كتاب "أيام قوس القزح" تحتفي بالثورات وتحصد جائزة السرد المهيبة |
المقاله تحت باب منتخبات "أيام قوس القزح" رواية صُنعت من نثار جميع ثورات العالم. إنها نص الضرر والغبطة، وهما مادتان تؤثثان معزوفة الكاتب التشيلياني أنطونيو سكارميتا التي فازت بالنسخة الرابعة من جائزة ابيرو الأميركية للسرد بلانيتا- كازا أميركا. الضرر اولا، لأنها رواية تسرد اللحظات الأشد صعوبة خلال فترة من القمع، يشعر التشليانيون بالوجع لمحض تذكّرها. الغبطة ثانيا، لأن البلاد وجدت في السلام والإستقرار والتقدم، مخرجاً من القلق. في ذروة الآداب التشيليانية تظهر ملامح نيرودا، نسر الشطر الجنوبي من القارة الأميركية، يتأبّط جذوة الآداب، ناهيك بخوسيه دونوسو الطائر الأسود الخارج من احدى لوحات غويا، الى لويس سيبولفيلدا، المهاجر الى مسافات مديدة. في جوار هؤلاء، يبرز انطونيو سكارميتا الروائي والسينمائي على السواء الذي اعتقل على مرّ أعوام عدة في دور النعجة السوداء في بلاده. كان المغضوب عليه إبان ديكتاتورية الجنرال بينوشيه، ليدفع به الى المنفى في أوروبا، بغية التملص من السطوة البوليسية. والحال ان نصوصه تتنفس هذا المناخ في سمفونية من الأسى، وإن ورّطت الفانتازيا والهذيان الحلمي أيضا.
عرفنا جمال نص الروائي انطونيو سكارميتا الذائع الصيت من طريق اقتباس احد أعماله شريطا سينمائيا لقي احتفاء واقبالا على السواء بعنوان "ساعي البريد". في تلك الرؤيا التخييلية عقد الشاعر بابلو نيرودا في منفاه (أدى دوره الفرنسي فيليب نواريه بألق لافت) صداقة مع ساعي بريد، ليأخذه الى حب الشعر ومنه الى الحب في المطلق. اما اليوم، فيأتي سكارميتا برواية بالقشتالية من طراز "الأسطورة السلمية"، ألقيت في حجرة انتظار نتائج الإستفتاء العام في تشيلي في 1988، الذي فازت بنتيجته مجموعة "كلا" ليتم من جرائها ختم ديكتاتورية الجنرال اوغوستو بينوشيه الدموية، بالشمع الأحمر. كان بلوغ الكاتب المنفى الألماني في اعقاب انقلاب 1973 امرا محتما، كما جرى مع قافلة من مئات الكتّاب والمثقفين التشيليانيين، ليحصد الاعتراف بعدذاك ويكلّل بالامتيازات الأدبية. كان ثمة جائزة "كازا دي لاس اميريكاس" في 1986 في كوبا بفضل "عار على السطح" وجائزة "ميديسيس" في فرنسا ايضا لـ"زفاف الشاعر"، الى جائزة "بلانيتا" مع "رقص النصر". اما رواية "ايام قوس القزح" فهي بمعنى ما، موعد مع الماضي وتحية الى ثورة "طيور البطريق" كما سمّي الطلاب الثانويون الذين ملأوا شوارع المدن التشيليانية وخاطروا بحيواتهم لينتصروا للحريات. والحال ان صورة طير البطريق تستأثر بجاذبية قصوى في ذهن الكاتب الى حدّ يجعلها في لحظة تحملُ ملامح شكسبير. كان ثمة استحالة على ما يبدو، ان يتفادى الكاتب الجمع بين الرمزين، وأن يتغاضى عن تقديم هذا الإلماح من بين إلماحات عدة أخرى في كتابه، اذا أخذنا في الحسبان اعتباره شكسبير ركيزة صوته الأدبي، يكبّ على قراءته من دون تعب منذ السادسة عشرة. يؤكد السبعيني انطونيو سكارميتا ان روايته تنبثق من التجارب العتيقة المتجذرة فيه. والحال انها تخيط شرنقتها حول شخصية بروفسور في الفلسفة استلهمه من الممثل التشيلياني الراحل روبرتو بارادا الذي أدى دور الشاعر بابلو نيرودا في العمل السينمائي "الصبر الملتهب" وكان أخرجه انطونيو سكارميتا عينه. يعدّ الفيلم سلف فيلم "ساعي البريد" الآنف ذكره، والشريطان السينمائيان مقاربة بالعين تتكئ على انتاج مسرحي كتبه سكارميتا بعنوان "الصبر الملتهب". كان روبرتو بارادا يشارك في عمل تمثيلي في منتصف ثمانينات القرن المنصرم، حين وصله خبر العثور على جثة ابنه مقطوعة الرأس. لم يتوان عملاء الديكتاتورية