لم ترحل غسالة الجواخين |
المقاله تحت باب في السياسة أتاحت لنا الطبيعة بالأمس عرضا نادرا كما يقول الزملاء. السماء لم تكن تكتفي بالبرق، بل كانت تومض بتتابع سريع ومتواصل حتى كأنها ألعاب نارية. مزاجها المتقلب الذي تنبأت به وزارة النقل قبل يومين، خيم على بداية المساء فلوح بغبرة كئيبة ثم جاء بمطر.. فحالوب. كان "البرد" او الحالوب كما نسميه، يرمي الارض المتربة كقذائف غاضبة من غبار يحاول الاستيلاء على فترة الربيع القصيرة التي نحياها. وبعدها عاد الجو الى سيرته التي كان عليها قبل اسبوع. لا ترحل ايها الاعتدال، فنحن شعب يخاف الصيف! صباح اليوم كانت زوجتي تحاول تناسي المتاعب اليومية وتتفقد الحديقة الصغيرة الملحقة بمنزل نستأجره. لكنها عادت فرحة وهي تشاهد اول زهرة غاردينيا بيضاء تظهر في الشجرة هذا الموسم. الفرح جاء من طول الانتظار، فنحن شعب لا يرى الورد كل يوم، بل عليه ان ينتظر شهورا كي يحظى بتجربة مماثلة ويستمتع بأيام معدودة من شذى الازهار، لو كان حسن الحظ. نحن سكان المدن نفتقد العلاقة المطلوبة مع الطبيعة، وإنشاء حديقة في المنزل لمن هو محظوظ بامتلاك مساحة كافية، هي محاولة للتعويض عن صعوبة وصولنا الى "أمنا الاولى" الطبيعة الخضراء. تتلفت في بغداد يمينا وشمالا وتحاول الوصول الى البساتين، لكن هناك من يحذرك: الوضع الامني يحرم العوائل من الوصول الى تلك الدوانم المخضرة الساحرة! ويح العنف.المقيمون مع الطبيعة يعاملونها ككائن حي مثلهم، يتخذون منها صديقا ويمتلكون خبرة في تصرفاتها. احدى قريباتي التي امضت شطر حياتها الاكبر بين بساتين ابي الخصيب، لا تتابع اخبار التغيرات المناخية، لكنها تشعر غريزيا بأن الامر مقبل على تغيير خطير. تحكي لي قصة "غسالة الجواخين". وهي نموذج للمطر الغزير الذي يأتي مطلع الشتاء بعد نهاية فصل جني التمور. مخازن ومكابس التمر الفاخر المصدر يومها الى اميركا الشمالية، تكون في ذلك الوقت لزجة بالدبس وتحتاج الى غسل. لكن المزارعين لا يتجشمون عناء تنظيف ذلك المكان المسمى "جاخون" بل يتركون الامر "لأول مطرة" في الشتاء المبكر. يسمونها "غسالة الجواخين".قريبتي تقول انها منذ بضعة اعوام تلاحظ ان هذه المطرة "غسالة الجواخين" لم تعد تأتي بانتظام. انها تتعامل مع هذا المطر بوصفه انثى تقوم بمساعدة مالكي النخيل المتعبين من جني المحصول، على التخلص من مخلفات العمل الشاق، وتغسل المكابس. تقول ان هذه الـ"غسالة" لم تعد تأتي. وتحاول عبثا تفسير الامر، لكنها تعتقد ان هناك خطأ بدأ يحصل مؤخرا. تفترض احيانا ان "غسالة الجواخين" جاءت آخر مرة الى ابي الخصيب فلم تجد تمرا ولا دبسا في المكابس. الحرب منعت الناس مرات من كبس التمور، والبساتين تخرب وتتعطل. تعتقد هذه الحاجّة جازمة احيانا، ان السيدة المهيبة المزودة بأطنان القطرات المائية الزخاخة، شعرت بالزعل والحزن لأنها لم تجد التمر ولا الدبس. فغادرتنا الى الابد.هذا المشهد الحزين الفطري الذي تصوره سيدتنا لشرح علاقتها بالغسالة الاسطورية المهيبة، يحمل في طياته كل مخاوف علماء المناخ من التغيرات الكارثية.لكن الشباب في الجريدة ظلوا نصف ساعة متسمرين امام المدخل ليراقبوا كيف ينزل المطر امس، وكيف يقذف الارض بالحالوب. كانوا سعداء بإقامة هذه الصلة البسيطة بالطبيعة. تشعر احيانا ان الاقتراب من مشهد كهذا يعيد تعريف انسانيتك ذاتها.سأحاول الاتصال بسيدتي هذه كي اقول لها، ان غسالة الجواخين لم ترحل نهائيا. بل ان الامطار الغزيرة من امثالها لا تزال تجد طريقا إلينا رغم كل ضباب المعارك ودخانها. رغم الاطوار الغريبة للطبيعة فإنها تعود إلينا بين الحين والآخر، لتذكرنا ببشريتنا ومصدرنا الفطري العتيق. كبار السن نسمعهم يرددون بين الحين والآخر ان المطر "خير.. يغسل ذنوب ابن آدم". علّ المطر حقا ينصت لما يقول هؤلاء، فيحاول ازالة مسحة الكآبة التي تغطي وجوه المدن والناس والساسة. ليته ينصت للحظة من لحظات السياب الراحل الذي قتله الحزن ودرجة تحسسه لجمال الطبيعة.. و"بالنعمة"، ينهمر كل يوم. |