إن لم تكن تونس، فكيف ستكون مصر؟ |
المقاله تحت باب في السياسة أكتب هذا المقال من اسكندرية مصر: ليست هذه مصر التي أزعم معرفتها. شهدت جزءاً من تظاهرات «ثلثاء الغضب» في النهار. ولأنني «أجنبي» أدرك حساسية المصريين، حكومة وحتى شعباً، من الأصابع الخارجية، فقد اكتفيت بالتفرج والحديث مع الناس. في المساء، شاهدت مشهداً «عجباً» في مصر لا غيرها حين جاءت سيارات الأمن المركزي، الذي يصيب اسمه المصريين بالفزع، قادمة لإزاحة باعة الأرصفة عن السوق الشعبي الذي كنت أتجول فيه. صرخ أحد الباعة طالباً من زملائه البقاء ورفض التراكض: «إحنا مش بهايم». بقي الباعة، مرت سيارات الأمن المركزي كأنها في نزهة، وصفق بعض المارة. مصر تتحرك. قلت لصديقي المتشائم مصطفى الحسيني قبل ثلثاء الغضب بأسبوع إنها تموج بالحركة. غير أنني سأغامر بالقول أيضاً إن مصر ليست في حالة ثورة بعد. والمقارنات التي أتخمتنا مع تونس، بل وإدخال اضطرابات لبنان إلى جانبهما كما فعلت «نيويورك تايمز»، ليست أكثر من كاريكاتيرات مبتذلة في أحسن الأحوال. تتشابه الشعارات، بل تتماثل، في حالتي مصر وتونس: الخبز والحرية والكرامة ومحاربة الفساد. أهم من ذلك، وأكثر مدعاة للتفاؤل أن غالبية المتدفقين إلى الشوارع، وباعتراف شبه جمعي، شباب نزل بعفوية مستفيداً من شبكات التواصل الإلكتروني. عشية الأحداث أعلن قادة الإخوان المسلمين أن التنظيم لن يشارك بصفته هذه في التظاهرات وأن لأعضائه اختيار موقفهم كأفراد. غداة الأحداث كانت صحف «المعارضة» الهادئة تشير إلى متظاهرين رفعوا شعارات أحزابها، علماً أن مسيرة دعت إليها الأحزاب نفسها قبل ايام تحولت إلى مهــزلة شـارك فـيها بضع مئات فحسب. لكن التشابه بين مصر وتونس يتوقف عند هذا الحد. فمع أن أحداً ليس في وسعه التنبؤ بمآل الأمور الذي سيتبلور إثر صلوات الجمعة، إلا أن ثمة أموراً لن تتغير بين ليلة وضحاها. إن عقوداً من انحطاط نظام التعليم وانتشار الجهل والأمية، لا في الريف فحسب بل في المدن أيضاً، تركت بصمات عميقة على مستوى وعي المواطن ونظرته إلى معنى الحرية والكرامة وصورة الحاكم أو النظام الذي يحلم به. والعقود الأربعة التي تلت انتقال مصر إلى اقتصاد سوق مشوّه بعدما فرّخ نظام عبدالناصر المسمى اشتراكياً، قططاً سماناً قادوا هذا التحول، شرخت المجتمع المصري عمودياً إلى مجتمعات متوازية يصعب إيجاد قواسم مشتركة بينها. ليست انقسامات مصر هذه طائفية أو دينية في الأساس. إنها انقسامات قائمة بين عالم الأعمال الحديث، وعالم النشاطات المرتبطة بأسواق النفط الإسلامية، وعالم ثالث (وهو عالم ثالث بالفعل) يعيش على الهامش وينتج، مثله مثل كل عالم، أثرياءه القليلين ومسحوقيه المنتشرين في طول مصر وعرضها. ولكل من تلك العوالم أنماط قيمه ومثله وأساليب عيشه وشبكات تواصله الاجتماعي. حتى المسجد الذي تتوجه إليه غالبية مسلمي مصر ليس مسجداً واحداً، فخطب الجمــعة فــي الزمالك أو حي المهندسين الراقيــين لا تشبه خطب الأحيـاء الفـقيرة ولا خطـب الـقرى والأرياف. لكن الإسلام المسيّس يمتلك عنصر قوة غالباً ما افتقدته الحركات الأخرى، يتمثل في أن قمته وقواعده يتشاركون في ممارسة طقوس اجتماعية ودينية تمنح المعدمين شعوراً بأنهم ومترفيهم ينتمون إلى عالم واحد. أما الحركات الأخرى، فإن قادتها سرعان ما يهاجرون إلى أحيائهم ونواديهم حتى لو كانوا من أصول متواضعة، فلا يعود المواطن البسيط يفرق بينهم وبين من يعادي. لذا، فإن كــل الأوصاف التي نسمع عن مصر صحيحة وزائفة في الوقت نفسه، كما أظن. فالسيد محمد البرادعي، الذي نفد صبره لأن الثورة لم تحدث بعد أن قضى بضعة أشهر في مصر، أعلن من النمسا أن الشباب المصريين سيتجمعون حول مشروع ليبرالي يقيم دولة عصرية منفتحة على الغرب، والأخوان المسلمون واثقون