عـــدوُّنـــا الـــزمـــن! |
المقاله تحت باب مقالات و حوارات "واسفاه يا زهرة عباد الشمس التي أضجرها الزمان/ يا من تعدّين خطوات الشمس/ وتاريخ الزمن/ باحثةً عن ذلك المناخ الذهبي العذب/ حيث ينتهي المطاف برحلة المسافر" (وليم بلايك) ينهمر الزمن دفق شلاّل جارف، يصنع مصائرنا ويرصد خطواتنا، ثم يغافلنا ويتخفى في إهاب زهرة او رعشة ريح أو شهقة امرأة، زلقاً ومراوغاً كزئبق، مخادعاً ولئيماً، شحيحاً وساخراً من ضعفنا إزاءه، نطارده ويطاردنا ويحتل ثغر أرواحنا الراعشة، موكول ازدهارنا وذبول الأهواء فينا، حاكمنا المؤبد وسيد الأمكنة. كلنا مغلول إلى جبروته، لا نفلت من سطوته إلا بولوج فتنة الحلم، الحلم بلا زمن ولا منطق ولا حدود، منه وفيه نجد جلّ حقيقتنا، نعجن فيه ماضينا ورحيق حاضرنا وما سيأتي من شهوات القلب. الحلم سبيلنا المفرد لتحمل ضنى عبور الزمن ومتاهات الأمكنة وتضاريس الأحداث. من لا يحلم، ينتهك الزمن روحه كل آونة. لا أصدّق من يدّعي عدم الخوف من الزمن وهو لا يحسن مقاربة الحلم، بل أن ذلك الذي لا يحلم هو أشد الناس رعباً من جبروت الزمن. امرأة الطبيعة تحتل المستقبل في كتابها الممتع والأصيل حول امرأة الطبيعة، "نساء يركضن خلف الذئاب"، تقول كلاريسا بنكولا إيتس عن علاقة المرأة البرّية بالزمن: "تعيش المرأة البرية في قاع البئر، على سطح الماء، في الأثير قبل الزمان، تعيش في الدموع والمحيطات يسمع أزيزها من لحاء الشجر وهو ينمو، إنها آتية من المستقبل وفجر الزمان، تعيش في الماضي وتحضر عندما نستدعيها، تعيش الحاضر وتأخذ مكانها الى مائدتنا (...) وتوجد في المستقبل". هكذا هي المرأة الوحشية الاولى التي تحتل مستويات الزمن وغالباً تملك مفاتيح المستقبل وتنوجد فيه كما تنوجد في الماضي، أراغون قال "المرأة مستقبل الرجل"، لكن اشبنغلر سبقه الى اعتبار المرأة هي المستقبل، تشير الى الغد بجميع افعالها الحيوية وعرافتها وسحرها وانوثتها ونورها وعتمتها. قال في كتابه الكبير "تدهور الحضارة الغربية"، إن "المرأة عرّافة بالفطرة، ليس لأنها تعرف المستقبل، بل لأنها هي المستقبل". نساء اشبنغلر، العرّافات والولودات واللاتي يقضين في المخاض والحروب، وكاهنات الحب والساحرات والمشعوذات، يمثلن في مسافة الرؤيا، في المستقبل الذكور المتحكمون بالزمن التاريخي غايتهم في حروبهم المرأة – المستقبل، يوقعون عليها أفعال معاركهم من سبي واغتصاب، فكيف ترد النساء على تاريخ الرجال الملطخ بدماء ابنائهن؟ يروين القصص فيستدعين الماضي ويحلمن ويحكين الرؤى فيدخلن المستقبل وتهيمن براعاتهن السحرية على الحاضر بالفن والشعر الذي يمد الزمن ويطيله فيجعل الحاضر كثيفا وممتلئا بالمعنى. امتلاك المعنى يعني الامساك بالزمن ووعيه. المرأة المتحضرة خضعت لتدجين الزمن العادي ونسيت عرافة جداتها البدائيات اللائي امتلكن ناصية الازمنة كلها. الفن يساعد، يعين ويفتح للخلاّقة والمرأة الوحشية منافذ الزمن وفضاء الرؤيا لتعود سيدة للمستقبل والزمن كله. من يصنع مادة الزمن؟ لو سلّمنا بمقولة كانط عن استحالة تعريف أبعاد الزمن الثلاثة، الماضي والحاضر والمستقبل، فإننا سنغرق في خواء المقولات الفلسفية ونتبدد ونبدد الزمن في تساؤلاتنا. وضع كانط امامنا شرط المستحيل، فالماضي هو الذي تبدد وما عاد موجودا، والمستقبل هو ما لم يحن أوانه بعد، فلا يتبقى من ممكن خاطف كالبرق الخلّب إلا الحاضر وهو ليس الوقت كله لكنه الزمن الذي تدركه الحواس ويعيه العقل وتعبره اجسادنا الحية في حركتها او سباتها. يقول القديس أغسطينوس إن الزمن هو أكثر من الشيء، فهو بُعد الوعي الذي يتوجه انطلاقا من الحاضر نحو المستقبل في الانتظار، ونحو الماضي في التذكر، ونحو الحاضر في الانتباه. على هذا، فالحاضر هو برهة انتباهنا لوجودنا في المكان والزمان، او كما يقول برغسون "لا وجود للماضي ولا للمستقبل: ليس الوقت إلا هذا الشعور بالتعاقب لهذه اللحظات الآنية. وإن ذكاءنا هو الذي يفهم الوقت انطلاقا من اللحظة الآنية، يربطه بالمكان لأن الآنية ليست من طبيعة الزمن، وإنما من طبيعة المكان. في مقابل هذا الزمن الفيزيائي، هناك الزمن النفسي، الديمومة. وفي الديمومة من حيث هي الزمن الذي نحياه ونشعر به، وحين لا نبحث فيه. لا يتصف بالآنية وإنما يختلط فيه الحاضر بالمستقبل والماضي. فهذه الأزمنة الثلاثة لا تتتالى وإنما هناك زمن واحد يختلط فيه كل من الحاضر والمستقبل والماضي. الديمومة ليست آنية، هي متصلة، لأن الشعور في حاضره غير منفصل عن ماضيه، ومقبل في الوقت نفسه على المستقبل. كما أنها ليست قابلة للقياس ومتجانسة. هذا هو الزمن قبل أن يتصرف فيه ذكاؤنا ويفككه إلى لحظات متمايزة". تقاويم الزمن "أوقات الحماقة تقيسها الساعة، وأوقات الحكمة لا يمكن الساعة أن تقيسها" (وليم بلايك) واضعو التقاويم خدموا الشمولية، كما لو كان هناك زمن واحد ومجتمع واحد وحقيقة واحدة. خدموا الرؤية الواحدة للكون، نقضوا الاختلاف، غادروا الجغر افيا وسكنوا التاريخ، صنعوا لنا روزنامات وانواعا من التقاويم، وحشرونا في اقفاص الزمن. يوم الاحد في بغداد قد يكون يوم الاثنين في اوستراليا او نيوزيلندا، ويكون يوم السبت في هاواي. يوم الخميس في اوستراليا هو يوم الاربعاء في بيروت. ليس للزمن حقيقة ثابتة، ككل شيء في هذا الكون الذي تنقض احواله النظريات المتغيرة كل آن. عصر البراءة المتخيل الأبدية شغوفةٌ بأعمال الزمان (وليم بلايك)
قيل في اساطير بعض المعتقدات أن الانسان نُفي من عهد البراءة المزعومة (هل كان ثمة زمن بلا آثام؟!)، حينئذ سقط من الزمن إلى المتاهة الكبرى – الحياة، ووجد نفسه بلا دليل ولا علامة تأخذه إلى طمأنينة القلب، وما لبث بعدما اثقلت كاهله رحابة الحرية والزمن اللانهائي، ان وضع نفسه طوعا منذ تلك اللحظة حتى يومنا هذا في قفص التاريخ، وشرع يدوّن الايام ويقسم المواقيت. صار أسير الزمن المحدود المقنن بعدما كان سيد الهيولى وحاكم الزمن السائل الدفاق يغترف منه بلا حساب ومن دون محاسبة من التقاويم وما تبعها من أغلال. صار الانسان أيضا رهينة البيت الذي استعبده بالاستقرار المريح والبليد في احيان كثيرة، وكان يتساءل بدافع وجودي محض: لماذا يستقر المرء في المكان والزمان، في حين أن الحياة تتبدد كل آونة؟ مرارا كرّر المتمردون السؤال، ومرارا جُبهوا بالخذلان من سادة الوقت وأهل السلطة. تمثل الحركة في الامكنة نوعاً من تحدٍّ للزمن، ويعين التجوال والترحل في جهات الدنيا على تمديد الزمن الذي يضيع ويتبدد من بين عيوننا. البابليون كانوا سادة زمنهم، حتى ظهر إلههم الدموي مردوخ، قاتل الأم الاولى تيامات، ربة الغمر المالح التي ألقى عليها شباكه الفولاذية وقطع اوصالها ليصنع منها جغرافيا لممالكه، ثم اقتنص الزمن كما تخبرنا قصيدة الخليقة "إينوما ايليش"، او "حينما في العلى". كيف قسم مردوخ الزمن وسيطر على دفقه العشوائي: صنع مردوخ منازل للآلهة/ خلق الابراج وثبتها في أماكنها/ حدد الأزمنة: جعل السنة فصولاً/ ولكل شهر من الأشهر