الشاعر العراقي عبدالكريم كاصد في (ولائم الحداد)

المقاله تحت باب  أخبار و متابعات
في 
26/06/2011 06:00 AM
GMT



 


في الحديث عن مجموعة شعرية جديدة للشاعر العراقي عبد الكريم كاصد يحضر النقيضان، الحداثة بطيفها اللافح بريح الجدّة والتطور، و العتيق بأصالته التي لا تأخذ حضورها من انتماء إلى تقاليد شعرية قدر إمساكها بروح الشعر الحقيقي والعراقي منه على وجه التحديد.
عبد الكريم كاصد واحد من الأسماء البارزة في جيل الستينات من الشعر العربي في بلاد الرافدين. فهذا الشاعر المنتمي مولداً وعيشاً إلى البصرة العريقة، هو أيضاً الشاعر الفتى الذي أطل على بلاد الشام وعايش حركتها الشعرية من خلال وجوده كطالب في جامعة دمشق. وهو الذي بعد ذلك انطلق يعايش تجارب الدنيا المفتوحة بوجوده لسنين طويلة في الغرب الأوروبي، وتعرُفه المباشر على الشعر هناك وبالذات الشعر الإنكليزي.
«ولائم الحداد»، (منشورات دار النهضة العربية – بيروت) عنوان مجموعة عبد الكريم كاصد الجديدة يحملنا مباشرة في اتجاه نقيضين يطفح كلُ واحد منهما بمشهديته التي تشير إلى تفاصيل مختلفة بل متناقضة: هنا الولائم بدلالات الكلمة، وإشارتها إلى حدث حياة ربما يشير إلى نوع من البهجة، أو في الأقل إلى عيش طبيعي، يذهب نحوه البشر بتفاؤل وغبطة، فيما الحداد بسواد لونه كما بإيحاءاته يذهب إلى مناخات نقيضة تزدحم بالأسئلة المرّة، وتشير لوقائع الموت ومأسويته:
«على بعد أمتار من النهر/يجلس أسد بابل/لا مصاطب تحيط به ولا أطفال/لا جنائن ولا أبراج/وحين يمرُ به الناس/ولا يلتفتون/يهزُ رأسه أسفاً/مردداً جملة واحدة/لا يسمعها أحد/وإن سمعها لا يعيرها انتباهاً :/»أنا أسد بابل/أنا أسد بابل».
منذ السطور الأولى للقصيدة الافتتاحية لهذه المجموعة الجديدة، يؤثر عبد الكريم كاصد أن يكون أميناً لعادته الشعرية في التحديق في المكان. و هنا بالذات يعثر أكثر من أي شاعر عراقي آخر على ولعه بمكانه الأول، فالبصرة التي يختار كاصد أن يعيد «تظهير» صورها في سطور قصائده، هي دوماً – وبحالاتها المتغيرة – تعبير شبه تلقائي وشبه مقصود عن وعيه الشعري الذي ينتبه أكثر ما ينتبه إلى ربط الحالة الشعرية بشواهدها المكانية، وزجّ الشعر في حمأة دلالات المكان، بل وفي رؤية بشر المكان من خلال أنسنة شواهده غير الإنسانية. ثمة وهج يشي بعلاقة روحية تبث شجوناً إنسانية تنضج في لهيب الحياة الراهنة والمسكونة بالهواجس:»قلت لظلّي/وقد عاد بعد غيبة طويلة :
/«اجلس»/فجلس مطرقاً/ ولم يفه بحرف».
بين مجموعاته الشعرية كلّها تطفح هذه المجموعة بالذات بروح مختلفة فيها الكثير من حسّية تمزج الفكرة المجرّدة بالمتخيل، وتحمل في الوقت ذاته خلاصات التجربة الطويلة للشاعر، والتي تبدو لنا اليوم – وبعد قرابة أربعة عقود – محمولة على فتنة القصيدة حين تنتبه لنبض الحياة الإنسانية في عصف الحياة الراهنة بكل ما فيها من تعقيدات ومن اغترابات لا تحصى.
إنها تجربة أخرى تذهب نحو ملامسة جدار شائك يطفح بحزن شفيف، يقارب مرايا داخلية تصطرع في عمقها وأطرافها روح الشاعر الفرد وقد صعد أعلى من القضايا والموضوعات، إذ اختار لقضاياه وموضوعاته أن تغوص في الشجن بوصفه موضوعاً، وللاغتراب باعتباره عالماً كاملاً من الرؤى والمشاعر.
«ولائم الحداد» للشاعر العراقي عبد الكريم كاصد، مجموعة تتجوّل بين أشكال شعرية متعددة، والشاعر خلال ذلك التجوال كلّه، يعتني بالشعر بوصفه فناً جميلاً يرتفع بقامة الحزن الجميل إلى مقامات عالية، تستحق القراءة بتأمُل وعمق.