في بيتك الصغير |
المقاله تحت باب قصة قصيرة أقتنص لحظة انسكابك مثل شلال فضي على أرديتي المغزولة من وحشة الليل، أشكّلك في حلمي كما لو أن السنين لم تمر وتمتص سواد شعرك، كما لو أنني ما أزال تلك الطفلة المدللة بين يديك.. أفتح صدري للريح لعلها تحرث حقولي العطشى وتبذر فيها حبات التوق وتسقيها بفيض مائك الزلال وانسكاب الضوء في عينيك. أحلم بك، أنا المجبولة من أحزان سومرية ممتدة منذ القدم حول أعناقنا، لعل الفرح يفرد أشرعته ويأخذني إليك لأدخل متاهاتك النائية، هناك حيث يربض بيتك الصغير الذي راودتني غواية اقتحامه ذات يوم لكنني لم أفعل.. الآن وبعد كل هذا الفراق أقترف تلك الغواية في الحلم وأعبر عتبة الباب، يتلقفني ممر ضيق ينفتح على صالة لها بابان، وعلى أحد جدرانها تستقر صورتك، ولد مشاكس تعبث شفتاه بضحكة مجلجلة، وتمور في عينيه شقاوة المكر، هكذا تخيلت الأمر. تدخل من الباب الثاني، قامة ممدودة وسمرة رطب شهي، تأخذ يدي فنخطو معاً الى الأرائك المطرزة بزهر القرنفل، تتدلى قناديل السقف وتكاد تلمس رأسينا، تسكب ضوءها النعسان الذي يومض في عينيك، أما تزال عيناك ناعستين أم استسلمتا لعتمة الزمن وذوى فيهما ذاك البريق الأخاذ المفعم بالشهوات؟ تسند بيديك يديّ المتعبتين من التشبث بحلم يحاصره الصحو، تهدأ أنفاسي وتستعيد انتظامها، يهدأ اصطخابي ويرحل خوفي الى حين، تخفت حدة الحزن الراكد بين ضلوعي.. أعرف أنني أحلم بك، أدرك تماماً أنك أبعد من الشهب، لكنني أصنع أحلامي وأوهامي لأدرأ الموت القابع خلف أبواب حجرتي وأبدد ضجر الأيام في غيابك الأبدي.. أحتمي بطيفك النائي وأسرق من أنهارك جرعة ماء أديم بها حياة أشجاري الآيلة لليباس. ولأنك انسكبت عليّ مثل شلال فضي داخل الحلم، فقد تمنيت أن تندحر الشمس الى الأبد وتنطفئ وراء المجرات لنبقى ممسكين بأصابعنا، مثل شبحين غارقين حتى الثمالة، نراوغ الموت اللابد في المنحنيات، وحين يلمحنا ضاحكين يجن جنونه ويتوعدنا، لكننا لا نكترث لوعيده، فيرتحل الى مخابئه حتى يجد طريقة للانقضاض علينا. نواصل تيهنا تحت جنح ليل طويل، تنفلت نجومه لتستقر في عينيك أمواج بحر واندفاعات شهية، والسيد الموت يتخاطف في الزوايا وتحت الأرائك وصرير الأبواب وأزيز السرير وإطارات الصور والتذكارات، يحمل وعيده على هيئة بيانات عسكرية وصفارات إنذار وزخ رصاص وفرق إعدام هوايتها جز الرقاب.. ونحن نحتمي بالحب، والحب كائن رقيق لا يعيش تحت مظلة الحروب. نلعب لعبته في المراوغة، لا يهم من يصل الى نهاية الشوط، هو يراهن على الزمن ونحن نراهن على الحب.. نراه ويظن أننا لا نراه مختبئاً مثل نمر بين الأحراش يراقب فريسته، تبرق عيناه وينفث دخان صبره لكننا لا نخاف.. نراه ونسمع وقع صوته ونتعمّد أن يعرف أننا نراه ليزداد غضبه منا، صوته يلاحقنا، ينذر بليل طويل لا نجوم فيه ولا رقدة من بعده، ينذر بانطفاء الأحلام وانتهاء المواعيد والكف عن تعاطي الحب، الكف عن كل شيء، عن الضحك والبكاء والتوتر والجموح والقلق والأوهام والحقائق والصبوات والصرخات. هل ستكف الأرض عن الدوران والقلب عن التوق والخفقان؟ هل ستكف أصابعنا عن التلامس وتموت الرعشة تحت الجلد وتذوي ورود دمنا؟ لا يقظة ولا انتظار ولا حدوس ولا همسات ولا سطوع ولا أحلام؟ هل ستكف الأنهار عن الجريان والأشجار عن التجدد فتموت واقفة؟ كيف للمواعيد أن تفنى وراء النوافذ ويصيب الكلام العمى؟ في ذلك البيت الصغير الذي تأخذني الغواية إليه، ثمة نوافذ تطل على الشارع كما العيون، كثيراً ما تساءلت: أين نافذتك؟ ولم أسألك أبداً، كان الحب بيننا في أولى توهجاته وفورانه واختلاجات نسائمه ورعشة لياليه ونهاراته.. وفي الحلم تقودني خطواتي الى إشارات تدلني على نافذتك، ستارتها متفردة بلون أبيض وزهرات شذرية، يحركها الهواء فتتراقص، أصغي لموسيقى حفيفها المتناغم، وأفكر بطريقة للصعود إليها عبر سلّم من أغصان السيسبان.. كيف للسيسبان الرقيق أن يقاوم ثقل الحب في قلبي ويرفعه الى النافذة؟ سريرك فارغ وأنا أتحسس الفراش بأصابع من حرير، أبث للسرير أنفاسي فأشعر بدبيب يسري في جسدي، فجأة تنكمش أصابعي إذ تسقط في فراغ مريب قبل أن يدركني الصباح، وقبل أن أتلمس طريقي إليك، تهاجمني الشمس دونما إنذار، تسحب من جفنيّ آخر الصور، يختفي البيت الصغير ونافذته وسريره البارد، ولم يبق إلا ذلك الشبح الذي يترصدني في المنحنيات، يسرّب إليّ تشفياته بوحدتي وشطحات حلمي، أقول له من دون أن يسمعني، وربما سمعني ولم يرد: أيها الشمعي المخاتل، المتلون كالحبار قبل اقتناص فريسته، أيها المارد الزئبقي، خذ ما تشاء من أجسادنا ولكن حاذر أن تلامس أحلامنا فهي عصية عليك.. أنت عاجز تماماً عن أن تقبض على روح الحلم فينا، نقر لك سطوتك وجبروتك، نقر بعجزنا أزاء الاحتفاظ بكينونتنا المادية، لكننا أبداً لن نسلّم كل شيء أو نستسلم، لا يزال الشيء الثمين يسكن أعماقنا، لا يزال الحلم، وحين تمتد مخالبك إلينا وليس بالإمكان الإفلات منك سوف نودِع أحلامنا في قلوب أخرى، بالتأكيد ستمارس معها اللعبة نفسها، وهي تدرك أنها غير قادرة على ترويض طبعك الحاد ومزاجك المتعكر، لكنها مثلنا تماماً، ستدافع عن أحلامها أمام حجم الخسارات التي تجيء على هيئة بيانات عسكرية وصفارات إنذار وهطول رصاص، لعل الدنيا تنزع عنها ثوب حدادها وتفتح شبابيك الفرح، لعل الأجداد الذين يبعثون لنا من منافيهم البعيدة نواحهم الجارح يقيمون طقوس الحب الضائعة ويراوغون الموت مثلنا. |