سعدي يوسف بين (القصيدة) و (التدوين الشعري) |
المقاله تحت باب مقالات و حوارات تثير الأعمال الأخيرة للشاعر سعدي يوسف أكثر من سؤال عن الشعر بوصفه "فن قول"، وعن القصيدة الجديدة التي عُدّتْ، من قبل الشعراء أنفسهم والنقاد، نتاج تطور عرفه الفن الشعري العربي في العصر الحديث بما شكل انعطافة حداثية مهمة تمثلت، أولاً، في قصيدة الشعراء الرواد، ثم أخذت خط تطورها، وانتكاستها أيضاً، في شعر الأجيال التالية. ونخص الشاعر بمثل هذا السؤال انطلاقاً من كونه يمثل تاريخاً شعرياً يمتد من خمسينيات القرن العشرين الى اليوم، وهو التاريخ الذي عرفت فيه هذه القصيدة من التحولات، في الشكل وأسلوب البناء الشعري والمضموني، ما يضعها بين التطورات الأوسع تاريخاً، وربما الأكبر منجزاً. أما الشاعر فهو من مَثَلَ أمام قارئه، أول ما مَثَلَ، شاعراً متجاوزاً في أول عمليين شعريين له، وهما "النجم والرماد" و"القرصان والكلمة"، تلك البدايات الرومانسية التي اقترنت بها الأعمال الأولى للشعراء الرواد. وها هو اليوم يمثُلُ شيخاً في أعمال شعرية جديدة نتوقف عند الأخير منها: "قصائد الخطوة السابعة". (2010) ولعله في متابعته التواصل، وما يعده "تطوراً"، أو "تطويراً" للقصيدة الجديدة، إنما يريد لدوره الشعري أن يفتح آفاقاً جديدة امام القصيدة الجديدة، ذلك أن طموحه، كما يبدو من مسارات أعماله الشعرية، هو أن يكتب قصيدة جديدة تنفرد بخصوصيتها الفنية، والمضمونية كذلك.. الأمر الذي يدعو دارسيه الى النظر إليه من خلال منجزه الشعري بذاته، ووضع هذا المنجز والنظر إليه من خلال تطور القصيدة العربية الجديدة في سياق تاريخها الذي عاش تطوراته، وأسهم فيها، وانبنى ذاتاً ابداعية في خلال ثلاث حقب لهذا التاريخ التجديدي: حيث البدايات التي شكلت، أو تشكلت فيها تجربته وأعماله الأولى، ثم حقبة التطور التي عرفت نضج هذه التجربة وتكاملها معطى وفناً، ومن بعد ذلك تجربة الستينيات التي ستنفرد بغير قليل من الخصوصية الشعرية، ممثلة تطوراً فعلياً في حركة الشعر الجديد هذه، وما تزامن مع هذا كله من موقف نقدي كان له دور كبير في تطور الحركة وفي بناء الأسس الموضوعية لها. وقد كان، وما يزال، للشاعر سعدي يوسف مساره الشعري الخاص الذي عمد من خلاله الى صياغة تطوره الشخصي الذي كان قد بلغ ذروته في عمله الشعري المميز: "الأخضر بن يوسف ومشاغله" في أوائل سبعينيات القرن الماضي، وهو يتواصل اليوم، لا مع تلك الرؤيا الشعرية، بل مع "الكتابة الشعرية" التي ستتخذ عنده منحى آخر، إن رأى فيه تطوراً لشخصيته الشعرية وتطويراً لمنحاه الشعري، فإن من نقاده من يجد فيه تراجعاً واضحاً في مساره الشعري، ونهاية للقصيدة، بمعناها وأبعادها ومقوماتها الفنية، لتحلّ محلها "اللقطة العابرة" و"الخاطرة السريعة"، فإذا بما يكتبه اليوم لا يمثل حالة تميز شعري بقدر ما يقدم تأكيداً للتراجع، وإقراراً بالانكسار.. ولم يكن الأمر عابراً بالنسبة لشاعر ذي تاريخ طويل مثله. ولعل السؤال الأبرز الذي تثيره قصيدته اليوم هو سؤال المستوى الذي يريد لقارئه