روايتان عن شاب موصلّي مات محترقاً |
المقاله تحت باب قضايا عن نقاش:
لم يكترث أحد لعبد المنير (31 سنة) إلا عند موته احتراقا. فالرجل كان يعمل حمّالا لأكياس الاسمنت في ضواحي مدينة الموصل، وكان يتقاضى على تحميل الكيس الواحد الذي تبلغ زنته 50 كيلو غرام خمسين ديناراً فقط، أي ألف دينار للطن الواحد، وهو ما يعادل 90 سنت أمريكي.
إلا أن الطريقة التي مات فيها عبد المنير، أو ربما انتحر، أثارت الضجة من حول اسمه، وجعلته مادة للصراع بين وسائل الإعلام والسلطات الرسمية في الموصل، حتى أن هناك من لقبه بـ "بوعزيزي العراق" في إشارة إلى محمد بوعزيزي، التونسي الذي أحرق نفسه وأشعل ثورة في بلاده. ففي مساء يوم الأحد 13 (شباط) فبراير بثّت وسائل الإعلام المحلية في نينوى تقارير عن إقدام شاب يدعى عبد المنير محمد عبد الله على إحراق نفسه أمام مرأى من عائلته في منزله شمال مدينة الموصل، بسبب فشله في الحصول على أية وظيفة مناسبة. وظهر والد عبد المنير وهو يغالب دموعه أمام كاميرات عدد من القنوات الفضائية. وقال بأن والده الذي يسكن معه في ذات الدار، دخل ظهر يوم الأحد إلى غرفته وطلب من زوجته أن تجلب له "ولاعة"، وان تبقي الأطفال بعيدين عن الغرفة. وتابع الأب المفجوع: "المسكينة ظنت بان زوجها سيشعل المدفأة ليطرد البرد، ولم تكن تعرف بأنه سيستخدم نفطها في إحراق نفسه أمامها". وذكر الوالد بان عبد المنير كان يدير ورشة لتصليح إطارات السيارات، لكن "الأوضاع الأمنية المتردية في مدينة الموصل، وغلق الطرق من قبل الأجهزة الأمنية، جعلته يفتش عن عمل آخر"، وقبل أيام قليلة فقط وجد عملا منهكاً، وبأجر قليل في ضواحي المدينة، وهو حمال اسمنت. واتهم الوالد، الحكومة المحلية في نينوى انها تسببت بانتحار ابنه، لانها "فشلت في القضاء على البطالة، وكذبت في جميع وعودها التي أطلقتها في توفير فرص العمل وتحسين الاقتصاد". العائلة المكونة من والدي عبد المنير وزوجته وأخوته الذكور تجمعت في مكان العزاء المقام بالقرب من منزلهم في حي التحرير الفقير شمال مدينة الموصل، وراح أفرادها واحداً تلو الأخر يسردون تفاصيل تحول عبد المنير الى كتلة مرعبة من اللهب، وكيف انه فارق الحياة في المستشفى الجمهوري وسط الموصل بعد ان سجل التقارير الطبية نسبة الحرق بـ (90%)، واجمعوا في لقاءات مع "نقاش" على ان "الفقر هو من قتل عبد المنير". لكن الرواية الرسمية والمحضر الرسمي للشرطة كانا مختلفة عما دار في مجلس العزاء. ففي ظهر يوم الاثنين 14 شباط (فبراير)، عقدت محافظة نينوى مؤتمراً صحفيا، كانت المفاجاة حضور والد عبد المنير نفسه، وإلى جانبه وقف أحمد حسن العطية، قائد شرطة نينوى، والعقيد المسؤول عن شرطة المستشفى الجمهوري، والطبيب المقيم الاقدم الذي اشرف على حالة عبد المنير. وحضر المؤتمر مراسلو القنوات الفضائية التي نقلت الخبر. وتحدث الوالد وسط ذهول الجميع كيف ان ولده مات محترقاً في حادث غير مفتعل، "قضاءاً وقدراً"، متراجعا عن تصريحاته السابقة لوسائل الإعلام. وقال بأنه وزوجته لم يكونا موجودين اصلاً في الدار لحظة وقوع الحادث، وانه استند بادئ الأمر إلى رواية لزوجة ابنه المتوفى. من جهته، تسائل الضابط برتبة عقيد في الشرطة والمسؤول