سلام عبود بحثاً عن قمر بغداد

المقاله تحت باب  أخبار و متابعات
في 
06/05/2011 06:00 AM
GMT



«مدّ يده في كيس وأخرج عملة معدنيّة وقال: تأمّل وجهيها! نظر المجريطيّ إلى الوجه الأوّل فرأى اسم الملك البويهي، وفي الخلف قرأ اسم الخليفة العباسي القادر بالله. دولة يحكمها خليفة وملك في الوقت نفسه! لم أكن أظنّ أنَّ الحال على هذا العسر في بغداد!». يعود هذا المشهد إلى عام 1092، لكن هل تراه يبتعد كثيراً عن صورة بغداد اليوم؟ سؤال قد نجد إجابته في رواية سلام عبود «تغريبة ابن زريق البغدادي الأخيرة» (دار الحصاد ــــ دمشق). يتَّخذ المؤلف من قصيدة وتراجيديا موت الشاعر ابن زريق البغدادي متكأً، ورمزاً مستلاً من الماضي، للإشارة إلى راهن العاصمة العراقية. تشير الرواية بدلالاتها إلى أنَّ عالم اليوم ما هو إلا صورة مستنسخة عما كانت تعيشه بغداد قبل قرابة ألف عام. كأنَّ الزمن الفاصل بين الفترتين، وهم أو محض أسطورة. تبدأ الرواية من قرطبة، مع وفاة ابن زريق: «لا حول ولا قوّة إلا بالله، مات العراقي... رُفع الشرشف، رأيت عن بعد وجه ابن زريق متذمّراً، هازئاً كعادته، بلحيته الخفيفة المهذبة وتقاطيع وجهه الصارمة». هكذا تحدث أبو سليمان، عامر المجريطيّ، بطل الرواية الأندلسي الذي يقرر السفر إلى بغداد، والبحث عن قمر ابن زريق الذي تركه في كرخ بغداد: «استَودِعُ اللَهَ فِي بَغدادَ لِي قَمَراً بِالكَرخِ مِن فَلَكِ الأَزرار مَطلَعُهُ».
 جعل المؤلف بطل روايته مغرماً ببغداد قبل أن يراها، مكتفياً برؤيتها داخل القصيدة. «هل يمكن بغداد أن تكون رقيقة وعميقة إلى هذا الحد في آن واحد! أصيلة ومجددة في آن واحد! ثائرة ومقيدة في آن واحد! ومن غير بغداد يمكن أن يكون كذلك؟ البداية الغزليّة للقصيدة، التي تشبه تأكيداً على الالتزام بعمود الشعر، كانت تمرّداً خفيّاً عليه...». ترى هل يتحدث سلام عبود عن بغداد اليوم؟ وأي تهلكة تلك التي زجَّ بها بطل روايته؟ فما إن يصل هذا الأخير إلى المدينة الحلم حتى يجدها مقسّمة: «البويهيون ضد الخلافة، والعرب من أهل السنة ضد الشيعة، والأكراد يتقافزون هنا وهناك، والقادة الأتراك يبتزّون هذا وذاك...».
 يدخل المجريطي بغداد، ويتعرّف إليها. وحالما يجد مسكناً، يخرج مرتدياً ثياب ابن زريق، عسى أن يتعرف إليها أحد. «وهو في ملابسه البغدادية يحسّ كما لو أنّه لم يترك خلفه قبراً لابن زريق، وإنما خلّف وراءه قبره الشخصي». وما هي إلا فترة قصيرة حتى يصير الرجل بغدادياً بشعوره ووساوسه، فقد أصابته عدوى المكان، إلى درجة «ما عاد يفرّق بين صديق وعدو، ما عاد يستطيع أن يميّز بين الوعد والوعيد، وأضحى مثل «أهل المدينة»، لا تقود الحياةُ خطاهم وآمالهم، بل يصرّون على أن تقود وساوسهم الحياة... اليقين الوحيد هنا هو الإيمان القاطع بعدم اليقين».
 لم ينسَ المؤلف، شخصية «المخبر السري». فما من حكومة عرفها تاريخ بغداد إلا كانت تلك الشخصية أحد أعمدتها الفاسدة. نراه يزرع في طريق بطل روايته، شخصية العبد، الخادم «كوكب» الذي جُنّد لمراقبته وخدمته. إلا أنّ هذا الجاسوس المتعدِّد المواهب، لا يشبه كثيراً المخبر السري في عراق اليوم، فلقد ظهر في الرواية إنسانياً مرهف الحسّ، إلى درجة تجعله يحظى بمحبة القارئ وإعجابه، وخصوصاً حين صار الدليل الذي أرشد المجريطيّ إلى قمر. «سيدتي اسمها قمر، وإن زوجها قد توفي بعيداً ولا أحد يدري له قبراً»، قال له. يدخل المجريطيّ دائرة الوهم على نحو فعلي هنا، فيبدو حالماً مسحوراً بصور شعرية سلبت لبّه.
 وهذا ما تؤكده لنا قمر على لسان خادمها: «سيدتي تقول لا يوجد شاعر في بغداد اسمه ابن زريق. هل هو من بغداد، بغدادنا؟». ثم تؤكده بنفسها في لقاء لها بالمجريطي وهي تحدثه عن زوجها الغائب: «أنا أعرف في أي شيء تفكر! لا تسألني عن ابن زريقك. أنا أتحدث عن زوجي، وليس عن وهم شعريّ». إنها بحق حالة إحباط لرجل حالم، إلا أنها لا تستمر طويلاً، إذ تبددها حالة العشق التي غمرت الزائر الأندلسي من النظرة الأولى إلى وجه «قمر الكرخ»، وإن كان الخمار بينهما. عشقه هذا، جعله مغامراً بطلاً، أو مشروع شهيد حين يُكتشف أمره ويودع السجن.
 حين استدعى سلام عبود شخصية من الأندلس لتدخل بغداد، كان يريد وجهة نظر محايدة لا تنتمي إلى أي طائفة أو قومية عراقية. شخصية لم يلوثها الخوف. شخصية تشبه تماماً المثقف العراقي الذي ينبذ التعصب لأي معتقد. كان عراق اليوم يحتاج إلى شبيه المجريطي بعدما صارت الطائفية تنخر أنسجته كمرض خبيث.