أن يتلقاه فيه، والذي هو، كما يتبدى من معظم ما كتب في السنوات الثلاثين الأخيرة، مستوى يتحدد في: ـ أولاً: لغة الخطاب الشعري الذي تقوم عليه قصيدته هذه.. فهي، في عموم سياقاتها، لغة محمولة على "مضامين" معظمها من قبيل "تصفية حساب" مع الماضي، اشخاصاً وأفكاراً ومواقف، ليكون الأمر هجاءً وتسفيهاً أكثر من كونه موقفاً شعرياً كونياً، وتجديدياً. ـ وثانياً: شكل القصيدة، وطبيعة ما تتخذ من بناء فني، وقد اتخذت ما يمكن تحديده توصيفاً بالصيغة التبسيطية التي تقترب بالنص من الخطاب المباشر واللغة الصحافية. ـ وثالثاً: أفكاره ورؤاه التخييلية في ما ينبثق عن/ ويتصل بواقعه الحياتي، وبارتدادات الذاكرة ـ وإن لم يبق لها الكثير الذي ترتد إليه في معظم ما كتب في خلال السنوات الأخيرة. قد لا تكون حالة سعدي يوسف الشاعر هذه حالة فريدة، وخصوصاً عند من عُرفوا بشعراء الحداثة، وإن كانت مثيرة للتساؤل في جل الحالات. فهو شاعر كرّس حياته للشعر، وكأنه وجد التفسير الفعلي لحياته بالشعر، وفي الشعر، فكتبه، وحين لم يجد ما يكتبه كان يترجم شعر الآخر الى لغته. ولعل ما كان يهمه، أكثر من سواه، هو أن يبلور موقفاً شعرياً من خلال ما عدّه، أو وجد فيه خبرات وتجارب دالة. وكانت المشكلة التي ربما واجهته هي: أن يكتب قصيدته هو ـ بمعنى: الانفراد بنمط شعري يكون شخصياً، ويميزه شاعراً في واقع الشعر المعاصر. لذلك نجده وقد كتب حشداً كبيراً، نسبياً، من "الأعمال الشعرية" حرص على أن يكون له فيها مثل هذا الطابع الشخصي، واضعاً ما كتب ضمن مستويين: مستوى التجربة، ومستوى الوعي بالتجربة.. وسيغدو هذا الوعي رائده، ومحركاً فعلياً للكتابة عنده.. إذ راح يرسل من ذات نفسه ما تتمثل فيه رؤيته الواقع، وموقفه من هذا الواقع، وفيه، ما سيجعل، من كتاباته هذه، اختباراً لغير قليل من حقائق الواقع، كما تبدت له أو بدت أمامه. إلاً أنه لم يكن ذلك "الشاعر الرائي" في ما كتب، بل كان الشاعر الذي امتلك "رؤية"، وقد امتدت به هذه الرؤية لتكون "نقدية" حيناً، و"شبحية البعد" أحياناً أخرى، وغير مستقرة موقفاً، في أكثر من مستوى من مستويات العلاقة بالآخر والأشياء، وهي تتواصل قولاً بما يشبه "الاستطراد في القول"، كما ان القضايا والشؤون التي استأثرت باهتمامه جاءت متقاربة المعنى، إن لم تكن واحدة البعد.. فقد فتح أبواب القول وأشرعها لنفسه، ولم يخش التكرار، الذي حصل، في قوله. فإذا كان في هذا المسار الشعري الذي اتخذ قد حقق لقصيدته "شكلها"، وهو شكل أقرب الى البساطة التي ينساب منها القول وكأنه مطلق الحال، فإن قصيدته، التي مالت الى النمطية، لم تحقق قوّتها الشعرية، ولا اتخذت بناءً له مقوماته الفنية.. فهي، في معظم حالاتها، لا تتعدى "الخاطر" و"الخاطرة"، متخذة فيهما بعداً سياسياً أو اجتماعياً لهما مصدرهما الواحد، الذي هو الواقع ـ وإن كنا نجده في هذا "الواقع الواقعي" وكأن "الموقف" له وحده، وليس لأحد سواه (كما في "الشيوعي الأخير" مثلاً)، وكأنه في هذا يعدّ نفسه "شاهداً" و"ضميراً"، على حد ما يعلن.. ولا شيء