عن تحقيقات المستشفى الجمهوري: "لم يقوم شخص محتج على الحكومة بسبب البطالة بإحراق نفسه داخل غرفته وأمام أطفاله، لماذا لم يعلن عن ذلك خارج المنزل أمام بناية تعود إلى جهة حكومية على سبيل المثال؟". أما القاضي حسن محمود النائب الثاني لمحافظة نينوى، فقال بأنه يأخذ على وسائل الاعلام "استعجالها في نقل الحالة، قبل ان تقوم الجهة التحقيقية بتولي مهامها واعلان سبب الحادث". وبين القاضي بانه عمل في سلك القضاء لمدة ثلاثين سنة، لذا ومن خلال خبرته وتجربته الطويلة كما قال أنه توصل الى قناعة بان الحادث "لم يكن انتحاراً". واستند القاضي بشكل رئيسي إلى المحضر الرسمي لشرطة المستشفى. فقد اشار المحضر، أن "ضابطاً برتبة نقيب في الشرطة اسمه عمر قام بواجبه الروتيني في استجواب عبد المنير الذي كان يتكلم بوعي قبل ان تتدهور حالته ويفارق الحياة". وورد في المحضر أن "عبد المنير ذكر أن الحادث كان قضاءً وقدراً، وانه فوجئ بالنيران تندلع في ثيابه بعد لحظات من اشعاله فتيل المدفأة". وتضمن محضر الشرطة أيضا "إقراراً من الوالد بنفس الواقعة وبذات التفاصيل وانهما وضعا بصمتيهما على افادتيهما". أما الطبيب المقيم الأقدم، فقد أكد ما ورد في محضر الشرطة وقال بأنه استلم المصاب عبد المنير في الساعة السادسة من مساء يوم 12 شباط، وكانت نسبة الحرق 90% تغطي جسده ماعدا قدميه، وكانت الحروق من الدرجة الثانية والثالثة، وقال بان "هكذا حروق تؤدي الى وفاة صاحبها خلال ساعات فقط، لانها تتلف نهايات الاعصاب". وأن عبد المنير توفي في حدود الثامنة من صباح يوم 13 شباط (فبراير). وبين الطبيب بان عبد المنير كان على "وعي تام" عندما تسلمه في المستشفى، وعلل ذلك بالقول ان الحروق كانت خارجية، ولم تكن داخلية. وراح القاضي حسن حمود يناقش الادلة المتوفرة التي تنفي انتحار عبد المنير. وبدأ من حيث اقرار عبد المنير وهو بتلك الحالة، مشيرا الى ان القانون يأخذ بإفادة الشخص الذي تخشى وفاته "وهو دليل لايمكن ان يهدر بأي شكل من الأشكال". وواصل القاضي حمود "هناك محقق عدلي كشف على موقع الحادث، وانتقل الى المستشفى واستنطق المصاب، كما ان التقرير الطبي وفي فقرته الاولى يذكر ان المريض كان بوعي تام ساعة الفحص". ودعا وسائل الاعلام الى عدم التسرع في اطلاق هكذا قصص، خصوصا في "الظرف الحساس" الذي تعيشه نينوى على حد تعبيره، مضيفاً أن "هناك من حاول ان يربط حالة عبد المنير بحالات اخرى وقعت في بلدان اخرى (مصر وتونس) من اجل إثارة الناس ضد الحكومة". وبدا واضحا ان الصحفيين الحاضرين في المؤتمر لم يقتنعوا بالرواية الرسمية لحادثة عبد المنير، حتى بعد سماعهم لجميع الأطراف المعنية المجتمعين أمامهم، حيث سأل احد الصحفيين القاضي حسن محمود، عن كيفية قيام عبد المنير بوضع بصمة إبهامه على محضر التحقيق او التعهد، مادام التقرير الطبي و الطبيب المقيم الاقدم يقولان ان نسبة الحرق كانت 90% وتغطي كامل الجسد ماعدا القدمين، إلا أن القاضي لم يجب مباشرة على سؤال الصحفي. أما محافظ نينوى أثيل النجيفي، فقد ألمح الى أن جهات سياسية لم يسمها، هي من تحاول إثارة الرأي العام ضد الحكومة المحلية في نينوى، وهي من اقنعت والد منير بتحريف القصة لتبدو انها