حرية المثقف: أقرب من اتحاد الأدباء وأبعد من تظاهرة |
المقاله تحت باب في السياسة الشعار الذي رُفع في تظاهرة أدباء العراق في المتنبي "بغداد لن تكون قندهار" ينطوي على رمزية عالية، فقد كان يتقدم التظاهرة رجل قارب الستين، تلوح على محياه حمرة الحماس المفرط، حتى تظنه سيسقط بعد قليل من حماسه. ولكنه لم ينتبه إلى ما يتضمنه شعاره من ثقة بالنفس، قد تصله بنوع من التعالي على شعب آخر. فقندهار، هذا الاسم الساحر، لم تكن على ما كانت عليه في عهد طالبان، لولا الظروف التي مرت بها، مثلما مرت ببلدان كثيرة، وبينها العراق. فهل يحق لنا والحالة هذه أن نرفض شعاراً لمتظاهر لبناني مثلا، يرفعه في الضاحية الجنوبية، ويكتب عليه "بيروت لن تكون بغداد"، مستنكرا شعائر دينية مفرطة في غلوائها وتصنعها، مثل التي نراها بأم أعيننا تمارس في بغداد، ويشارك فيها مثقفون، ربما هم من بين طليعة مثقفي العراق. لا يستطيع الذي يرقب التناوش بين بلدية بغداد وبعض الصحافة العراقية، سوى أن يحيي العهد الديمقراطي الجديد، الذي أتاح فرصة التعبير عن الرأي، فالكلام ببلاش والتطبيق يكلف غالياً. وقد سبقنا عدي صدام حسين وفسح لأدبائه فرصة النقد والتعبير عن همومهم، وكان لديه ما يكفي من مال الحكومة كي ينفق على ديمقراطية أبيه. نحن إذن علينا أن لا نجترح الريادة، مثلما لا نخترع للحرية مساحة تضيق بها وبنا وبالعراق الجديد. فالحرية مثلما يقول الحكماء، نصنعها نحن في داخلنا قبل أن نطلبها من الآخرين. ما الذي فعله الأدباء لأنفسهم كي يعترضوا على ذلك الفعل المفعم برمزيته، عندما دهمت شرطة النظام مكتب اتحادهم، وعاثت فيه فساداً، وأغلقت مقهاه بحجة تعاطي زبائنه الخمر؟ الذي يخافه المثقفون هو أبعد من هذا، فهو ومضات القادم من الأيام التي تشير كل الدلائل إليها، فقد أحكم الإسلام السياسي قبضته على الشارع والحكومة معاً، والمثقفون لن ينتظروا مصيرا غير ما هو أسوأ مما جابههم. ولكن الذي يفرح ايضا ان الحداثة التي يقودها المصريون الشباب وقادها التونسيون قبلهم، هي على نحو ما، قوة الزمن الآتي في الشرق الأوسط، التي نظن انها ستوجه السهام لا الى الإسلام القمعي فحسب، بل الى الآباء العلمانيين الذين يتظاهرون اليوم من أجل حريتهم. ولكن بما ان الذين ينتظرون هذا اليوم ويقودون تظاهراته هم المثقفون أولاً، فعلينا والحالة هذه أن نفكر معهم بما يمكن أن نسميه الديمقراطية المنشودة. فهو سؤال كل واحد فينا. حرية المثقف، البحث عن حداثة خارجنا
إذن كيف لي والحالة هذه ان أتخيل المكان الثقافي (اتحاد الادباء) مثلا، وهو يطلب حريته ولا يبحث عنها داخله. فطوال عمر هذا الاتحاد كان عبارة عن ملتقى للرجال، مثل مضيف عشيرة "حداثي" ليس إلا. ما من أديب حاول يوما أن يجلب زوجته أو أخته أو ابنته الى هذا المكان، فهو يتركهن في البيت بعد يوم عمل مضن او فراغ يشبهه، كي يلتقي بنظرائه من الرجال، وحول تلك المائدة البائسة التي تستهلك كل يوم حجيرة من خلايا عقله. ولن تكون الأديبة التي تشاركه هذا الكار سوى مشروع أنثى عليه أن يتحدث عن جمالها ومواصفات شكلها، قبل أن يتحدث عن أدبها. وأتحدى أي واحد فيهم أن يملك صديقة واحدة يتشوق الجلوس معها أو محادثتها خارج العمل. ويا ويل الأديبة لو نافسته برأي أو تكلمت عن تخلفه بسوء، فهي مجرد امرأة فاتها القطار، أو "نقاقة" تشبه زوجته التي تطالبه بحقوقها، بعد أن تغسل رجليه من غبرة الطريق. لعل سؤال غياب المرأة، هو سؤال الحرية الأول، والجواب عليه لا يكلف الكثير، فالمجتمع لا