المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
29/01/2011 06:00 AM GMT
عدا ما أنتجته السينما من أفلام دعائية سطحية عن الانتصارات الأميركية في العراق، فشلت في إقناع الجمهور واختراق جدار الصدمة التي أحدثتها الحرب في عقول الناس ونفوسهم، بسبب النمطية المفضوحة، والمعالجة الدعائية الكاذبة، المطبوخة على عجل، أنتج المجتمع الأميركي الزاخر بالطاقات عددا أكبر من الأفلام المحايدة والمعارضة والناقدة، جذبت أنظار العالم بسبب جرأتها في كشف خفايا النشاطات الحربية الأميركية، أشهرها أفلام مايكل مور، كاتب فيلم "فهرنهايت 11 أيلول" ومخرجه ومنتجه، الحاصل على 26 جائزة و12 ترشيحا، من بينها السعفة الذهب في مهرجان كان لعام 2004، وفيلم "حرب المنتفعين" لروبرت غرينوالد، وفيلم براين دي بالما "منقّح" (ريداكتد)، الذي نافس على السعفة الذهب في مهرجان فينيسيا، وصور حادثة اغتصاب الصبية عبير قاسم وقتلها مع أسرتها في آذار 2006 على أيدي مجموعة من الجنود الأميركيين. لكن سوق الكتاب كان الأغزر. فقد ظهرت في أميركا مئات الكتب عن حرب العراق، كتب دعائية وكتب مضادة أيضا. ربما يكون أشهرها وأعلاها مبيعا على الإطلاق والأردأ محتوى وغاية وأسلوبا، كتابا "عامي في العراق" لبول بريمر الذي يرتبط بالوضع العراقي ارتباطا مباشرا، وكتاب مذكرات جورج بوش "نقاط القرار"، الذي خص العراق بجزء كبير منه. أما أصغر الكتب حجما فهي ثلاثة: كتابان أدبيان وكتاب علمي، تم إنضاجها أميركيا في العراق، على أيدي جنود أميركيين. الأول والثاني هما ديوانا شعر، والثالث كتاب مذكرات بسيط، تسجيلي، اختص بمراقبة الطيور وتوثيقها، حمل اسم "طير العراق" واسم كاتبه جوناثان ترورن ترند.
الفانتوم تسابق الطير وتطلق أشعارها
ديوانا الشاعر بريان تيرنر "هنا، رصاصة" (2005) و"ضجيج الفانتوم" (2010) يعبّران تعبيرا مجسما عن العلاقة الوثيقة بين الثقافة والعنف، بين العراق وأميركا، بين أن تحتل أرضا ليست لك وبين أن تُسلط عليك راجماتُ الإحتلال حممَ الجحيم كلها. إذا طرحنا جانبا المادة العلمية لكتاب "طير العراق"، واستبعدنا موقتا الجوانب الفنية والتعبيرية لمجموعتي "هنا، رصاصة" و"ضجيج الفانتوم"، لعثرنا على ما هو أعمق اجتماعيا ونفسيا من مادة الكتب المباشرة: الشعر والحيوان؛ نعثر على جوهر العلاقة التي تربط القاتل بالقتيل، المحرِّر بالمحرَّر، الأميركي المثقف بالعراق وجودا وتاريخا: الخوف، ولا شيء آخر سوى الخوف. الخوف ربّي كما خلقتني، الخوف عارياً كما ولدته أمه. ربما يكون طريفا ومثيرا أن نعرف أن الكتب الثلاثة السالفة كتبها جنديان كانا في الخدمة الفعلية ضمن جيش الاحتلال. أحدهما شاعر ولد في كاليفورنيا وحصل على تعليمه العالي من جامعة اوريغون. خدم في القوات الأميركية في البوسنة 1999-2000، ثم خدم في العراق قائد فريق في اللواء القتالي الثالث، فرقة المشاة الثانية، لمدة سنة منذ تشرين الثاني 2003، حاز إحدى عشرة جائزة وشهادة تقديرية خلال أربع سنوات، بعد صدور مجموعته الأولى، وظهر اسمه في مختارات عالمية وأميركية، في عام 2007 ضمن منتخبات "أفضل الشعر الأميركي"، وعام 2008 ضمن مختارات صادرة من