً، فنسرعُ الخطوَ، قبل أن ينقضّ
علينا، كنّا نصرخُ عالياً وفي الأحلامِ،
نركضُ ونركضُ قبل أن نفزَّ
عَرِقينَ، الشمسُ ستشرقُ عما قليلٍ
العصافيرُ تطيرُ، وكلُّ شيء على حالهِ
كما تركناهُ، كتابُ الأسى مفتوحاً
فيما نسيمُ الصباحِ يقلّبُ الصفحاتِ...
في الأغاني التي نصفّرُ لحنَها صامتين
فيما نحنُ نسيرُ، أمطارُ الحزنِ تهطلُ
أجسادُنا التي فقدت ماءها، تنتشي
من جديد، فنتركُ مراقدنا لكي
نلقي نظرةً على الدنيا في هذا النهار.
في السرير ينتظر
لم يفكّر بحياته، حينما آنذاكَ
سارَ، كان فارغَ اليدينِ
يجرّهُ الوهمُ وهو يسيرُ طائعاً
يُرغي، حين يتراءى لهُ الألمُ
أو حينَ يفزُّ الحنينُ في لا وعييه
كان هناك، عارياً من كلٍّ شيءٍ
حولهُ الطينُ والضبابُ والرياحُ
كانَ يسيرُ، فارغَ اليدينِ
لم يكن بعدُ بعكّازٍ، لا رأى
أطيافَ ماضيه وقد تلاشتْ
ولم تكنْ البئرُ قد جفّتْ
والطيرُ مازالَ من بعيدٍ يلوحُ
لكن الصورةَ غامت تماماً
وانطفى النورُ وحلَّ ضبابُ
السنين حوله، والرؤى أظلمت
وانتهى ملقىً في السرير ينتظرْ.

أحلامٌ في أربيل
كلما ذهبتُ إلى النوم، سرتُ
حافياً في الجبالِ والسهوبِ
وكلما نزلتُ من البيتِ، كنتُ
أنسى متاعي، فأبقى طيلةَ
الليلِ ساهراً، مفكّراً بالذي
كان، بهذه النجومِ والأسطحِ
العارية من بعيدٍ، من كنتُ
وكيفَ أوصلني المصيرُ إلى
كفّة الميزان، كيفَ نجوتُ حقاً
ورأيتُ أترابي وقد ضاقتْ
بهمُ سُبُل الحياة، فماتوا همّاً
وساروا إلى القبور فرادى
أو لاحتهم الطلقاتُ في الجبهاتِ
فكانوا طعاماً للوحوش، أرى
الذكرى من بعيدٍ، طيفَ ضحكاتهم
وهمُ يلوحون في صورة الفرحِ
البعيدة، أسنانهم البيضاء
وشعورهمُ، تلك الصوّرُ
التي تلاشت تماماً، فكنتُ كلما
ذهبتُ إلى النومِ، سرتُ حافياً
وراء المُهجِ الجريحة، وراء الخيال
الذي لاحَ ثم اختفى حين كانَ
عليَّ أن أرفعَ الغطاءَ وأن أستحمَّ
سريعاً، فالطريقُ إلى المطير ليس بالقصير.
أربيل
أحلامٌ أخرى
نالَهُ الحزنُ وهو سائرٌ
يرعى في البيداء بنات أفكاره
حلّ عليه بظلّه كغيمٍ
فتلاشى الكلامُ الذي قاله
الكلامُ الذي ظنّ أنه يسمعهُ
وكلُّ الذي له تراءى
ناله الحزنُ فيما كانَ ينامُ
متقلّباً على جمرة الذكرى
هارباً من طيفه الأبدي:
سُعلاة الطفولة، وهي ترغي
رافعةً ذراعيها، متلّبسة
صورة أمه، غير أنه يعرفُ
أنها السعلاةُ، أتت لتأخذه
إلى بيتها في عُمق البحيرة.

