الديكتاتور العربي أمام قبوره : كلمة السر وقد وصلت |
المقاله تحت باب مقالات و حوارات يجب أن تكون قوياً، لأنك تملك وجهاً أكثر من بشري، حزيناً كالكون، جميلاً كالانتحار. (لوتريامون) "سأنتظركم هناك"، يقول محمد البوعزيزي، الفتى التونسي. ولكن أين؟ لن يسأله أحد. يعرف الجميع أن الثورة العربية المعاصرة تستعير شيئاً من صرخته، وإن تم الأمر في البداية في فضاء افتراضي. بلدان تحررت من الطغيان، وأخرى لا تزال تتنظر. ولكن الأهم أن تتحرر المخيلة العربية. الحداثة فشلت لكننا ننتقل بعمق إلى عصر ما بعد الحداثة وقد تحررنا من الطغيان ورموز الاقطاع. لم يعد عصياً على الفهم أو خافياً على أحد أن الاصلاح في البلدان العربية لم يعد ممكناً ولا مطلوباً. ما من أحد سوى البلهاء الخائفين أو المنتفعين من استمرار النظام القديم ليفكر في إمكان أن يكون الاصلاح حلاً لما آلت إليه الأحوال في بلاد صار القمع فيها غواية الحاكم لاستدراج أبناء جلدته إلى الأرض الخراب. لقد لعب القدر لعبته مرة أخرى وانهارت المعابد القديمة. ألا تزال الأوثان ضرورية؟ منذ سنوات طويلة، ربما عقود، والايقاع في حالة اضطراب. لم تعد الشعوب في تلك البلاد ترى في النظم الأمنية التي تقيّد حركتها وتصادر حرياتها أيّ نوع من أنواع الحكم السياسي. في الحقيقة لم يكن هنالك ما يسمّى بالحاكم، وهذا ما عبّر عنه القذافي بدقة بقوله: "لو كنتُ حاكماً لرميت استقالتي في وجوهكم". لقد اختفت آليات الضبط منذ زمن غير معلوم. متى حدث ذلك؟ لا أحد في إمكانه أن يحدد اللحظة التي انفصل فيها صدام حسين على سبيل المثال عن نفسه، باعتباره كائناً بشرياً، ليتحول عقدة، هي مزيج من وثن وخالق. الخميني باعتباره ولياً فقيهاً، وحده جاء إلى الحكم جاهزاً للعصمة. لم تكن لديه صلاحيات بابا الفاتيكان التي هي نوع من الخيار الارضي. بل كان شأنه أن يقول الكلمة الأخيرة. فهو لم يكن رجل دنيا. لذلك انصبّ اهتمامه على الحق، الذي سيكون دائماً إلى جانبه. ولكن هل وقع هذا الاضطراب كله بالمصادفة، وهل من العدل أن نختصر الهوة كلها في شخص الحاكم من غير أن نلتفت إلى النظام الثقافي الذي انتج هوية ذلك الحاكم وأعاد انتاجها مرات ومرات؟ هناك في تونس وفي مصر وفي ليبيا اليوم، خوف معلن من ثورة مضادة، يجد ما يبرره في استمرار رموز النظام القديم في ادارة دفة الامور (احمد شفيق وابو الغيط في مصر والغنوشي في تونس قبل استقالته وما اعلن في ليبيا من تأسيس لحكومة موقتة يديرها وزراء مستقيلون). أكنا في حاجة الى انقلاب عسكري ليذهب الجميع إلى منصات الاعدام أو إلى المنافي؟ أعتقد أن مفهوم الثورة الشعبية (وفق ما جرت عليه الأمور في غبر بلد عربي)، وهو على العموم مفهوم جديد في التاريخ المعاصر، لا يزال طرياً، يظن الكثيرون أن في الامكان المضي بمعانيه إلى جهات غير الجهات التي كان محتما عليه الذهاب إليها. وهو ظن خاطئ. ذلك لأنه يقيس حساباته من خلال أدوات قياس، هي الأخرى صارت بالية ومهزومة. مفهوم الثورة الشاملة هو ما لم نتعرف اليه بعد، وتتجلى معانيه في سلوك الثوار العرب الجدد. يفخر المصريون بأنهم خرجوا بالملايين ولم تحدث حالة تحرش جنسي واحدة، وفي ذلك إشارة إلى أن تغيراً جوهرياً حدث في المخيلة الجمعية. ألا يشير ذلك إلى ولادة ثقافة عربية جديدة؟ كما يبدو لي، فإن القفص انفتح من الجهة الأخرى: الحكّام اليوم هم من صاروا يستوطنون ذلك القفص بعدما خرجت الشعوب منه وإلى الأبد.