جامعة اوكسفورد تحت اسم مثير "الحاسة المنفردة: السوداوية، الجنون والإدمان". قارنه بعض المتابعين بالشاعر ولفرد أوِن، شاعر الحرب الانكليزي الذي قتل عام 1918 في الجبهة الفرنسية عن خمسة وعشرين عاما. ربما جاءت المقارنات بسبب الاشتراك الفعلي في الحرب، أون متطوعاً وتيرنر محترفاً. بيد أن معارضة الحرب من داخلها، من طريق تجسيم آلامها القاتلة كانت صفة مشتركة حقا. صنّفه الأميركيون شاعرا تاليا ليوسف كومونيانكا الذي كتب عن حرب فيتنام. هناك من يصرّ على جعل شعر تيرنر خاليا من السياسة، وأن نصه لا ينحاز الى أيٍّ من الجهتين. وهناك من يجعل وصف الحرب بذاته سياسة. القطيعة مع الرومنطيقية كانت إحدى مزايا شعراء الحرب الانكليز: ساسون وغريفت وأون، وكان لتيرنر مساحه تعبيرية واقعية ملموسة أيضا جعلت المقارنة مع أون ممكنة ومقنعة. أما جوناثان فهو هاوٍ للعلوم الطبيعية، أقل خبرة من الناحية الثقافية والفكرية والقتالية من تيرنر، حاصل على شهادة بكالوريوس في الأحياء من جامعة كنكتيكت الأميركية، لا يزال مبتدئا في مجال البحث ومجهول الاسم، لكنه لا يقل عن تيرنر شغفا بتخصصه وبالعالم الذي يحلّ فيه ضيفا أو محاربا، أو مواطنا. يعمل حاليا مع الصليب الأحمر في خدمات نقل الدم ويواصل الإهتمام بالطبيعة. خدم (يا له من تعبير ماكر وخبيث من تعابير الشر!) برتبة رقيب أول في الحرس القومي مع كتيبة الدعم الطبي، القطاع 118 في العراق لمدة سنة واحدة، انتهت عام 2005. تشابه الكاتبان في أن انطباعاتهما عن العراق حصيلة معايشة فعلية لعام واحد فحسب، عاشاه، تيرنر خاصة، في الفترة التي سبقت الزلزال الكبير، الذي أعقب إعلان انتهاء العمليات العسكرية رسميا من على حاملة الطائرات "لينكولن"، بأمر من طرف واحد: الرئيس بوش. كانت السنة الذهبية الأولى للاحتلال عبارة عن نزهة خيالية أو خرافية، بتقدير بعض الجنود الذين عاشوها. مرحلة نزهة التحرير الأميركية تلك سبقت اندلاع الحرائق الطائفية واشتعال الماكينة الحربية الأميركية بنيران مقاومة. بدأت تلك الحقبة فنيا ودعائيا بنشر صور اللصوص وهم يستبيحون تراث العراق وثرواته، ويؤدّون تدريباتهم الرياضية على ممارسة الحرية. رافقت تلك الصور المشينة صور مقابلة، معاكسة، مفعمة بالرومنطيقية والعذرية: صور الجنود الأميركيين اللطفاء الأسوياء عاطفيا وجنسيا وضميريا وهم يتجولون في شوارع بغداد، بحرية وسعادة، صحبة صبايا بائسات "محررات"، التقطن من دور الأيتام العراقية وملاجئها. كان الإعلام الأميركي المكتوب بأيد وعقول مبتدئة خاوية الحس والضمير، يظن أنه يرسم بهذه الصورة المتناقضة عالمين ووطنين وحلمين متعاكسين: عالم اللصوص والبرابرة والمستعبدين العراقيين ووطنهم وحلمهم، وعالم المحررين المتحضرين الأحرار ووطنهم وحلمهم. بيد أن تلك النزهات الدعائية سرعان ما احترقت فجأة وتساقطت رمادا على وجوه صانعيها. ففي تموز 2003 قادت المصائر العجيبة أحد الشبان المحررين، المفتونين بالقوة والزهو العسكري والحضاري، مسحورا الى إحدى قاعات الاستراحة الطالبية (كافيتيريا)، في واحدة من كليات بغداد. جلس فتى المارينز مبتسما على كرسي وسط الجميع، واضعاً بسطالاً على