حواجز كونكريتية، ونفسية، تسقط في بغداد وترتفع على الحدود |
المقاله تحت باب قضايا نقاش:
الكتل الاسمنية الثقيلة التي عاشت مع السكان منذ عام 2005، بدأت تغادر شوارع العاصمة قبل شهور قليلة من موعد الانسحاب الأمريكي المقرر في نهاية العام الجاري، وهي تتجه الآن صوب الحدود الدولية لتكوّن جدارا عازلا بين العراق وجارتيه إيران وسوريا.
"رغم سعادتنا بإزالتها، إلا أننا خسرنا لوحة علانية كبيرة ومجانية" يقول حامد جليل صاحب محل لبيع الملابس فيما يشير إلى المكان الذي رفعت عنه الحواجز الكونكريتية من أمام محله في شارع فلسطين. ما يعوض خسارة جليل الإعلانية، هو كثرة الزبائن الذين بدؤوا بالتدفق على محله الصغير من الأحياء المجاورة. "لقد تضاعفت مبيعاتنا في الشهر الماضي" يقول مبتسما. اللجنة الأمنية في مجلس محافظة بغداد أوضحت أنها رفعت منذ 12 شباط (فبراير) الماضي، ما نسبته 50% من الجدران، كانت تغلق منافذ وشوارع رئيسية في بغداد، وهي مستمرة في رفع المزيد منها. فضلا عن استخدامها كلوحات للترويج الإعلاني، تحول قسم كبير من تلك الجدران إلى صفحات لكتابة الشعارات السياسية والانتخابية، كما استخدمتها الجماعات المسلحة في تدوين رسائل التهديد، والمراهقين لبث رسائل الحب. لكن قطع الاسمنت شكلت في الوقت نفسه، نوعا من العزل الطائفي بين الأحياء الشيعية والسنية.فبعد أن نقلت الميليشيات المسلحة وتنظيم القاعدة حربهما المزدوجة فيما بينهما ومع الأمريكيين إلى داخل الأحياء، ولعبا دورا كبيرا في تدهور الوضع الامني منذ منتصف عام 2006، كثفت الحكومة العراقية من نصب الحواجز لإنهاء النزاعات الطائفية التي قادها مسلحون من الجانبين. الحواجز جميعها حملت أسماء الولايات الأميركية آنذاك، فحاجز "آلاسكا" كان ارتفاعه أربعة أمتار وطوله مترا واحدا، أما "تكساس" فارتفاعه ثلاثة أمتار ونصف المتر، وطوله متر واحد، فيما يتقلص ارتفاع "نيوجرسي" الى ثلاثة أمتار، ليحتل المرتبة الأخيرة حاجز "أريزونا" بارتفاع متر ونصف المتر. النوع الأول أحيطت به المنطقة الخضراء والسفارات الأجنبية في بغداد، واستخدم الثاني والثالث في عزل الأحياء السكنية عن بعضها، أما النوع الأخير فكان عازلا بين الأسواق. حي الأعظمية السني أحيط بجدار فصله عن الوزيرية الشيعي، وكذلك عزل سياج آخر مدينتي الحرية والكاظمية الشيعيتين عن حي الغزالية السني، شأنهما شأن عشرات الأحياء السكنية الأخرى، ما جعل من العاصمة بغداد أشبه بأرخبيل من الجزر المعزولة. الحال ذاته انطبق على الأسواق التي أغلقت مناطقياً، فلم يعد بمقدور قاطني الأحياء السنية التبضّع من سوق الكاظمية الشهير بأسعاره المناسبة. سجا محسن حسن، تعمل موظفة حكومية، كانت تسير مسافة (800) متر قبل أن تصل إلى الشارع الرئيس وتركب التاكسي إلى مقر عملها. اليوم تقطع سجا مسافة تقل عن عشرين مترا فقط تفصل منزلها عن الشارع الرئيسي في حي الحرية الشعبي. تقول سجا إن "إزالة الكتل الإسمنية فتح باب التعايش الاجتماعي مجددا بين الناس، الذين اعتبروا الخطوة مؤشرا على تحسن الوضع الأمني". أما السياسيون، فبقيوا في عزلتهم بعدما رفض الكثيرون منهم رفع الحواجز عن مقرات أحزابهم ومنازلهم، والأمر ذاته مع سفارات الدول التي ستبقى محاطة بتلك الجدران الى وقت غير معلوم. مصدر مقرب من رئيس القائمة العراقية أياد علاوي أكد ل ـ"نقاش" أن رفع الحواجز سيعرضنا للاستهداف"، وأن "خطوات احترازية كثيرة يتوجب ان تسبق هذا الإجراء أهمها تكثيف التواجد الأمني بالقرب منها". وأضاف المصدر أن "جميع المؤشرات تدل على خروجنا من أتون الحرب الأهلية، لكن الخروقات الأمنية والعمليات الإرهابية ما زالت تحدث باستمرار". التقديرات التي أعلنتها الحكومة حول كلفة الحواجز منذ بدأت نشرها في شوارع بغداد كانت متضاربة، لكن التكلفة التي تحدث عنها الأميركيون كانت (11) مليار دولار أميركي آنذاك على أساس أن سعر الحاجز الواحد تراوح بين (400- 700) دولارا طبقا لارتفاعه وطوله. المعترضون على استخدام الحواجز في السنوات الماضية، ومنهم أعضاء برلمانيون، أشاروا في مناسبات عدة إلى أن الآجر والحصى والرمال المستخدم في صناعتها كان يكفي لتشييد حي سكني من خمسة آلاف منزل يكفي لإيواء آلاف العائلات المشردة في بغداد والتي تقطن تحت الجسور وفي المباني الحكومية المتروكة. مليارات الدولارات تلك لن تذهب هباءً بحسب التصريحات الحكومية، فالكتل ستنتقل وتمتد على مساحة (1458) كيلو متر شرقي العراق هي طول الحدود العراقية مع إيران، و(605) كيلو متر شمالي غرب البلاد على حدوده مع سوريا. من جهتها، أشارت قيادة عمليات بغداد إلى أن نقل الجدران إلى الحدود سيكون بمثابة "نصب حاجز عازل عن الإرهاب المتدفق من دول الجوار". ورفضت القيادة التعليق على الآلية التي سترفع فيها الجدران على الأراضي الحدودية الوعرة والمرتفعات التي تفصل إقليم كردستان عن إيران، والتي تمتد على طول (800) كيلو متر. خليل سلمان العاني الخبير المتخصص في علم النفس الاجتماعي يجد في ازالة الحواجز الكونكريتية نهاية لمرحلة المصادمات الطائفية في البلاد، وبداية جديدة لنوع من التآلف المجتمعي بينهم". العاني أشار أيضا إلى أن "بعض السكان بدأوا بـاستئجار جرافات وإزالة حواجز على نفقتهم الخاصة". أما جليل، صاحب محل الألبسة، فيؤكد أن "الحواجز النفسية بين العراقيين، تتكسر هي الأخرى شيئا فشيئا"، وهذا هو الأهم في رأيه |