رسالة احتجاج ضد الحكومة على سوء ادارتها، غير ان التحقيقات ، والكلام للمحافظ، "بينت الحقيقة كاملةً، وهاهو الوالد يتراجع عما قاله بالأمس مصححاً خطأه، اذ لم يكن يتوقع ان يأخذ الامر كل هذا المدى". قيادي في قائمة الحدباء الوطنية التي يتزعمها المحافظ اثيل النجيفي طلب عدم ذكر اسمه قال لـ "نقاش" بانه حصل على معلومات تشير ان ممثلي أحزاب معارضة في نينوى اتصلوا بقنوات الشرقية والموصلية، الفضائيتان اللتان غطتا حادث احتراق عبد المنير، وفي ذات الوقت نصحوا والده الفقير بابتداع حكاية الانتحار لكي يكسب التعاطف ويحصل على شيء مقابل ذلك من الحكومة المحلية او حتى المركزية". واتهم القيادي وسائل الاعلام التي نقلت الخبر بـ "عدم المهنية"، لانها "اخذت مصدرا واحداً فقط وهم ذوو المتوفى، واهملت المصدرين الطبي والشرطة، وهو ما أدى الى تشويه الحقيقة". من جهته، دافع جمال البدراني مدير مكتب قناة الشرقية في مدينة الموصل عن تقريره الذي أظهر جانبا من عملية دفن عبد المنير، وتصريحات لذوي عبد المنير تفيد بانتحاره بسبب الفاقة والعوز الماديين. وقال البدراني بانه نقل "رسالة الوالد بمنتهى المهنية، وان تراجع الوالد عن اقواله في اليوم التالي مسالة لا تعنينا إطلاقا، فنحن لسنا جهة تحقيق جنائي". وكذلك الحال مع ايمن الناظم مراسل قناة الموصلية التي بثت قصة عبد المنير. فقد أكد لـ "نقاش" على ان جميع من التقى بهم من ذوي المتوفى وحتى جيرانه، تناولوا واقعة الانتحار، وقام هذا المراسل بسؤال والد عبد المنير في مؤتمر المحافظة الصحفي عن سبب تغييره لأقواله، فرد الأخير بهدوء" كان قضاء وقدر". المعارضون للحكومة المحلية، يتهمون من جهتهم الحكومة المحلية بدفع الوالد لتبديل أقواله. ويقول محمد غصوب الممثل عن مؤتمر نينوى للقوى السياسية المعارضة لحكومة نينوى المحلية: أن من "مصلحة الادارة في محافظة نينوى ان يتم تضييق الامر بجعله حادثاً غير متعمد، لتتجنب الغضب الشعبي، وذلك لن يتم الا مقابل تعويض مادي يقدموه للوالد الفقير الذي اضيف الى كاهله للتو أرملة مع أربعة ايتام". أما الذين ينفون انتحار عبد المنير، ومنهم الإعلامي فارس خليل، فقد ذكروا لـ "نقاش" بان قصصا كثيرة "اختلقت" في الموصل خلال سنوات الاحتلال الامريكي، "وهي ليست المرة الاولى التي تتبنى فيها وسائل الإعلام قضية غير موثوق في صحتها". وذكّر خليل بقصة غطتها وسائل الإعلام قبل ثلاثة أعوام، اتهمت فيها قوة أمريكية بتفتيش حافلة تقل طالبات في معهد المعلمات في مدينة الموصل، وقالت وسائل الإعلام آنذاك أن القوات الأمريكية أمرت الطالبات بفتح ازرار قمصانهن من اجل التفتيش. وهو ما اثار غضب أهالي مدينة الموصل، قبل ان يكشف المحافظ السابق دريد كشمولة عن تسجيل صوتي تنفي فيه طالبات الحافلة تلك الواقعة، جملة وتفصيلا. ويواصل فارس خليل: "التجربة أثبتت ان الكثير من الاخبار المتعلقة بالتفجيرات والقتل في أنحاء متفرقة من نينوى خلال الفترة الماضية كانت ملفقة، لأنها ببساطة لم تكن تستند إلى شيء رسمي يدعمها". وإلى حين تكشف تفاصيل جديدة عن وفاة عبد المنير ستبقى بعض وسائل الإعلام في الموصل تلقبه بالـ "بوعزيزي" في حين ستطوى صفحة ذكره من وسائل إعلام أخرى. |