كورماك مكارثي و (ثلاثية الحدود) الأميركية - المكسيكية |
المقاله تحت باب مقالات و حوارات كنتُ أسمع أن هناك ثلاثية أميركية حديثة، لكنني لم أسأل ولم أبحث عنها. ثم وجدتها مجتمعة في كتاب صدر حديثاً عن دار «بيكادور». النسخة تقع في أكثر من ألف صفحة. قرأت التعليقات على الكتاب، فدوختني من كثرة الإطراء. لم أرَ كتاباً كتبت عنه إطراءات كهذا. اقتنيته برغم حساسيتي من إطراءات الكتب، لأنها ربما تكون دعاية لها. وبدأت أقرأ هذا السفر الثلاثي الكبير في أثناء استراحاتي من كتابة عمل روائي لي جديد. عنوان الرواية العام هو «الحدود»، وعنوان جزئها الأول هو «كل الخيل جميلة»، والجزء الثاني هو «العبور»، والجزء الثالث هو «مدن السهل». أما المؤلف فهو كورماك مكارثي. قد تتعذر الكتابة عن ثلاث روايات في كلمة محدودة المساحة. وأنا لست مختصاً في نقد الرواية، وأجد مهمة الكتابة عنها مضنية. فقد أرهقتني قراءتها بلغتها المتعبة. الحوار بين أن يكون بإنكليزية كاوبويز واللغة الإسبانية. والسرد لا يختلف كثيراً في لغته عن الحوار. وأشهد أنني هممت غير مرة بالكف عن القراءة. لكنني كنت أخشى أن أخسر في رهاني هذا، فأعاود القراءة، لأن التعليق على واجهة الكتاب يحضّني على ذلك: «انعطافة في الأدب الأميركي». مع ذلك أنا قارئ صعب جداً، لا يعجبني العجب، لأن ذوقي أرستقراطي. وهنا أواجه «أردأ» لغة صادفتها في تجربتي كقارئ، لكنني بقيت أتجمل بالصبر، لأنني لا أريد أن أنسى أن جريدة «غارديان» المحترمة نعتت الثلاثية بأنها «انعطافة في الأدب الأميركي». بقيت أتحمّل اللغة الجافة جداً، والتي تقتّر إلى حد الإزعاج بما تريد أن تقول، لأمسك بالخيط العام، أو الخيوط التي تشد الثلاثية مع بعضها بعضاً. وكان الجزء الثاني لا علاقة له بالأول مطلقاً، لكنه يلتقي معه في الجزء الثالث. جون غرادي كول في السادسة عشرة من عمره، لكنه كاوبوي من الطراز الأول. يبيع أبوه مزرعة الأبقار التي يملكها في تكساس، فيواجه فراغاً، ويقرر الذهاب الى المكسيك مع ابن عمه رولنز ليمارس هناك حياة ومهنة الكاوبوي. نحن في الحرب العالمية الثانية حيث تشهد حياة الكاوبويز أفولها. ويقطع ابنا العم كل المسافة الى المكسيك على صهوتي جواديهما، يمضيان معظم أيامهما في العراء. ويجعلهما المؤلف يلتقيان بمتشرد أصغر منهما عمراً، فيلتحق بهما في مسيرتهما المجهولة الهدف. وأنا بقيت ضجراً من سيرورة القصة إلى أن وصل المغامران مكاناً شاهدا فيه فتاة من علية القوم على صهوة جواد عربي. هنا انتهت حياة الضياع والصعلكة لتبدأ مرحلة العمل على «ترويض الخيل»، والحب. صاحب المزرعة (المكسيكي) ارتاح إلى طريقة ترويض جون غرادي الخيل «غير المروضة»، ودخل معه في حديث عن الخيل، فدهش لمعرفة جون غرادي بالخيل. وصاحب المزرعة هو أبو الفتاة التي شوهدت ممتطية فرساً أندلسياً. وتنشأ علاقة بين جون غرادي والفتاة، اسمها أليخاندرا، وهي فاتنة بعينين زرقاوين. المبادرة منها. وتتحدى العيون، وتخرج معه على صهوتي حصانيهما، ويبيتان في العراء. ثم يعودان، وتبقى معه تسع ليالٍ موصولات في غرفته (طبعاً هو ضيف عند أبيها)، ثم ترحل الى مكسيكو سيتي... لكن أباها لم يسكت على ذلك. أرسل جون غرادي الى سجن بعيد، تعرض فيه الى أقصى أنواع الأذى. ثم أطلق سراحه مع مظروف يحتوي على نقود. إنه من عمة الهاتندادو، والد أليخاندرا. ويعود جون غرادي الى القصر ليجد العمة ألفونسا، أو ألفونسيتا بلسان الهاتندادو. وهنا نقرأ أجمل صفحات الكتاب. حيث تتحدث العمة، عمة هيكتور، الهاتندادو (مالك الأراضي الواسعة)، التي أصبح أقاربها في رئاسة الجمهورية بعد ثورة 1939. لكن سرعان ما غُدر بهم وقتلوا شرّ قتلة. إننا نقرأ هنا أكثر صفحات الرواية تألقاً وتراجيدية. لكن هذا المقطع يبقى فريداً في كل الثلاثية، التي أعترف بأنني لم أجد متعة كبيرة في قراءتها باستثناء هذا المقطع الذي نقلنا من جو الرواية الفاقد الأهمية الى عالم الثورة المثير. وأعترف أيضاً بأن العمة ألفونسا، وابن أخيها، مالك الأطيان الواسعة، وابنته أليخاندرا، الفتاة الفاتنة