بسطال، بينما استلقت بندقيته السريعة الإطلاقات على المنضدة بتعال وتحدٍّ. كان وليد القدر الأميركي ينظر بزهو المنتصرين وفخرهم وثقتهم الى جموع الطلبة. بينما كان الطلبة يمرّون من حوله مندهشين، وهم يرون القدر أمامهم وجها لوجه، يرون الاحتلال بكل معانيه الحسية والرمزية يأتي بنفسه طائعا، ويدخل مقهاهم المختبئ عن مراصد الدوريات بساتر العلم والثقافة. كانت قاعة ككل القاعات، ظاهرها مشرب للشاي ومطعم لتقديم الوجبات الخفيفة واللقاءات الشبابية الرومنطيقية، أما باطنها فلم يكن سوى مرجل للدم والخسائر والخوف. آخر ابتسامة لفتى المارينز اختلطت، فجأة، ببريق ناري، تلاه صوت عاصف، ثم انفجر الرأس، فسقطت الابتسامة مضرجة بالدم وتناثرت على ماسورة البندقية، المستلقية بإغراء على منضدة الحقد التاريخي. كان ذلك هو البيان الختامي الحقيقي للنصر الأميركي، النصر الثقافي والاجتماعي على العراق، لا النصر السياسي أو العسكري. لقد جذب هذا الحدث الصغير انتباه بول بريمر الثالث، المشغول بالأحداث الكبيرة، فخصّ ذلك المجنّد القتيل ببضع عبارات في رسالته الطريفة المعنونة "طريق المستقبل في العراق وكيفية سبر أغواره" التي أذيعت يوم الثلثاء 15 حزيران 2003، وجاء فيها: "للمرة الأولى منذ عقود ها هم العراقيون يتمتعون بحرية حقيقية"، ثم اختتم رسالته بعتاب محزن، سببه الجحود الذي قوبلت به رسالة الحرية والتقدم، ويعني بذلك مقتل جندي المارينز، الذي مثّل وجوده على أرض العراق "شهادة على التقدم العلمي الذي بات ينمو هنا!" كان ذلك الجندي آخر أميركي يدخل مقهى عراقيا ببندقية لا توجَّه الى جباه العراقيين، وكانت تلك الكلمات آخر شهادة مزوّرة تتحدث عن التقدم العلمي الأميركي في العراق.
الشعر والطير يطاردان ضجيج الفانتوم
من مواطن فرادة كتابات المقاتلين أنها تشترك في وحدة المنبع البصري، وفي خصوصية مجرى الرؤية وامتدادات العين، والمساقط التي مرّ منها خط النظر، ومساحة التجوال الرؤيوي. كانت عينا جوناثان تبحثان عن التفاصيل في الكائنات التي تحلق عادة في السماء، بينما كان تيرنر يذهب في رحلات داخلية متتبعا مسارات الألم على الجسد البشري وفي النفس الباحثة عن مزيد من الوقت لممارسة الحياة، ويذهب في رحلات تبحث عن ضجيج الانفجارات في الشوارع. كان يحاول اصطياد التجربة الداخلية للحرب من طريق "وصف الأحاسيس التي تعمم المشاعر الخارجية للحقد والإذلال والحب وعدم الثقة والرغبة الحالمة بحياة طبيعية". وصفت صحيفة "نيويوركر" عينيه بأنهما "تستنطقان التفاصيل باستراتيجيا وشعرية". ذلك التشابه العميق بين الكاتبين الولوعين بالمراقبة والتفاصل، يجعلنا نرجح أن تكون مقلتا كل واحد منهما قد نظرتا الى العراق من محجر واحد، من تجويف مقفل الأهداب اسمه سجن الاحتلال، بكل ما يحمله هذا السجن من ظلمة وعنف ورهبة وعزلة قاتلة. المفارقة هنا تكمن في أن الجنديين نظرا الى العالم المحيط بهما من ثقب صغير في جدار ماكينة الاحتلال الجبارة، من ثقب صغير للمراقبة الوجلة، الخائفة، التسجيلية، الساعية الى إمساك شيء ما في سبيله الى الانقراض، أو في سبيله الى الذهاب نحو العدم. شيء ما لا يعرف أحد كنهه سوى من اخترقت قلبه