من أن المصريين سيختارون الإسلام حلاً لكل مشاكل بلادهم. لكن ثمة أدلة قوية تشي بغير هذا وذاك. نعم، التويتر والفيسبوك باتا أقوى تأثيراً من الأحزاب السياسية. لكن الشباب المصريين الذين يستخدمون وسائل كهذه ينتمون في الغالب إلى أبناء المدن المتعلمين ممن تتجاوز دخولهم متوسط دخل المواطن المصري بدرجات متفاوتة. وصحيح أن الحراك انطلق من دعوات هؤلاء الشباب، لكن وسائل الإعلام تحاور متظاهرين يقولون إنهم لا يستعملون الكومبيوتر أصلاً، وينقلون قصصاً متشابهة عن إذلال تعرضوا له على يد رجال الشرطة، ووظائف تقدموا لشغلها بعد تخرجهم، لكن طلباتهم رفضت بسبب عدم وجود من يتوسط لهم، وعوائل تتكدس للعيش في غرفة واحدة تفتقر الى شروط الحياة الإنسانية. إلام، إذاً، يمكن أن يؤول ما يجري في مصر؟ إن تأثرنا المشروع بالثورة التونسية يجب ألا ينسينا أن عفوية الشباب المصري أطلقت قبل ثلاث سنوات «حركة 6 أبريل» المطالبة بالتغيير، وعلينا النظر إلى الحركة الجارية اليوم في هذا السياق، أي كإضافة نوعية إلى سلسلة تراكمات أخذت تفرض نفسها من الآن على القيادات المصرية، إذ لم يعد التخويف بتسلل الأصابع الأجنبية أو بإرهابيين يستخدمون الأجواء السائدة لتنفيذ مخططاتهم كافياً لإيقاف الحركة الاحتجاجية الآخذة بالتصاعد. بل لعل أحد أهم إنجازات هذه الحركة وهي في أيامها الأولى، هو توكيدها واقعة موت الحزب السياسي في منطقتنا. قوة الإخوان المسلمين، وما يشابهها من حركات كثيرة في منطقتنا لا تزال ضخمة بالقياس الى غيرها من الحركات، لكن تلك القوة لم تعد تكمن في جاذبية البرامج أو المشاريع السياسية، بل في أنها تستغل عجز النظام عن توفير حلول لمآسي البطالة والمرض والجوع لتتقدم كرب عمل يشتري ولاء الناس ووعيهم. النظام المصري لا يزال يمتلك عناصر قوة مهمة يمكن أن يستخدمها في حالات الضرورة، ولعل الأيام القادمة تمثل واحدة من تلك الحالات، إن لم تكن أهمها. فإذا صح القول إن المجتمع المصري منقسم بعمق، كما اشرت، فإن الحركة الراهنة نجحت في توحيد قطاعات متباعدة، كما يظهر من مثال انضمام محتجي التويتر إلى المهمشين، تحت شعارات مشتركة. لكن المجتمع المنقسم، بملايينه غير المتعلمة والمشوهة الوعي، يوفر في الوقت نفسه أساساً لجذب جمهرة غفيرة من كاسري الاعتصامات والمشاركين في «تظاهرات» مضادة. وليس من الصعب تخيل نجاح هؤلاء في إلقاء قنبلة هنا أو تدمير ونهب متاجر هناك تخلق الفوضى وتنشر الذعر وتشل البعض عن المشاركة، بل وقد تدعو بعض المشاركين إلى التراجع. وتلك نقطة اختلاف شديدة الأهمية بين تونس التي نجحت لجان أحيائها والجيش في شل محاولات التخريب منذ اللحظة الأولى وبين مصر التي تجد كثيراً من بسطائها يصدق الإشاعات العجائبية، لا سيما إذا اكتست طابع الخرافة المتّشحة بالدين والأولياء. ونقابات العمال التي لعبت دوراً محورياً في الثورة التونسية، تلعب دوراً معاكساً تماماً هنا. لن تحدث الثورة، إذاً. لكن مطالب الحرية والكرامة والعيش الكريم تأصلت في النفوس. إنها تتّخذ، وستتّخذ أشكالاً تتباين بين مصر وتونس واليمن بتباين مجتمعاتها ودرجات تطورها والمشاكل الآنية التي يواجهها كل منها. لكن المؤكد أنها ترد بحسم على «خبراء الديموقراطية» الغربيين الذين نقلت اسبوعية «الإيكونومست» الرصينة عنهم قبل أقل من شهرين فحسب «أن عديداً من العرب الليبراليين يفضلون حكماً تسلطياً» خوفاً من مجيء نظام إسلامي مجهول التوجهات. أما كاتب مقال «الإيكونومست» فاستنتاجه يليق باستعماري بريطاني من القرن التاسع عشر: «لعل العامل الأهم في حفاظ المتسلطين على كراسيهم... يكمن في تعود معظم الناس على التسلط كواقعة من وقائع الحياة». ويسوق «برهانه» من قول فلاح بأن الأمور كانت أسهل في السابق حين كان على الجميع التصويت لمرشح وحيد. |