أُغنية الاخرس |
المقاله تحت باب قصة قصيرة أسمعه بعد انتهاء صلاة الصبح: ما أن يسلم الإمام، حتى يصفق بجناحيه . رأيته هناك، عند قلب نخلة الديري الباسقة التي تطل على فناء مسجد ميثم التمار ( المسجد له اسم آخر ، مكروه حتى ذكر اسمه الأول فيه ـ قال الإمام في خطبة طويلة : ميثم (1) فارسي ). وخلفها يبدو القصر العالي ، المتعدد الأبراج ، الذي لم يدخله أحد منا ، نحن مواطني الفسحة الترابية السبخة ، أو بما عُرفنا به بعد عقود: ناس عرصة الحديقة . لكننا في شهر مارس من كل سنة ، نسمع هسيس البارجة الأمريكية، ولا نرى برجها لأنه يختفي وراء احد ابراج القصر . أما الغراب المطوّق، الأكحل ، فهو يستبق الأذان الأول ـ فجراً ـ ويقوم ينعق صاخباً ، ثم يسحب رفيقته الى مكب القمامة ذي الغطاء الاسود، في ظل البرج الشمالي ، كأنه يدخل الى ميدان معركة. ومثله، أي مثل الغراب المطوّق، ذلك الطائر الهندي، الأكبر من البلبل، والأصغر من الغراب الأكحل، فإنه يزاحم المطوّق الصخّاب على الفضلات، ويزعق، ويتقاتل الذكران فيما بينهما بشراسة. ولا تنتهي المعركة إلا حين يفرش الاكحل جناحيه على الأرض، وهو ممدد على ظهره. هذا الطائر الماكر، الصقر الهندي الذي يسميه بعض جيراننا الحيدرآبادية: شيطاناً، حذر جداً، ويبدو واثقاً من نفسه، عندما يقترب من البشر والشجر والحجر؛ بحثا عن طعامه ، من دون ان يسمح لذكر آخر الأنفراد بأنثاه . وهذا ما حدى بأحد شيوخ قبيلة البلوش الى القول : " هذا طير امير " . وكان من رأي والدي ان هزاري ( الذي عاش معنا في بستان بيت الزبير ، عند منبت محلة الماجدية بمدينة العمارة ـ وهذا يعود الى يوم في سنة 1958 ) طائر مبروك . قال والدي : " اسمع يا هزاري ، إن هذا العندليب يقدّس في كنيسة الصابونجية ، ويقرا في المزاميرفوق كنيس التوراة في شارع المعارف ، ثم يختتم بأغنية قصيرة في مسجد الشيج كاظم الكعبي بمحلة المحمودية" . ثم اطلق والدي عقيرته مغنيا: " آه اغيرال ، اغيرال ، اغيرال " . ـ خَيرْ يا شَيْخْنا ؟ ربما كان ما قاله والدي صحيحا . فلقد فاجأني احد اقاربنا ذات مساء ، عندما كانت الحرب (2) على أشدها ، بحديث هاتفي اخبرني في احد منعطفاته ان والدي اوصى قبيل وفاته وهو يحتضر : " ارسلوا الى ابني هزاره الاثير" . صاحبي، ذلك الهزار ، صاحبي الذي لا يتجاوز طول جسده خمسة عشر سنتيمتراً، البني اللون عند الصدر، ذو اللحية الصفراء الزاهية، والذيل الذي مثل وردة عباد الشمس ، يحب الرقص بين أغصان شجرة الرمان، ويرتاح كثيراً عند شجرة التين، ويمرح أكثر وسط حقول الحنطة قبل الحصاد. لكن صاحبي هذا، هزاري، الذي يشاركني التنزه بين أروقة “حديقة زينب”، لم أسمعه يغرد قط. وهذا ما أثار دهشتي وحيرتي، وجعلني أتساءل: أهو أخرس؟ في الصباح التالي لم أره. وفي الأسبوع التالي لم أقابله. ومرّ شهر، وشهران، وثلاثة، وصاحبي غائب، بينما اغنيته القصيرة لا تزال تسكن في قلبي. وقبل يومين من ذلك اليوم، خرج صاحب القصر المتعدد الابراج ، بين اركان إمارته ، يحفّ به خدمه وحشمه ، وهو يحمل بيمناه بندقية صيد جديدة، اهداها له ادميرال البارجة الامريكية التي اعتادت الرسو، هنا، خلف البرج الشمالي في شهر مارس من كل سنة . قال الادميرال للأمير: "هذه الغنيمة ..هدية امريكا لسموكم " . قال ناس حدبقة زينب: اراد الامير إختبار دقة تصويبه ، وجودة البندقية العراقية المنهوبة ، فصوّب ماسوراتها الثلاث (4) نحو السماء ، واطلق ثلاث رصاصات. ثلاث رصاصات فقط . * ذيل على متن : ـــــــ |