أنا الذي....
أنا الذي لم يجد حياةً ليبكي عليها
سارَ في الطريق طويلاً
ثم حين مدّ يداً ليطرقَ البابَ
تلاشى كلُّ شيء وتاهت
العينان منه، فعاد إلى أيّ
ركنٍ ليجلس مغمض العينين.
حين أبكي على نفسي
إلى مؤيد الراوي
طالما جلستُ وحيداً ببيتي
أبكي كلّ مرّة على نفسي
أنا الذي سرتُ من بلادٍ بعيدة
إلى أخرى، وحيداً، تهتُ
تماماً، ونسيتُ نفسي حقاً
لم أعد أعرفُ الكلمات التي حفظتُ
عن ظهر قلبٍ، ونسيتُ هرشَ
عاقولةَ الطريق، زهرها، نباحَ الكلاب
وركضتُ، هارباً من الأوهامِ
من الجوع في كلّ مرة.
حينما أبكي على نفسي، تكونُ
البابُ مواربةٌ وكل صوتٍ
ينعسُ قربَ نفسي الحزينة.
ما كانَ كانَ، وكلُّ ما سيكونُ أيضاً
فربما أكونُ قد وصلتُ إلى رُكني ببيتي.
غير أن الصدى..
كان يريدُ أن يحيا وحيداً
بعيداً عن الظلِّ، عن الأضواء
كان يريدُ أن يحيا في المدينة
شارداً من الدنيا، تاركاً
كلَّ حيْفٍ مكانه، مصغياً للذي
يدقُّ دائماً بمسمارٍ أفكاره
ثم حين يستيقظَ من النوم
ينزعها كمتروكٍ ويلفها بكيسٍ
ليمضي حافياً في المدينة.
كان يدري، أنها الذكرى تراه من
جديد وتعطيه شكلاً، كان يدري
غير أن الصدى الذي أعادوه
إليه، لم يكن ذاك الصدى
ولا الصوت، الحسرة التي أطلقها
ثم سارَ، لم يكن ذلك الصوت
كان يدري، أنه يمضي في غاب الهمومِ
ويرمي بالدلو في بئر المرارة.
العودة من الحرب -2-
حينما عادَ – الحربُ لم تنته بعد
رأى نفسه حافياً في البراري
يسيرُ، لم يكن يحملُ شيئاً
الهواءُ ساخناً يهبُّ، لم تكن
حرارةُ الصيف، فالصيفُ بعدُ
لم يحلّ، لكنه حينما عادَ
والحربُ لم تنته بعدُ، أرادَ
أن يشقّ الطريقَ بنفسه، غير
أن ذكريات الحياة لم تدعه
فأقعى على جانب الدرب، كان
يبكي ربما، أو أراد أن يستريحَ
حينما عادَ، ظلّ مُقعياً على جانب
الدرب، لحمهُ جفّ وخيالُه تلاشى.

حياتُك تنتهي، تقفلُ البابَ عليكَ
بالأمس جئتَ من بعيدٍ، كانت
الآلامُ تهدُّ حيْلك، قدماك
تخطوان وعيناك زائغتان
تنظرُ من الشباكِ إلى الدنيا
كم كنتَ تتيه من أجل أوهامٍ
لم تعد تراها، حافياً سرتَ
على الدرب، أفعى الطفولة
تصيءُ في أحلامك، وتلك الذئاب
خلفك كيفما نمتَ، كانت
الغيومُ تريدُ أن تمطر
والعتمةُ تلف النهارَ، متى
تحينُ النهايةُ، متى تصعدَ؟
كنتَ تسأل نفسك، غير
أنك لستَ تدري.

في طريقهِ، كان مغطى بالثلوجِ
لم يجد شيئاً ليرفعهُ، لكنّه فكّر
بالأسى، بالفراق الذي لديه
بالحزن، ألمْ يك حاملاً للحزنِ
أينما كان، أو أينما سارَ؟
الشمسُ تشرقُ، شباكهُ
الغرفة الأخيرة، وأدرانه
التي تلوك له بطنه، تشدّ
من أزرها، لقد كانت
هي حياتهُ، حزنهُ الفائض
وأفراحهُ التي لم يعد يعيها.
اليومَ، رأى في المنام نفسَه
وقد تلاشت، تلك الكلمات وقد اندثرت
فسارَ قليلاً، على الدرب، أرادَ
أن يذوق طعمَ الفراق من جديد
أن يشربَ نخب الحياة ويمضي.

كانت الأيامُ كلاباً، وفي طريقنا تسيرُ
لتنبحَ العابرين مثلنا، لتركضَ
اليومَ هنا، وتنهب الزادَ الذي لنا
فنبقى حائرين أمامَ الذكريات التي
من بعيدٍ كسرابٍ تلوحْ.

اليومَ، تأخذها الذكرياتِ
تدفعُها على الدرب دفعاً
فيما تحرّك أصابعَك النحيفةَ
يدَك التي تمدّها في الهواءِ
فيما أنتَ تسيرُ وحيداً
وكأنَ الليالي التي مرّت
لم تكن ليالي...