رصاصة. هذا الأمر يعترف به تيرنر، الذي رأى أن استيقاظ حاسة الملاحظة لديه، نمت بفعل التعليمات العسكرية الميدانية، التي كانت تطلب من المحاربين مراقبة تفاصيل المشهد الماثل أمامهم بدقة. وهو الأمر عينه نجده مطبوعا على كل سطر من سطور جوناثان أيضا، حيث سيطرت على نصّه الرقابي كلمات محددة: رأيت، شاهدت، أبصرت، وراقبت. بيد أن هذه المراقبة، التي أقامها الجنديان من ثقب في الماكينة الحربية، لا تعني البتة أنهما كانا حبيسين في المكان، كما توهمنا المخيلة، مخيلتنا نحن، الجهلة بقوانين الحرب والتدمير. المحتلون أكثر منا مقدرة على التجوال دائما وأبدا. لصاحب الأرض ضجيج فوضى الحرية، وللمحتل جسد الفوضى كلها، له الأرض والسماء والحرية. على العكس من هذا التصور السلمي الخادع تماما، رأينا أبصار الكاتبين تنتقل من بقعة الى أخرى، وأحيانا تحلق في طائرة مروحية تخترق سماء سهل نينوى، فوق الروابي والقلاع والشطآن، وقد تستقر عند جسر الأئمة ببغداد أو في ساحة آشور في الموصل حينا، وحينا آخر عند البياتي الميت منذ دهور، أو عند سعدي يوسف المفتقد منذ عصور. لكنها، عيونهم، بكل اقتدارها وسلطتها النارية القاهرة، لم تكن تملك سوى حرية المحتلين: حرية المراقبة، والنظر من زجاج الطائرة أو منظار المدفعية أو كوة السيارة المدرعة. كم تمنى جوناثان أن يكون على رابية من تلك الربى التي مر عليها محلقاً كالطير فوق الموصل، ليكون قريبا بحق من ريش العراق الناعم! كانت عيونهما تنظر الى عالم آخر، عالم مسوّر بملايين الحواجز النفسية والاجتماعية والثقافية والأمنية. هنا، المقهى ممنوع. والبيوت لا تُدخل إلا مقتلعة الأبواب. والمياه تأتي معلّبة من سيرا نيفادا، حتى الهواء كان يأتي معلّبا، ممهورا بأختام برجي مركز التجارة العالمي.
للحرب طيورها وأشعارها
بيد أن التجوال التاريخي لم يكن ممنوعا تماما في العراق المحتل، وطرقه لم تكن موصدة بحجر اللعنة دائما. ربما لأنه تجوال في الخيال! لكنه لم يكن متاحا بالقدر الذي تقتضيه حميمية التاريخ، وحميمية العلاقة مع الطير أو الشعر، بسبب ضيق كوة السيارة المدرعة. وعلى الرغم من ذلك، يجد القارئ المسالم بعض المسروقات الأثرية مطبوعة على حدقتي الكاتبين، وربما وجد بعضا من شظايا التاريخ المفتتة المتطايرة تلتصق بصور تيرنر في هيئة خيمة (!) يسكنها العالِم العربي الحسن أبو علي بن الهيثم (ولد في البصرة 965 م)، ولا يعدم وجودها على نحو مخفف وعابر بين سطور جوناثان أيضا، الذي رسم بملاحظاته السريعة، البرقية، صورة رائعة للوحدة الفريدة بين المستعمر الدخيل والتاريخ المهان، بين جندي الاحتلال والأسطورة المنتكهة، الأسطورة الساكنة، الباردة، المنعزلة، المنفصلة عن ذات أهلها وكيانهم، ككل الأساطير المرسومة بعيون القراصنة، بصرف النظر عن طبيعة دوافعهم وحقيقة دواخلهم. يقول جوناثان في أجمل عشرة أسطر من كتابه الصغير: "انطلقت في الصباح التالي لمشاهدة الطير في آثار بابل. كان الطائر الجديد الأول الذي رأيته هو المهذار العراقي، وكان جاثما بكرم على السياج لدقائق معدودة قبل أن يغيب في القصب. ورأيت في المكان نفسه بعض صغار البلابل ذوات الخدود البيضاء وقد نبت