والمتمردة لكن بمقدار، كانوا النقطة المتألقة في الرواية. وعدا ذلك لم تملأني الثلاثية بعالمها وأحداثها، ربما عدا الجزء الثالث أو قسمه الأخير. فبعد أن يلتقي جون غرادي مرة أخيرة بأليخاندرا، ونقرأ مشهد حب مؤثراً، جعل المؤلف عنصر العقل يتغلب على العاطفة. فالفتاة تحب جون غرادي، وتمنحه نفسها (في الفندق)، وتبكي على كتفه، لكنها تضطر أن تغادره في محطة القطار، لأنها لا تستطيع أن تتراجع عن الكلمة التي أعطتها للعمة. وينتهي الجزء الأول بمغامرة «جيمسبوندية» يقوم بها جون غرادي، في اختطاف الكابتن الذي احتجز أحصنتهم (هو وابن عمه والصعلوك)، واستعادة الخيل، والعودة بها الى تكساس. ولعل الكاتب، كورماك مكارثي، هو كاوبوي، أو ملم إلماماً واسعاً بحياة الكاوبويز. وينشأ لدى القارئ انطباع بأن الكاتب ربما عاش تجربة الأحداث التي يتحدث عنها. فهو على دراية مذهلة بطوبوغرافية المسيرة التي قطعها ابنا العم من جنوب تكساس الى شمال المكسيك، لأنه يتحدث عنها شبراً شبراً، بما في ذلك كل المدن والقرى والأنهار والسواقي، إلخ. وهذا يسري على الجزءين الآخرين. في الجزء الثاني، يحاول بيلي بارهام (16 سنة) بمساعدة أبيه إيقاع ذئبة في شرك (نصبا لها أكثر من شرك) لأنها كانت تفترس عجول مزرعة الأب. وبعد محاولات عدة يفلح بيلي في إيقاعها بالشرك. وتبدأ قصة ترويضها المضنية وهو في طريقه الى شمال المكسيك ليطلق سراحها هناك، في موطنها الذي قدمت منه. حكاية لا معنى لها مطلقاً. لماذا يتجشم الصبي كل الصعاب في طريق غير آمن، ويقطع مئات الأميال بلا غاية معقولة، سوى أن ينقل هذه الذئبة الى «موطنها» في المكسيك؟ وكلما صادف أناساً، تعرض الى أسئلة محرجة حول هذه الذئبة التي يصطحبها معه الى المجهول. ثم يعود الى موطنه في نيومكسيكو (أميركا) بعد أن تُقتل الذئبة، ليجد أباه وأمه مقتولين، قتلهما لصوص من الهنود الحمر لا بد أنهم تسللوا من الحدود المكسيكية، وسرقوا خيلهم. ويجد أخاه بويد في منزل آخر. فيعود بيلي معه الى المكسيك على صهوتي جوادين بأمل استعادة الخيل التي سُرقت. وتبدأ جولة ماراثونية في شمال المكسيك، يلتقيان في أثنائها بأناس يعيشون في قرى ومخيمات عمل (في مزارع). وفي سياق تجوالهما يصادفان فتاة مكسيكية تسير في الطريق بلا رفيق، وهي تحمل صرّة كبيرة معها. ثم يجدانها مرة أخرى مع جماعة مخيمة قرب نهر. فيختطفانها برضاها، وترافقهما خلف بويد الأصغر على جواده. ويدخل المؤلف في تفاصيل طويلة نفهم في سياقها أن تفاهماً خفياً يحصل بين بويد والفتاة، فيفترقان عن بيلي. بعد ذلك يعثر بيلي على خيل أبيه في مخيم، يعيدها اليه صاحب المخيم بعد أن يعلم أن هذه الخيل تعود الى والد بيلي. ثم يبحث بيلي عن أخيه الأصغر بويد، فيكتشف أنه قُتل، ويفقد أثر الفتاة أيضاً. ويصرّ بيلي على نقل رفات أخيه الى الوطن. ويكتشف أن الولايات المتحدة دخلت الحرب (العالمية الثانية). فيحاول الانخراط في الجيش، لكنه يُرفض لأسباب تتعلق بأداء قلبه. وينتهي هنا الجزء الثاني من الثلاثية. في الجزء الثالث يبلغ الصبيان جون غرادي وبيلي بارهام مبلغ الرجال. ويعودان الى المكسيك لأنها توفر لهما عملاً ككاوبويز أكثر من موطنهما الذي انقرضت فيه هذه المهنة. ولا يكاد عالمهما يتعدى 070509b.jpg العمل في مرابض الخيل والتردد الى دور البغاء. وسيتنقل بنا المؤلف بين مرابض الخيل ومواخير المكسيك، وسيبقى يصفع ذوقنا بلغة الكاوبويز الفقيرة في مفرداتها حد الإدقاع. إنها لغة إشارات، وهمهمات، وبصاق، وتكرار تملأ الكتاب من أوله الى آخره. وقد أعجب بها كثيراً بعض المعلقين. أما أنا فقد أضجرتني هذه اللغة، فضلاً عن جهلي باللغة الإسبانية التي دار فيها معظم الحوار. لكن هذه اللغة كانت مثار إعجاب بعض النقاد، كما قلت. ثم إن الرواية ليست في لغتها، أو ليست في لغتها فقط. وإلا لسقطت روايات عظيمة نعرفها. الرواية في فنها وفي سحرها الخاص. ولا أنكر أن لهذه الرواية سحرها الخاص. لكنني لست من المعجبين بهذا السحر كثيراً. وأعترف بأن لغتها نفرتني منها، لولا أن عالمها شدني إليها إلى حد ما. |