ما بين احتلال العراق وتحرير مصر، مرت ثماني سنوات عجاف، تسيّد الثقافة العربية فيها دعاة الأمركة. كان الهدف أمركة من لم يتأمرك من العرب. محاولة للانحراف بالسؤال المصيري التي كانت الشعوب من خلال شبابها تستعد للاجابة عنه في منطقة خفية من الخيال. تبيّن من خلال السلوك الاميركي في العراق (افغانستان ليست بعيدة) ان مبادئ كثيرة سيتم الالتفاف حولها، في مقدمتها الديموقراطية والعدالة الاجتماعية والحرية، وأيضا شؤون الحكم. مع ذلك فقد خُيِّل إلى الكثيرين أن الأمركة شر لا بد منه. البديل منه يكمن في الوقوع في فخ التنظيمات الاسلامية المتشددة، التي هي الوجه الآخر للعملة، من حيث تصنيعها. كان الضياع ملهماً كما تبيّن في ما بعد. غير أن ذلك الضياع شمل النخب العربية المثقفة، التي وقفت بدورها عاجزة عن فهم آليات التحول إلى حكم الشعب. كان التاريخ يدفع بمياهه تحت الجسور فيما كان الواقفون على تلك الجسور ينظرون بذهول إلى أفول شمسه بحسب الرواية الاميركية. ولكن، ألا يشير الموقف السلبي الذي اتخذه الكثير من مثقفي الحداثة العرب من فكرة التغيير الشامل، إلى فشل جوهري في استيعاب فكر الحداثة، باعتباره حاضنة تمرد ورفض وتنوير واختلاف؟ كنا دائما في مواجهة مثقفين حداثويين يدعو سلوكهم إلى الرثاء: روائي كبير ظل إلى نهاية حياته يعمل في جريدة رجعية. شاعر كبير لا يخفي تودده المستمر لشيوخ النفط. ناقد تنويري يتسلم جائزة القذافي بعدما رفضها أديب اسباني. ناهيك بحشود المثقفين العرب التي كانت تزحف إلى بغداد في وقت كانت ماكينة القتل تزهق أرواح العراقيين. ما لم تكن تدركه النخب الثقافية المكرسة، أدركته جموع الشباب. لا تناقض بين أساليب التفكير وطرق العمل. كانت ازدواجية النخب المثقفة قد جعلت منها مطية لأفكار شاذة طرحها الحكام بديلا من اسلمة المجتمعات أو أمركتها. وحين احتل الاميركيون العراق وجدوا أمامهم الطرق سالكة. كان الخيار الخرافي الثالث قد امحى بسقوط نظام صدام حسين بيسر، فما كان عليهم سوى التلويح بخطر "القاعدة"، وهي اختراع أميركي كما هو معروف. يومذاك أصيبت الحساسية الثقافية بالشلل. لا لشيء إلا لأنها لم تستعد للقبول بخيار الشعب، الذي كان دائما خيارا مستبعَدا، وخصوصاً بالنسبة الى الشعوب العربية، التي نالت حصة عظيمة نادرة من الذل والاهانة والاكراه والتحجيم. في هذا السياق يمكننا أن نفهم لماذا احتكرت الحركات الدينية فعل المقاومة المعلن في أماكن متفرقة من البلدان العربية. غير أن الوقائع على الأرض ستقول شيئا آخر.
ما بين ثقافة الامركة، التي هي ثقافة احتلال بالنسبة الى العراق على الأقل، وبين المنهج الذي اعتبر البسطال الاميركي من علامات القيامة، كان هناك فكر يسعى إلى مستقره في فضاء افتراضي. كان هناك مَن تحدث عن ثقافة تحتضر، وهو محق. كان هناك مَن قرر أن يحرث الأرض أمام الثيران الايرانية كما فعل الحزب الشيوعي العراقي. كان هناك مَن صار يستشرف رؤى المستقبل من خلال نبوءته القديمة وهو الذي صرخ في وقت مبكر: "وداعا للعروبة". محمد البوعزيزي لم يكن ليخطر في بال أحد. الفتى التونسي الذي تقلق نومه الآن ملايين الأقدام الصاخبة. برمشة عين، في لحظة لم تكن متوقعة، ما بين ارتفاع طائر وسماع صفقة جناحيه، كانت الصيحة قد أسرت الجزء المتبقي من سيرة الشعب. أي شعب؟ النار التي أشعلها البوعزيزي في جسده لم تستثن أحداً من لهبها. قال الفتى بالعربية كلمة السر. وهي كلمة مستلهَمة من عالم افتراضي لم نعشه طوال أكثر من نصف قرن، هي عمر الديكتاتوريات المعاصرة في البلدان العربية. كان من الممكن أن تحلّق روح البوعزيزي من غير أن يراها أحد لو أننا لا نزال أسيري عالم التفكير الحداثوي الاحادي الجانب والمقترن بازدواجية سلوك مثقفيه. غير أن شبانا عربا كانوا قد تسللوا خلسة إلى عالم التقنيات المعاصرة وامتزجوا بأسرار فكر ما بعد الحداثة، لم تفتهم محاولة تفكيك الرموز الرياضية التي انطوت عليها صرخة البوعزيزي. المشكلة تكمن في اللغة إذاً. من المفارقة أن اجهزة الاعلام العربية والعالمية أيضاً، لا تزال تتحدث عما حدث باللغة القديمة، على الرغم من أن وائل غنيم لا يدّعي أنه كاسترو. لا يزال باتسيتا ماثلاً في الأذهان. لم يقل أحد عبارة "سننصبك ملكاً". ربما يكون الثائر قد عاد إلى عمله في دبي. غير أن ظهوره كان ضرورياً من أجل أن يقول لنا إن فكراً اصلاحياً لن ينقذ "الأمة". هناك لغة ينبغي القفز من خلالها إلى عالم ما بعد الحداثة. اليوم، تصنع الشعوب العربية مصيراً مختلفاً، هو ما يجعلها موجودة في التاريخ بجدارة. هوذا مفهوم الثورة الشاملة كما فكّر فيه ليون تروتسكي، يتحقق بعد قرن: الشعب يدير بنفسه عجلة التاريخ . عن "النهار"
|