أمامه سوى "الماضي النموذج"، أو الماضي الذي يُقّدم من نفسه، هو، نموذجاً له، إن في الرؤية أو الموقف! العقود الأخيرة إلا أنه، فنياً، سيقع في محاكاة نفسه، إذ نجده في اعمال العقود الثلاثة الأخيرة من شعره لا يحافظ على شيء كثير، أو كبير، مما تحقق شعرياً في مدى نصف قرن من الشعر الجديد الذي كان، هو نفسه، أحد الأسماء البارزة فيه، بما لا يفتح به / أو من خلاله أفقاً لعالم شعري جديد، ومؤثر في الحركة الشعرية الحاضرة (التي تنحدر بكثير مما تجيء به اليوم، وبأسماء فيها، انحداراً محققاً). فقصائده هذه، لما بينها من تقارب في "عالمها" الشعري، تكاد تندمج مع بعضها البعض في نمط من الصور، واللغة التي أشاعت نفسها، أو أشاعها في كتاباته الأخيرة، وكأنه يدعو الشاعر فيه الى أن يجانس بين لغته ولغته، وصور تعبيره، وتشبيهاته (على فقرها)، وهي ما يشكل عامل مخاطرة بالشعر ـ نجده يحصد نتائجه في مجموعته الأخيرة هذه "قصائد الخطوة السابعة" ـ وهو ما يثير السؤال بشأن "الموقف الجديد" الذي يريد الشاعر جعل قصيدته تنتظم فيه من الناحيتين الفنية والموضوعية. فإذا كان "موضوعاً" قد أقام قصائده هذه على "التباين" و"الاختلاف" ـ بما يؤكد أن هناك تجربة شخصية ذات ابعاد متعينة واقعاً ـ فإن العنصر الفني فيها يبدو ضعيف البعد، بما لا يحقق لهذه القصيدة مكانة خاصة على أي مستوى من مستويات الشعر بوصفه فناً له قوانينه ومقوماته. وأخشى ما يمكن أن يُخشى في حال كهذه هو أن يمثّل الوضع المتحقق عند الشاعر "حالة اتباع" من قبل "شعراء" آخرين نجدهم اليوم يتحولون بما يكتبون الى كل ما لا يمتلك من مقومات الشعر شيئاً، إلا ما لهم من قول مبتوت عن الفن في أبعاده ومعانيه الكبرى. ولنعد هنا الى مجموعته الأخيرة هذه التي نجده فيها يأخذ بالروح التسجيلية التي ظهرت عنده في مجموعات أخرى سبقتها، لتكون هذه "الروح الميتة" شعرياً أساس ما يُعرف بـ"الأداء الشعري" الحاضر لديه: ـ "النسيمُ خفيفٌ / وسطح البحيرة مرآةُ دوحٍ وشمسٍ / يشوّشها بجعٌ أبيضُ / وسفينٌ من البط أسودُ./ والجندُبُ، الآن، يفتحُ باباً من الطينِ (...) من غصن صفصافةٍ رفَّ طيرٌ / وفي لحظتين اختفى". قد نجد في قصيدة الشاعر هذه "مغزىً متعالياً"، ولكنه التعالي على شيء ميّت، بحكم انتمائه الى "الماضي المستذكر"، وليس شيئاً ينتظر التكوّن والتكوين ـ وهذا بذاته هو ما يشكل مُقابل تشابه وتماثل، لا مقابلاً ضدياً، مصحوباً بما يمكن أن نجد فيه عقماً ذاتياً أكثر مما نجد منحىً ابداعياً، رغم محاولة الشاعر التمسك بما يحسبه "تجربة جارية"، لا يروم التحلل منها. ومع أنه في عمله السابق على هذا، "الشيوعي الأخير"، عمد الى ان يتصفح بعضاً من ذلك الماضي بشيء من التوقير، إلا أنه لم يعزز له مكانة (يجدها البعض تاريخية)، فإذا هو يلتاث بشيء من سباب صار يطلقه على الحاضر، وقد "ترجم" هذا الحاضر في حالتين، وهما: الانهيار، والتخلي عن مُثُل الماضي وقيمه النضالية، بكل ما له من تاريخ، وبما يختزن من تجربة (انتدب الشاعر نفسه ليكون حارسها!).. فسجلُّ حياة الانسان