أنا الذي لم يعُدْ يكتبُ شيئاً
مضّى نهارَه في السير
كانت يداهُ مرفوعتان والذكرياتُ
تلوحُ من بعيدٍ، وكان الضوءُ خلفها
يتلاشى، حياتُه الأولى، أحلامُه
التي كان فيها يستطيرُ من الافعى.
كان قد عادَ، ألقى بخرجهِ
ثم نامَ قليلاً، لكي يتوه
في الدرب من جديد، لكي يلقى
الذي ضاعَ ثم يمضي
الخرجُ على المتن والعصا
من بعيدٍ تلوحُ كعكازٍ
كان يدري أنها دنا
وكلُّ الذي كان، كلُّ الذي يكونُ
يدفعهُ من جديد، لكي
يسيرَ ويغنّي بصمت.

تُنازِلُ نفسكَ ليلاً، وفي النهارِ
تنهضَ، لكي تركنَ الذكرياتِ جانباً
أينَ ضعتَ؟ وكيفَ سارَ الزمانُ
بك ببطْ؟ كنتَ ترعى حياةً
لم تكن لك، الشباكُ مغلقٌ، الضبابُ
يلفُّ كلَّ الفراغِ على النهر
الماءُ يسيرُ ببطءٍ، والليلُ الذي
فيكَ يحلُّ نهاراً، فتأسى، حقاً
ترى سيرة الدنيا، لم تعُد تُباعُ
بقرشٍ، ترى الذي كانَ، الذي
حلّ، الذي صارَ، ويصيرُ، الدخانَ..
ثم تعودَ لتجلسَ إلى نفسك، عساها
يأتي الحرفُ إليها، عسى ينطق الصمتُ

أنا لم أعدْ أفكّرُ، تجهلني الحياةُ
إلى يدي أسيرُ، إلى فمي
أسيرُ من هنا، إلى هناك
كنتُ دائماً أعرفُ النفسَ، أرى
شِباكها، وكلّما ضاعت الذكرياتُ
وجدتها من جديدٍ، أنا الذي لم
أفكّرُ، فمي مغلقٌ ولا يد
عندي لأفتحها، كنتُ أرمقَ
النهرَ من بعيدٍ، ماؤهُ يسيرُ
الأخشابُ تطفو، فوقُها الطيورُ
تبني في الأحلامٍ أعشاشها
غير أني، أفكّر دائماً، بما أكون
قد نسيتهُ، كانت الحياةُ تربطني
بخيْطٍ وكنتُ ألاحقُ الذكريات
من هنا، إلى هناك، وكلما وجدتها
أضعتها وسرتُ ألاحق الحياة.

كان يريد أن يتعلّم الشعر، أن يُمسك بالصورة، بالبيت، بالقافية. سارَ وحده، ثوبُه ممزوق ونهارُه يلوحُ بنيرانه، لقد تشبّث بكل بارقة أملٍ وبكل نأمةٍ، المكانُ الذي أنّ فيه، لم يعد يستطيع أن ينساه، أن يجرجره إلى آخر الحياة. فقد أفِلَ في نفسه، حملَ السخط والمرارة وسارَ بهما، طويلاً سارَ بهما، جنَّ ليلُه وضاعت أيامُه كثيراً، ضاعت طرقُه وامّحت آثارُها.

أُريدُ أحداً غيري يموتُ
هنا، أنظرُ نفسي سائراً
كلُّ ما ضاعَ فيّ، تاه تماماً
ورميتُ حِمْلي، رأيتُ
طَرَفَ النهار، فيه ضِعتُ
وكمْ آثرتَ السكوتَ، الموتَ
بصمتٍ، تخليّتُ عنّي، ورأيتُ
الجرحَ وقد أغمضَ العينين
الألمَ وقد سارَ نحوي
كنتُ نفسي، أسيرُ ولا أصلُ
أينَ راحَ هذا الحِمْلُ، وكيفَ
خفّ حقاً، هل خفّ حقاً؟
اني نأيتُ، تركتُ نفسي
ثم حينما ضجّ المنامُ، أفقتُ
كنتُ وحدي، دائماً كنتُ وحدي
رافعاً يدي، في المدن الصغيرة
والكبيرة، ألأمي الذي ضاعَ
وجدتهُ، ودمعي شربتهُ لكي
أبكيه من جديد، كنتُ نفسي حقاً
ولم أجدني.