يسمح بهذا، والأديب لن يستخدم ابنته الشابة او زوجته التي يخجل من منظر حجابها أو أمه المتخلفة من أن تلتقي بمثقفين مثله، هم في النهاية صيادون في شارع ضيق على حد تعبير جبرا. ما زل الأديب العراقي يستحي من السهر مع أصدقائه رفقة زوجته، فهي شرفه وعرضه المصان الذي لا يسمح التطاول عليه بالنظر او الحديث والملامسة. أليست الحرية هي ما تعنيه العلاقة بالثقافة من حيث هي سلوك حضاري قبل كل شيء، سلوك يختبر في العائلة والشارع ومع جلسة فنجان الشاي حتى؟ عندما نجعل سقف تحضرنا واطئاً يسهل تسلقه من قبل أعشاب التخلف الضارة. الأديب العراقي اليوم الذي يمعن بالاستشهاد بهيدغر وفوكو وليوتار ودريدا، لا يخجل من اعلان فخره بعشيرته، فهي في نهاية الأمر مثل ناقة يعبر بها صحراء حداثته القاحلة. عندما سألني أحد الشعراء المشهورين، ورئيس تحرير إحدى الصحف "التقدمية" في لقاء بأربيل، بعد ان عرف انني من أقصى الجنوب، عن أصلي العشائري، لم أصب بخيبة أمل، بل وجدتني أفخر كعادتي، من قلة أصولي التي يطالبني بها. هكذا تتشكل أفق حرية الأديب اليوم، بين طائفية وعشائرية فرضتا عليه واستحلى المكوث في ظلال حمايتهما، حتى ان معركة نشبت بين صحفي وزميل له اتهمه بمحاولة اغتياله، ان طالب المشتكي بمحكمة العشيرة لا محكمة القانون المدني. هذه الواقعة نشرتها الصحافة العراقية، دون أن تثير انتباه كاتب من الكتاب العراقيين. الذي أعرفه من قراءاتي المتواضعة، وتجربتي الأكثر تواضعاً، أن الحرية وعي وممارسة، ولن يكون لمطلب الحرية من معنى ونحن نتوسل حرية نفرط بها كل يوم، ووعيا يغيب عنا في غياهب تخلفنا. يستنكر الكثير من الأدباء الكلام عن الطائفية التي تضيق يوما بعد يوم بأهلها، ولكنهم لا يجدون ضيرا من التصويت لسياسي يرفع صوته او يخفيه بين طيات ورقته الانتخابية، ليقول في النهاية: الإسلام هو الحل، سواء كان هذا السياسي شيعياً أم سنياً. فقد سمعت شاعرا أحترمه يقول بالحرف الواحد انه يصوت لإسلامي معتدل خوفاً من قدوم البعث إلى السلطة، وكأن سلطة السماء أقل قهرا من سلطة الأرض. لن اعتذر من الذين يزايدون بالدين على المنكرين من أمثالي لسلطته الأرضية، فهي كما برهنت في كل البلدان على خراب الأوطان أينما حلت، وخراب الشعوب والنفوس أينما استوطنت. وخير للأديب أن لا يذهب إلى صندوق الاقتراع من أن يقبل برجل سينتهك حريته ومواطنته بالحتم في القادم من الأيام. نحن كلنا دون استثناء، نحتاج الى التمييز بين الأفكار الحقيقية وأشباهها، فكرة المثقف عن نفسه، عن حريته، عن الجسد، جسده وجسد الآخرين، عن معنى علاقته بالسلطة والسياسة، وعلاقته بالنقد كممارسة وحياة، لا مجرد كلام يقال في الصحف. والحق ان لحظة الغفلة تلك التي تستدرجنا إلى وكر السلطة، لا يستطيع المثقف النجاة منها بسهولة، وأمامنا تجربة البعث التي دامت ثلاثة عقود، حيث لم يجرؤ مثقف واحد إلى اليوم أن يعلن الكيفية التي غافلته وأوقعته في شراكها. تمرد على البعث كثيرون، بعد خراب البصرة وقبلها، ولكن ذاكرتهم محت ما يمكن أن نسميه غفلة التورط، لحظته الفاصلة التي سجلتها الكتب والصحف التي ما زالت قيد القراءة، فالتحرر من الماضي هو الخطوة الاولى نحو الحرية الذاتية، ونحسب أنها أثمن على الأديب من حرية ينتظرها في رحم المستقبل. لن نجد اليوم إلا من يزايد على التاريخ حتى يمحو ذلك الزمن من سيرته. اللحظة الحاضرة لا تختلف كثيرا على تلك التي انصرمت، وباشباع فج حتى نكاد نفزع من الوجوه الساكنة للثقافة العراقية، فثقافة لا تراجع نفسها