الى مظفّر النوّاب آخر الصعاليك : أحاسيس ما بعد الموت وما قبل الحياة ! |
المقاله تحت باب مقالات و حوارات غادر وطنه في نهاية الستينات. المثوّر الأكبر لمدرسة الشعر الشعبي (العامي) العراقي، وشاعر قصيدة التحريض السياسي، يعود الى بيته، بيتنا، فيرغمنا، شئنا أم أبينا، على متابعة رحلته الأخيرة، متنقلين معه، بأرواحنا، الى حيث يسير. سائرين معه، من بعد، درب العودة نفسه، منتظرين المعجزة، المعجزة الكبرى، التي انتظرناها طويلاً، المعجزة الحلم، التي لا نعرف جميعا ما كنهها وما شكلها وما اسمها. وضعوني، لا أعرف من وضعني، فأنا لم أضع نفسي هنا، وضعوني في الموضع الغريب: بحر من الورد يمتد مخترقا أسوارالأفق. أنا غاطس في نقيع الزهر، متنمّل الجسد والأحاسيس، مستلق على ظهري، أطفو على بساط العبق اللانهائي. مثل هذا الحلم المتخثر رأيته في أزمان الجنون المختلفة، وفي قيعان الجنون المختلفة، وفي أوهام الجنون المختلفة. في أهوار ميسان رأيته وأنا ذاهب الى عرس فلاح شيوعي فقير، قرب متحف واترلو رأيته وأنا أتأمّل مسالك الحرب، في الطريق الى دنهاخ رأيته حينما كنت ذاهبا لنقل صديق مهاجر من ثلاّجة الموتى الى المقبرة الواقعة خلف محكمة العدل الدولية. وقرب بيتي الأسوجي، في الحقل البريّ، خلف الغابة الموحشة، رأيته وأنا أهيل تراب النسيان على أيامي القتيلة. رأيته قبل ذلك حينما كان ثابت بن أوس ومظفر النوّاب، في معتزلهما ومستودع سرّهما، وبين أهلهما: ذئاب وضباع الصحراء، يُصعلكان الشِّعر، على حين المسرّة. رأيته أيضا، مرّة، في الذكرى الغامضة، التي اسمها الحياة، حينما أبصرتُ بنات أبي حيان التوحيدي، يخرجن من بطون الكتب ويضرمن النار في أنفسهن منتحرات. ورأيته حينما التقيت الطغرائي يجرجر خطاه في أزقة بغداد، عائدا من أصبهان، وهو يرى الأزمان المتعفنة تلطّخ الشعر بالبراز. نظر الطغرائي الى وهم وجودي وقال يائسا هازئا: يباع فيها خرا ولا يُشترى الشعرُ آن الأوان. لم يعد في القلب متسع للتردد. آن أوان العودة الى الغابة. ستأخذ معك أجمل ثرواتك وأغلاها. ستأخذ كنزك الثمين، الذي قاتلت حتى الموت في سبيل حمايته من عبث الأقدار. إرثك الوحيد، الذي صنعته أخيلة أجدادك، قبل أن يهجروا عبادة صور الله المنعكسة على صفحة الغدران الصقيلة. ستحمله معك. بزهو ومهابة ستحمله، وأنت تمرّ سائرا بين أخوتك الحقيقيين. سترافقك اليعاسيب والفراشات السكرى. حسداً ستنظر اليك طيور الغابة بعيونها الكروية المسكونة بالحذر. حشائش الأدغال تتمنى أن تلمس سحرك الخبيء بأصابعها السريّة. حالما تصل، ستدعو إخوتك جميعا الى بيتك الجديد. ستُريهم كَرَمك وتقاليدك الراسخة. ستُريهم أصالتك، التي لا تقبل المساومة. ووسط دهشة الجميع، ستفتح صرّة ثروتك المثيرة، وتُريهم عريك العنيد. أأنا في جنة الله أم في ناره؟ أليست الجنة وهماً، والوهم ضرباً من ضروب الفراديس؟ ربما! ولكن، هل أخطأ الله في قراءة خطوط كفّي؟ فأنا ما كنت عابداً صالحاً قط. لم أسرق، ولم أكذب، ولم أقتل، ولم أخن، ولم أش حتى بعدوّ. لكني لم أكن حافظا لمواعيد الأذان، ومواقيت الصوم، وما كنت ملمّاً بمسالك الحج. لم أكن معنيا بالسجود لأحد سوى الوجود الأعظم، ولم يزل ملاكي النبويّ المقدس يتراءى لي في ابتسامة طفل رضيع، ينظر الى العالم بعينين مليئتين بالفضول والدهشة والإنكار. قد يسقط الله مغويّا بسحر الكلمة وفتنة السريرة! ربما تكون سريرة الكلمة سرَّها الأغلى من نواميس الشرائع عند الله، فاطر الشرائع والسرائر والكلمات الأبدية. أأكون على حق وأولئك الذين يحرسون الأدعية المقدسة هم الضالّون، في قوانين الله، خالق الكائنات والورود والينابيع والشواطئ المليئة بالأصداف والأسرار والمقدسات؛ الله خالق النهد، الذي يطعم الرضيع لبناً والبالغ شهداً وفرشاة الألوان جنوناً؟ ما عدت أدري! وكيف لي أن أدري وأنا أهيم غاطساً في ليل البنفسج! أرى السماء من خلل السيقان المتشابكة فوق رأسي، وأشمّ الهواء وأنا ممتلئ الأعماق بالرحيق وبأنفاس الأرض وأنساغ النباتات الثرثارة. أغمض عينين، لا حاجة لي بهما، فأنا الحارس الأعمى، حارس أخيلة الله الحرّة، وحارس أوهام الدهشة. أأسكرني وهم البراءة؟ ربما! فلو لم أكن كذلك، لا بدّ أن أكون نائماً يحلم، أو ميتاً يقلّب صفحات ماضي جنونه. أأسكرني الصحو فأصبحت أرى الغيبوبة سيداً أرضياً للفراديس، وقيّماً على براءة الكلمة وكفر الكلام، على ربانيّة الحرف ووثنية اللسان؟ لا أعرف إذا كانت هذه الأسئلة ذات معنى، وإذا كانت الإجابة عنها ذات معنى أيضا. فما أعرفه في هذه اللحظة هو أنني والله والورد نتقاسم الكلمات، نتقاسم علامات الاستفهام والنقاط الموضوعة في نهاية الأجوبة. نتقاسم سرير الوهم والحقيقة، نتقاسم الكفر والنسيان، نتقاسم وسادة الأسرار والشائعات: مكيدة الوجود الصامت المزروع في جسد الزمان مثل قلب ميت، والعدم النابض في جوهر الوجود مثل قلب مفعم بالحياة. لكي يكون اعترافك لا يشبه الوهم، لا بد لك أن تمتلك جرأة الخائفين. لا بد لك أن تمتلك شهوة الموتى، لكيلا تندلق مشاعرك خارج شفاه اللغة، وخارج كأس التعابير المتداولة، خارج أطر التقنيات المجرَّبة، خارج أوعية العرف الشعوري العام، خارج العري الأبجدي المباح، الذي يرسمه البشر لنا، أو نرسمه لهم. لماذا تبدو كلمة حياة فتاة مغتصبة، لا ترفع عينيها من دون أن يتلوّن وجهها بشفافية البراءة وبياض الصدق وصفرة الخوف وزرقة القلق وخضرة الخدر وحمرة الخجل وسواد الخطيئة؟ لماذا تذهب اليعاسيب صوب الضوء المقبل من خلف أشجار السفرجل؟ لماذا تفيق الثمار من سكونها النباتي وتشرع هامسةً تتبادل الألوان والأنخاب والتحيّات والقبل؟ لماذا تنزع شجيرة العلّيق الخجولة ثيابها وتقف عارية بسيقانها وأذرعها وأصابعها النحيلة أمام شهوة الريح؟ من منح الأثير الماكر، المختبئ في بلّور الفضاء الرهيف، سحر الصفير ولوعة العويل وانكماشة الأنين وشبق الهيجان وبحّة الفحيح؟ لماذا ينفجر الينبوع بالبكاء حينما يفتح عينه الوحيدة وهو يرمق السحابة البيضاء اللعوب، تخذله هاربة الى عشيق جديد؟ أطياف لا حصر لها توضع في رأسي- لا أعرف من وضعها، فأنا لم أضعها في رأسي- تجعلني أحس كما لو أني غبار لقاح مذاب في الكلمات وفي الرحيق وفي صبغة الألوان، منثور الذرّات بين التويج والميسم، بين الأرض والسماء، بين الوهم والحقيقة، بين الله وأوراقي المبعثرة، بين ماء الطين وترابه، بين لزوجة دمي وحمرة لونه، بين من كنته ومن أكونه ومن سأكونه ويكونني. حينما أفيق من حلمي أو من موتي أو من يقظتي سأعرف كل شيء. أنا واثق تماما من أني سأعرف كل شيء حينما يضعونني في بحر الورد مجدداً، حينما يغرقونني في الرحيق الذي يلامس الأفق، حينما ينثرونني بين العين والصورة، بين الله والأشجار، بين الحقيقة والوهم، بين الإيمان والكفر، بين الموت والحياة، بين الوجود والعدم. سأعرف حتماً من أكون. وسأضحك كثيراً حينما أعرف كم هي بسيطة تلك الحقائق الغامضة التي أرّقت حياتي: لماذا يمتلك العدم المختفي تحت ثياب الوجود كلَّ تلك الشهوة الجنونية للتخيّل والهذيان والامتدادات المرعبة! لماذا أسرّت لي أمي، حينما كنت ملتفاً على نفسي في رحمها، قائلة: لا تنس أخاك، الذي ارتحل منذ ولادته! لا تنس أخاك، ابن بطني، ذلك الذي اسميته الله مرّةً والشيطان مرةً أخرى، لكي تراه جلياً في كل ذرّة بقاء تحيط بك! ولكن، هل كان في مقدور البقاء أن يعي ذاته ويصنع مغزاه لو أن الإنسان لم يخرج من عري الرب وجسد الأمّ ورحم الكلمة؟ أأنا غاية الوجود، أم أنا وسيلة فنية محضة، صنعها مثّال ماهر وماكر، ليدرك بي وجوده العصي على الإدراك، وأدرك بوجوده وجودي غير المعلل وجوديا؟ أنت، يا من هجرتك الأزمان، ألا يكون خروجك المقدس من الفردوس تمرداً على نواميس الأبدية وكفراً بمقدسات الوجود الخالص وشِركاً يدنّس عذرية العدم؟ ألا يكون وعي الوجود اغتراباً عن جسد الخلود، وتأسيساً لوجود آخر، مواز ومكرر، خادع ومزوّر؟ إذا كان الوجود حاسوباً كونياً، فمن تكون أنت؟ أتكون واقعه الافتراضي، أم أنت حروفه المبعثرة في الأرض الحرام، وفي الزمن الحرام؟ من أقصاك عن ثدي الأزل الى ألغاز اللحظة الفانية، العابرة؟ ولِمَ، إذاً، علّموك ما لم تعلم؟ |