عن ضرب عنق الشاب الناشط في الحزب الشيوعي، بيد انهم لم يتمكّنوا من ثني والده الفنان عن المضي في دوره على الخشبة احقاقا للكلمة الحرة، الى حين انزال الستارة. والحال ان في رواية "أيام قوس القزح" ابناً آخر للبروفسور بإسم نيقو وهو طالب ثانوي وأحد الساردين- المفاتيح للحكاية. اما اختيار هوية نيقو فيحيل على مفهوم أخلاقي عزيز على الوالد المفتتن بكتاب أرسطو "الأخلاق النيقوماضية". يتّحد صوت نيقو بصوت الراوي الذي يجيء بضمير الغائب، كتردد لأصوات الشباب المتدثرين برداء المثالية. يحمل العنوان في الظاهر غمزا من قناة الأحوال الجوّية، غير ان فحواه من لحم ودم تستدعي انتفاضة الثوار. ذلك ان "قوس القزح" رمز للقوى التي تحدّت بينوشه، بدءا من اليمينية ذات المنحى الديموقراطي، وصولا الى القوى الأخرى في أقصى اليسار. أسّس هؤلاء لتحالف غير متسق، إكراماً لهدف مشترك، هو إطاحة الديكتاتورية التي أطبقت على قدر مواطنيه بين عامي 1973 و1990. الى جانب الشخوص والحوادث التي تحرّك خيوط هذه الرواية، يتورط سكارميتا في مفهومين ينجدلان على نحو أفقي في اطار الحبكة: انهما المصالحة والأخلاقيات. والحال ان المصالحة التي تحلّ وفق مبدأ الحقيقة والعدالة لا تزال أمرا مشتهى. لم تعد المسارات التاريخية نقية راهنا وانما صارت ملوثة، ولم يعد المجتمع يتصرف على أساس مثالي بل براغماتي، يتم من خلاله البحث عن الفوز بأهداف نبيلة في موازاة الخضوع لشتى الإذعانات. تترحل الرواية الى مكان أبعد من الحدود التشيليانية، لتعكس لحظات التحرر الدرامية في بلدان عدة حيث حاربت الشعوب بهدف تبديل النظام واسقاط الطغاة. على الرغم من ان في وسع تشيلي في مطلع هذا القرن الفخر ببلوغها الديموقراطية، فإن هذه الحقيقة لم تأت من فراغ. كلفت جهدا كبيرا وإزهاقا لحيوات كثيرة، من دون ان يعني ذلك نهاية الصراع. يروق انطونيو سكارميتا ان يعبّر عن هذه الفكرة من خلال اقتراض ثلة من أبيات والت وايتمان، يستعيده في قوله "اليوم صباحا وقبل الفجر صعدت الى الربوة لأتأمل الجنة المحتشدة/ وخاطبت روحي وسألتها "عندما نصير محتضني هذه الأجرام السماوية وجميع الملذات والمعرفة في كل شيء فيها/ هل ينبغي لنا عندئذ ان نشعر بالإكتفاء؟" أجابت روحي كلا، ما ان تنتهي هذه الحياة/ حتى يتعين علينا ان نكمل الطريق". في وسع قطف النصر أن يخلّف مشاعر من طرازين، ان يحفر ابتسامات على الوجوه أو ان يجعل القلب يحسّ بوخزات خفيفة. في مرتع سكارميتا الروائي، الشخوص ناس عاديون، ليسوا ابطال التاريخ بيد انهم يواجهونه بكرامة. لا يريد تاليا ان يبدو نصه كئيبا او مبالغا فيه، بل يرغب في القول ان الحرية لا تقدم أي هدايا. لا يمكن الاضطرابات ان تختفي بسحر ساحر، لا يمكن جيلا ان يتفوق على آخر فيما الثيمات الكبرى معلقة. نحن ما نفعله، ونصير نتيجة لما كنا عليه. انطلقت جائزة "ابيرو الأميركية للسرد بلانيتا- كازا أميركا" كثمرة تعاون بين الناشرين "بلانيتا" و"كازا دي اميركا" بهدف تسويق السرد الإسباني في الدول الناطقة بالقشتالية في اميركا اللاتينية. وها ان جائزة 2010، تمنح بعد تأخير عام، في حين كان يجب ان تعلن في الرابع من آذار من العام المنصرم. حال الزلزال الذي ضرب تشيلي دون التئام لجنة التحكيم، فتمهل الاستحقاق ليأتي بمؤلَّف مستحق في شتى المعايير، نافس ستمئة وتسعة وثلاثين عملا تخييليا من ثلاثة وثلاثين بلدا. يأتي سكارميتا في نثره بشرعية لصفات عدة، تبدأ بالحوافز السردية وانسياب النثر ولا تكفّ عند الدمج النصي للثقافة الادبية. يبرز سكارميتا نصا يتمحور على قدرة التصوّر المرجو في مكان معولم وبارد، الى حد المغالاة. عن (النهار)
|