في "الشيوعي الأخير" ينقسم على زمانين، أو يتقاسمه زمانان: زمان يمثله الشيوعي الأخير ـ وقد خص بالتسمية نفسه ولا أحد سواها ـ وزمان آخر ينهار قيماً ومبادئ بانهيار ناسه. وهنا يفحص الشاعر "الأفكار"، ويرصد "التحولات"، ويراقب "الأعمال"، ويشخّص "المسارات"، ليخرج بحقيقة مؤداها: إن الانهيار الذاتي هو العامل الفاعل في تحقق انهيار الأخلاق والفكر، حيث يجد (أو نجد) الانسان، هنا، يتحوّل من كونه "مناضلاً" ذا تاريخ، الى "تابع ذليل"، ويتحول النضال نفسه، بقيمه الكبرى، الى حالة استخذاء وتراجع..لا تقود إلا الى السقوط. إلا أن مثل هذه الأفكار والرؤى المهمة لا تحظى، في ما هو مدوّن ومكتوب، بنصيبها الرؤوي والفني في ما يكتبه الشاعر فيها / عنها.. بل نجدها أشبه ما تكون بسيرة مسطحة سرداً، حتى لتبدو، في غير حالة منها وموقف، أدنى من واقعها بكثير، وكأن الشعر، في أبعاد قوّة القول فيه، أصبح عامل تحد يقف أمام صياغتها برؤية من "يرى".. فـ"الرؤية / الرؤيا"هنا محدودة بعداً وحركة بما يجعل "النص" محدوداً، هو الآخر، فهو لا يرتبط / ولا يصدر عن شعرية عالية التعبير، كما هي متعالية الموقف. ومع أن حقائق الواقع، الذي يُصدر عنه، هي ما يثير الكتابة ويحرّك فواعلها الموضوعية لديه، فإن القول فيها، وإن تراصف ذاتياً، كثيراً ما يتعثر به في مستوى الشعر بوصفه فناً، ليواجهنا في القصيدة الواحدة بالحلم القديم: (سنسير الى ساحة موريس، لننضمّ الى العمّال / ونهتف تحت الراياتِ الحمراءِ) وبانهيار ذلك الحلم على أرض واقع لم يعد يحتضنه: (... والساحة ـ أعني موريس بلانشه ـ / بدت فارغةً إلا من متسكعةٍ / أفراد...) حيث (لامطرقةُ ستالين، ولا منجل ماو... / العمالُ الألمان يعومون، سعيدين، بأنهار البيرة، / ثمتْ شمسٌ ساخنةٌ / والفتيات تمددن على العشب). وفي منحاه التسجيلي هذا يبدو كل شيء مطفأً، أو مترجعَ، أو مركوناً تاريخاً... فـ(الآن / أعالي الشجر اهتمدت ساكنةً / وتحرّك، في الأفق الملموس، الغيم). ومن هذه الرؤية المستَلَبة واقعاً يعلن: (ما أضيقَ العيش! / لو كان المدى بيدي / لكنتُ سرتُ الى ما ليس يُختَرقُ.) دورة الانفصال ولكنه حتى مع هذه "الذات المتعالية، على واقعها، المنافحة عن هذه الذات، يبدو في موقع الخاسر، والمهزوم.. فعلاقته بما "كان" هي علاقة من ارتحلت عنه الأشياء التي يحب ويرغب، وأضحت كل علاقة له، من الأفكار والمشاهد التي تتمثلها الى النساء، هي "علاقة العابر".. الذي قد يحمل منها "أثراً"، ولكنه لا يترك أي أثر، فهو المهزوم الذي تملى نفسه في صورة غصن مقطوع عن الشجرة، ولم يعد يمتلك سوى التساؤل: ـ "هل سيعيدُ الغصنُ الدورةَ؟ / أعني هل سيعودُ الغصنً المقطوعُ الى أشجار الغابة في يوم ما؟ / هل سيعود النسغ الى اللوح اليابس؟ / هل تخضرّ الأوراق؟ (...) / هل سأعود، كما سيعود المقطوع، الى الشجرة؟" وهذا هو ما يجعل شعوره بالوحدة عميقاً، وبالانبتات عن الآخر، والمكان، أيضاً: فبيته لم يعد هو بيته، والأغنية تغيب عن أفق سماعه، والبريد لم يعد يُحدّثه، و"السنجاب الذي يقترب مني اختفى اليوم. / وطائرا الزرياب رحلا"، لذلك سيختار: ـ "أنا منذ اليوم سأكون المدوّن (...) سأجلس على المصطبة الخشبِ. / سأظلّ جالساً حتى تحت نثير الثلجِ، لا أنتظر شمساً ولا / مصافحاً. سأكون صديقي..." غير أنه، إزاء هذا كله، لا يبدو منشغلاً بالبحث عن ذاته الحقيقية قدر انشغاله بمسألة "تجريد الآخر" من "هويته القديمة" ـ وهو الذي، بحسب رؤيته له، قد تخلى عنها، إن لم يكن خانها ـ رغم أنه، هو شخصياً، قد كتب ذات يوم، من مطلع الألفية الحالية، قصيدة يدعو فيها "توني بلير" الى التدخل لـ"إنقاذ" وطنه كي يعود والآخرين، الذين أحصاهم بالملايين الأربعة، تحت ظل ما يقيمه هذا "الفاتح" من عدل وحياة غير مهددة بشيء! (وهو ما حدث عام 2003 ، حيث فقد الوطن استقلاله وهويته على أيدي فئتين: الغزاة، الذين كان توني بلير وقواته العسكرية من طلائعهم.. والأعوان ـ الأدلاء، الذين سنجد الصورة الفاجعة لنفر منهم في "الشيوعي الأخير"، وفي بعض من قصائد مجموعته الأخيرة "قصائد الخطوة السابعة"... ويبدو أن "السيرة" التي دوّنها في "الشيوعي الأخير" قد استهوته فإذا هو يعمد الى تدوين المتبقي منها في "دفاتر الذاكرة"، وإن جاءت بصوت خافت في هذه المرة. ولكنها، في الحالتين، لا قيمة شعرية كبيرة لها ـ إذا أخذنا القيمة الشعرية في أبعاد كون الشعر فناً، قبل أي شيء آخر، وهو فن في اللغة، والبناء الشعري، وأسلوب التعبير، كما هو في معانيه الكبيرة، والجديدة. إن "المعنى" الوحيد، بارز الظهور، الذي تمتلئ به "مدوناته" هذه هو ما يتمثل في أبعاد الاعتداد بالنفس، وتغليب الذات، ذاته هو، على سواها.. فضلاً عن نزعة الهجاء التي تكاد تستأثر بلغته، ليس في هذا العمل وحده، بل وفي عديد الأعمال السابقة عليه. وكما يبدو، فإن الروح التي صاغت هذا كله، وقبل هذا دفعت إليه، هي روح "بطل مهزوم"، يشعر بهزيمته في كل لحظة وموقف، ويعيش هذه الهزيمة احساساً يحاول أن يدمغ به كل ما حوله، وهو ما يحكم علاقته بالتوتر. وهو إذ يأتي الصراع يأتيه من نهاياته، فيكتب عن "الجثث السياسية" المرمية على قارعة الأنظمة التابعة، فيستقوي عليها في حالة ضعفها وخوارها، مشيراً الى/ ومشخصاً ما أوقعت من انحرافات في الأفكار والمسارات، وكأنه يرمي الى تحصين نفسه والنأي بها عن نتائج ما حصل، وفي المقدمة من ذلك غزو العراق واحتلاله، وما جرّه الذين ساروا مع ركب الاحتلال على واقع له تاريخه النضالي ضد الاستعمار. إن قراءة الشاعر في شعره الأخير هذا قد تصطفي منه نتفاً وملاحظات قائمة على نظرة الى ما يحصل، وموقف منه.. ولكنها لا تخرج بحكم يقول بقصيدة مميزة فناً وبناءً، فضلاً عن كونها محدودة الرؤية، لم يفلت التعبير فيها من المباشرة ـ وكأن قصيدته هذه فقدت الأساس الفني الذي يقوم عليه الشعر، ليواجه سؤال النقد عما يمكن أن تنجزه مثل هذه الطريقة في الكتابة والقول شعرياً؟ إلا أنه، هو نفسه، يقول عن نفسه: "إنني مدوّن حياة، ولست شاعراً"، وإن استدرك، من بعد، مضيفاً إنه كان يريد القول: "إنني لا أنتسبُ الى رطانة السائد وانبتاته. |