ريشها تواً. هناك بركة ماء قرب المدرج الروماني من عهد الاسكندر الأكبر وكان هناك بلشون الليل وبعض الغطاسات الصغيرة وصياد السمك المبقع والكرسوع (أبو المغازل). ورأيت قرب الخرائب للمرة الأولى يمامة النخيل (الحمامة الضاحكة) تدور حول نخلة. حقاً لقد استمتعت بمزايا هذا المكان حيث الخصوبة والطير وعراقة تاريخ بابل، ناهيك بأن هذه القاعدة أكثر أمنا وأمانا من قاعدتي العسكرية، إذ لا يتم استهدافها على الإطلاق" ("طير العراق"، ترجمة كامل جابر، "منشورات الجمل"، ص51). من دون شك إن القواعد الحربية من طراز بابل، ثكنة الاحتلال الأسطورية، أكثر أمانا للجميع، للموتى وللأحياء، أكثر أمانا حتى من مقهى جامعي. في لحظات الهدوء، حينما لا تفزع طلقات تيرنر وفانتومه المرعبة أسراب طيور جوناثان الوديعة، كان هذا الأخير يدوّن ملاحظاته الطيرية، البريئة، على مساحة مقفلة، تتعارض تعارضا مطلقا مع آفاق مادته: سماء الطير الشاسعة، وفضاؤها السابح في المدى اللانهائي. كانت معايناته تعكس بعمق وعفوية صادقة صورة العلاقة الثقافية والاجتماعية التي اختارتها أميركا وبنتها بالقوة في العراق الجديد: مكبّات النفايات، أكوام الأزبال، برك الغسيل، المراحيض والبالوعات، وفي أحيان نادرة صفحة منعزلة، مهجورة، من نهر حزين، محروق الضفاف. تلك هي البقاع التي تجولت فيها عينا جوناثان، وهي العين ذاتها التي مُلئت وشحنت بأوامر ضباط المشاة الشرسين قائلة لبريان: انظر حولك، العدو يحيط بك، العدو مبثوث في التفاصيل، في الشظايا المتطايرة، في المقهى الطالبي، في التاريخ، في ذرّات الهواء، روحه مطبوع حتى في اللاشيء، اللاشيء الذي نريد الإمساك بمعناه الغامض ولا نستطيع! كان تيرنر وجوناثان ينظران الى جهة واحدة، الى جهة الخوف والعزلة، ولم يريا من هذا العراق الرائع، العميق، المزدحم بالألم والتراث والتاريخ، سوى ضجيج الفانتوم وصوت الطلقة وطير خائف يلتقط حبة قمح غريبة المذاق من مكبّات نفايات المارينز.
مساقط للضوء في أزقة الحرب
لم يكن تيرنر بريئا على نحو خالص. حينما يقول إن الرصاصة هنا، فهو لا يعني أنها هنا، إنما يعني شيئا آخر، يعني أنها هناك. مغروسة هناك في المكان الذي يمد فيه الجرّاح ملقطه ويحشره بين ثنايا اللحم النازف، حيث تستقر الرصاصة الحقيقية، في "المكان الذي ينتهي فيه العالم كل مرة". شعر تيرنر العراقي- المكتوب عن العراقيين- يرتحل في ثلاث بقاع رئيسية: التصوير التسجيلي (الفوتوغرافي)، كما في قصيدة "16 رجل شرطة": "الحفرة التي خلّفها الانفجار على الرصيف/ كانت من العمق أنها تسع سيارة متوسطة الحجم/ حطّم الاسمنت ولوى الحديد/ وجعل نوافد الواجهات حطاما/ ودفع سيارة بي أم دبليو الى السقف". أو المشهد اليومي، المألوف، أو لنقل الشارعي، الذي لا يستبعد حتى الكلمة العربية في جمله: "(أوقف تره أرميك) نادرا ما تكون مفيدة./ (سباح الهير) فعالة/ إنها تعني صباح الخير./ (إنشالله) تعني بمشيئة الله./ اصغ اليها جيدا حينما تقال". لمن يوجه تيرنر كلماته هنا؟ لمن يكتب هذه العبارات التعليمية؟ ألتعليم الآخر البعيد وتعليم النفس سبل الاتصال والسير المألوف، العصي، في أزقة الحرب؟ ربما يريد أن يعلّم نصه الانكليزي فن التحدث باللغة العربية! كان التجوال الثالث تاريخيا ثقافيا خالصا، يدفع تيرنر نحو عتبة أعمق من الصورة الحسية، يدفعه الى بريق استخلاص المغزى، الى العلاقة الأبعد، ويقربه كثيرا من ضفاف التصعيد التأملي شعريا. مثل هذا الإحساس رأيناه مطبوعا في قصيدة "ابن الهيثم البصري": "أستطيع أن أسافر ألف سنة الى الوراء، الى شهر آب من عام 1004/ الى خيمة صغيرة حيث ينحني ابن الهيثم نائما بين كتب/ عن الغروب والظلال والضوء نفسه/ لا أريد أن أسأل عما إذا كان الضوء يرتحل بخط مستقيم/ ولا عن قوانين إنكسار الضوء/ ولا كيف اكتشف علم المساحات التحليلي/ وددت أن أسأل عن الضوء الموجود في داخلنا". أما النص الأميركي فهو حفر مبضعي موجع في جسد الحرب، هدفه النهائي استخراج الرصاصة التي اخترقت بدن الحياة واستقرت في الأعماق. هنا لا يستطع أحد أن يرجح أيّ جزء من تلك الترحالات هو الذي قاده الى مجموعة "ضجيج الفانتوم"، الصادرة بعد خمس سنوات، لأنها جميعها عبّدت الطريق الى ذلك، على رغم أن تيرنر لم يسمح لها كثيرا بأن تكون ضيفا قوي الحضور في نص مجموعته الجديدة، الذي بدأ يميل أكثر نحو تأمل الحرب، ولا يكتفي بمراقبتها، لذلك علق البعض قائلا: "إن الجندي الأميركي يمضي وقتا في تشخيص (تحديد كنه) العدو أكثر من الوقت الذي يمضيه في محاربته. وأن الموت لم يزل خبرة جديدة لدى الأميركي، لكنه الآن يقيم علاقة جديدة معه". ولكن أي علاقة تلك التي تقام مع الموت؟ ربما هي الرحلة الجديدة نحو الوطن. فإذا كان ديوان "هنا، رصاصة" يقيم في جسد الحرب، فإن "ضجيج الفانتوم" يشير بقوة الى درب العودة من الحرب مضمونا، ويشير فنيا الى سبل الانتقال من المراقبة الى التفكير، ومن التصوير الحسي الى التأمل، ومن التفكير في الحياة باعتبارها لحظة هروب من قبضة الموت، الى التفكير في الموت باعتباره نقطة ختامية صغيرة جدا وبديهية، في آخر سطر من كتاب الحياة ذي المجلدات التسعين. مما يؤسف له أن جوناثان وبريان غادرا العراق من دون أن يحفلا برؤية ذلك البهاء البشري العظيم، بهاء الحياة، الذي حجبته حرب الأشرار عن أبصارهما، لأنهما كانا مرغمين على أن ينظرا الى هناك، الى الجهة التي ستذهب اليها الطلقة القاتلة. على رغم هذا كله، على رغم الضجيج والرصاص، استطاعت الحرب أن تنجب خيالا هاربا من أبوّتها المقيتة. وإذا كان كتابا بريمر وبوش يؤكدان أن الاحتلال كبّد العراقيين أفدح الخسائر، حتى على جبهة الكتابة والعلاقات الشريرة بين السياسيين والحكام، فإن مجموعتي تيرنر الشعريتين تؤكدان أن العراقيين المقتولين ربحوا معركة العواطف والأحاسيس الجميلة، معركة الشعر والجمال والثقافة، لذلك كتب متابع عسكري لشؤون الثقافة محذرا من قراءة "هنا، رصاصة"، قائلا: "أنصح أن يُقرأ الكتاب بروية وتمحيص، وأن يكون القارئ مستعدا لبعض الألم"؛ وربما يؤكد كتاب جوناثان الأمر عينه، ولكن في محور آخر، البحث العلمي، مرفقا بمحور البحث البشري الهادف الى إبعاد العين المقاتلة عن رؤية آلة القتل موقتا، ودفعها وتوجيهها وجهة مغايرة: نحو أجنحة الطير السابحة في زرقة سماء صديقة، أليفة، خالية من ضجيج الفانتوم وصوت الطلقة.