جديرة دائما بالوقوع بفخ خطاياها. صحف الحكومة في عهد البعث لم تشترط أن يكون رؤساء تحريرها من طائفة صدام، ولا رئيس تلفزيونها وطاقمه من الطائفة ذاتها، وحتى في أقبح قباحات الطائفية الصدامية، استخدم عدي وأبوه الشيعة في المراكز الإعلامية، على الأقل من أجل ذر الرماد في العيون. ولكن أتحدى جريدة أو تلفزيونا حكوميا اليوم أن يمتنع عن أن يكون طائفيا لا في الخطاب فقط، بل في توزيع الوظائف والمراتب والمنح. نحن نتحدث هنا عن حيز إعلامي، والحيز الاعلامي هو حيز ثقافي شئنا أم أبينا، فما الذي فعله المثقفون العراقيون كي يستنكروا هذه الأنواع من الممارسات الطائفية الصريحة للحكومة؟ لعلنا في سكرة الحرية الجديدة، ننسى تلك التفصيلات الصغيرة، وميزة المثقف ان يكون واعياً، فما يملكه من عدة هو وعيه فقط، وعيه الفردي، وحسه بالمواطنة، حتى ولو شبع امتيازات في مواطنته الجديدة التي تمنح له وتحجب عن غيره. فالكلام عن الطائفية والمحاصصة والشوفينية القومية والعرقية يتولاه المتحاصصون أنفسهم، سواء في حكومة العراق او الإقليم الكردي، فما الجديد الذي يضيفه المثقف؟. المثقف العراقي بات يبحث عن محلية ضيقة، شأنه شأن السياسي، فتجاوز عقدة بغداد التي يجاهر بكراهيتها الكثيرون، لن يكون سوى بانشاء كانتونات مناطقية، بل اقطاعيات ثقافية تتحرك بآلية تبادل المنافع وتعزيز صلة الرحم التي تستبدل ولاء الوطن بولاء المدن. وكلما اندفعت هذه الكانتونات نحو الحداثة المرتقبة، كلما وجد أصحابها أنفسهم في حومة السباق نحو توزيع الخارطة الثقافية على مدن دون سواها، بل على مناطق داخل هذه المدن، فنحن في زمن إعلان الهويات الثقافية، وهو زمن رحب يسع الثقافة وفولكلورها وذاكرتها، ولكن أن يُستخدم للعصبيات والتنادي العشائري في الوظائف والمنافع، فهو يدرج في لحظة غياب الوعي وصعود الطارئين على الإبداع في كل الحقول. لا يملك المثقف اليوم قوة تمكنه من رفض ما ينتجه هذا الزمن العراقي الصعب، ومن حقه أن يستخدم صوته وقلمه كي يدين ويستنكر ويقاوم، ولكن كلمة الحرية كلمة خطيرة، وقعت في وهمها أجيال من المثقفين العراقيين الذين عاشوا شيزوفرينيا الفعل والقول، فمثلما تعالى مثقفون في السابق على الجنوب باعتباره مركز التخلف، حتى ولو كانوا من بيئات معدمة وأكثر تخلفا من بيئات الجنوب، فأشباههم اليوم من الجنوبيين يفعلون الأمر ذاته انتقاماً او تكبراً او تخلفاً عن مفهوم دور الثقافة ووظيفة المثقف. عندما سأل ممثل يونسكو في باريس وكيل وزارة الثقافة الدائمي، عن حاجات بغداد الى التطوير، أجابه بالحرف الواحد: ما هي بغداد إزاء المدن المقدسة التي أنجبت الأئمة الأطهار. لم يسعه القول ان كل المدن غالية علينا، ولكنها سياسة الزمن الجديد الذي نزايد فيها على كل شيء، ونبالغ في كل شيء، ونتعلم من صدام حسين ما كان يردده في الأمس، وحتى في خطاب مشهور له: هؤلاء البغادة الفطر. وهكذا ترك ابن العوجة بغداد بعد أن أمعن في رسم معالم تخلفها، واستكمل الاحتلال والحكومات التي أعقبته ذلك الحقد على العاصمة التي هي قبل كل شيء هوية العراق وقلبه النابض. حمل المثقفون المكانس في تظاهرتهم الأخيرة استنكاراً لعجز الحكومة عن تنظيف بغداد، وكنت قبلها استمع إلى أغنية في ساحة التحرير بالقاهرة: ده مصر وسخة وعايزة تتكنس. قالها المغني في عهد ناصر، ولم يكنس القاهرة سوى هؤلاء الفتية الذين تجاوزوا جيلنا العقيم في أمر واحد، هو انهم عاشوا الحداثة باعتبارها الرهان الذي يسعى الفرد على أن يتكون من خلاله وينوجد فيه. |