علي بابا بدلا من علي بن أبي طالب وعلي الوردي
ربما لم يقرأ العراقيون قصائد تيرنر وملاحظات جوناثان الطيرية بعد. لكن الإرث الثقافي الشعبي الأوسع انتشارا وحضورا بينهم، الذي خلفه المجندون الأميركيون وراءهم ووصل الى أسماع العراقيين كافة، بعد القتل ونهب التاريخ الثقافي وتدميره، هو ظهور الأغاني السادية، التي تداولها الجنود في الثكن وبثّتها إذاعات محلية واسعة الانتشار. أما الجنود الذين انسحبوا من شوارع المدن الرئيسية فقد تركوا خلفهم آثارا لغوية ذات دلالات ثقافية معبرة، أشهرها أنهم أعادوا الى القاموس العامي العراقي، من طريق ثقافة شباب المارينز، بعض رموز الثقافة العراقية التاريخية الشفاهية. فعلى أيدي مجندي المارينز الأحدث سنا- جلّهم دخلوا الحرب لاكتساب الجنسية الأميركية، أو للحصول على وثيقة التأمين على الحياة إذا كان المجند مواطنا- تم إرجاع تعبير "علي بابا" الى الثقافة العراقية، في عملية تبادل ثقافي شعبية، فريدة وطوعية وصادقة. ربما لا يعرف أولئك الشباب أن تعبير "علي بابا" الذي تعرّفوا اليه حينما كانوا صبيانا يتسلون بمشاهدة أفلام الرسوم المتحركة في وطنهم البعيد، ينتصب أمام أعينهم المشغولة بمراقبة الأعداء، في الشارع الذي تخترقه "همراتهم" المجلجلة كل دقيقة، في ساحة كهرمانة، قرب الرمز التاريخي للصنم الأكبر المنهار في ساحة الفردوس. الإضافة الثقافية العميقة الشفاهية التي أدخلها هؤلاء الشبان الساخرون العابثون، هي أنهم جعلوا علي بابا لصا، بدلا من أن يكون كاشفا لخطط اللصوص، كما روت لنا شهرزاد عبر التاريخ. إنهم لا يكتفون بقتل بابل وبغداد، إنهم، بعبثهم المميت، يقتلون شهرزاد، شهرزادنا الفريدة، التي لم يتمكن تاريخنا الخيالي من قتلها على يد قاتل النساء الأكبر: شهريار! إنهم يطلقون الصفة الجديدة، صفة اللص، على كل فرد من أفراد الشعب العراقي. ذلك هو الارث الثقافي الوحيد، الذي ترك أثرا مسموعا في ثقافة الشارع العراقي، بعد كلمة عنف وفساد وانحلال. إن علي بابا هو صورة العراقي في نظر الجندي الأميركي، وفي تقدير السياسة الأميركية الرسمية، بعد صورة "الحاجة"، التي اعتاد المجند الأميركي أن يطلق النار بين عينيها، المذعورتين طبعا، كما تقول إحدى أغنيات الجنود المحررين المشهورة: "جذبت أختها الصغيرة ووضعتها أمامي. وعندما بدأت الطلقات تطير انتشرت الدماء بين عينيها ثم ضحكتُ بجنون". ربما لم يفهم العراقيون جيدا مضمون أغنية "الحاجة"، لكنهم جميعا رأوا بأمّ أعينهم، على أرض الواقع، كيف يتم إطلاق النار بين عينيها. فلم تكن تلك الأغنية سوى الإشارة العصابية السرية، التي تسلمها قتلة الصبية عبير قاسم ومغتصبوها، وراحوا ينشدونها بتلذذ وهوس، وهم يمارسون تمارين الحرية على جسدها المستباح. لذلك اعتقد المخرج الأميركي براين دي بالما أن صور فيلمه "منقّح" الصادمة هي الوسيلة الأمثل لوقف الحرب. متى تعلن قصائد شعرائنا الثملين بحليب الاحتلال قرار وقف الحرب؟ ومتى يحصي مراقبو الطيور العراقيون ما تبقّى لنا من حمامات هاربة، لم يسقطها "ضجيج الفانتوم" بعد؟
|