الاثني عشر ثلاثة ابراج حدد الايام بأبراجها/ في الوسط ثبت السمت/ والى الشرق والغرب فتح بوابة/ وسلّط القمر على الليل/ وجعله زينة في الليل/ به يعرف الناس موعد الأيام/ في بدء الشهر يطل القمر/ يحدد الأسبوع. بعد اسبوعين، في نصف الشهر/ يواجه الشمس يكون بدراً/ ينحسر ضوء الشمس عن وجهه، يصفر/ يدركه المحاق، يعود ثانية. بهيمنة عبادة مردوخ بدأت السلطة الذكورية الدموية في بابل ترسخ نظامها وعنفها بهيمنتها على الزمن. تقاويم الثقافات المختلفة: فخاخ الزمن بعض التقاويم القديمة قامت على خرافة، بعضها على حاجة اقتصادية وروحية، القسم الآخر لمبرر سياسي. فالتقويم الذي فرضته الشريعة اليهودية على عهد الملك سليمان اقترح بداية التقويم اليهودي اعتبارا من تاريخ الخلق والتكوين، ومن ثمّ بدأوا يؤرخون سنواتهم تباعا بعد هذا التاريخ. وقد حددوا بداية الخلق قبل 2860 سنة من حكم الملك سليمان الذي تولى الحكم حوالى العام 900 قبل الميلاد، وعليه يكون تاريخ الخلق وفق حساباتهم، واستنتاجا حسابياً، في السنة 3760 قبل الميلاد . حضارات أميركا الوسطى، وبخاصة حضارة المايا خلال القرن الثامن قبل الميلاد، اعتمدت في حسابها برهات الزمن على الرمز والصورة، وكانت تقسم الايام مجموعات وكل مجموعة تضم عشرين يوما وتضم سنة المايا ثماني عشرة مجموعة من الايام أي 360 يوماً، تضاف إليها خمسة أيام كان يُطلق عليها أيام الشؤم التي لا يقدمون فيها على عمل او رحلة او زواج. شكّل عدد أيام سنتهم دورة للأرض حول الشمس مع فارق يبلغ ربع اليوم. ولا يختلف تقويم حضارة الأزتيك في المكسيك القديمة عن تقويم المايا، فكانت سنتها تتألف من 365 يوما، وكلا الحضارتين صوّرت التقويم السنوي بهيئة قرص مستدير مزيّن برسوم ورموز مختلفة تمثل العناصر والعوامل الطبيعية كالريح والنار والرعد والصواعق والأمطار والزلازل والبرا كين ورسوم الألهة والحيوانات الضارية والنباتات والأعشاب، وكل عنصر له رقم خاص به بدءاً من الرقم واحد الى 13. ويستدل الكهنة والمنجمون والسحرة على اقتران الرقم والرمز الموافق له لتأويل الأحداث والمناسبات كالزواج والولادات وغيرها من الأمور الحياتية ويقررون ما إذا كانت بشائر سعد أو نذير سوء. وكان التقويم الأزتيكي يتضمن تفسيرات وتأويلات لمجمل الشؤون الحياتية وكان الناس يستطلعون رأي المنجمين في شؤون الحياة اجمعها. الاستبداد والزمن المستبد لا يحتل المكان فحسب بل يمسك بالزمن ويمتلك الايام والتقاويم ويغيّر فيها ما يشاء ويفرض اعيادا ومناسبات تخص زمنه وسلطته، حتى ليتحول تقويم البلاد ملكية خاصة لكل قوة متسلطة في زمنها، فيعمد المهيمن على السلطة الى الاستعانة بأساطير الماضي وأحداثه التي تتداخل في متون التاريخ، ويفرض الماضي كشأن قائم يحتل الحاضر ويسيّره ويتحكم فيه. وبهيمنة الماضي وشخوصه ومفرداته على الزمن المعيش، ينسحب الحاضر ويتوارى وتدور دائرة الزمن ضد طبيعتها الكونية الاولية، فتستعاد احداث الامس وطقوس الخرافة وينزاح زمن الحاضر وراء سلطة الماضي. ويؤمن المستبد – سواء أكان واحدا ام جماعات ذات عقيدة ما - ان السيطرة على الزمن تعني السيطرة على الامكنة والبشر، وبالعكس. عندما اكتسح الهيبيون ساحات اوروبا واميركا وحقولهما في نهاية الستينات ومقتبل السبعينات وأقاموا احتفالات الحب الحر والموسيقى في الهواء الطلق وعلى ضفاف الانهار، كان اول رد فعل على مناهضتهم لمجتمعاتهم المتكلسة المحنطة في تقاليدها، انهم استهلوا احتفالاتهم بالتخلص من ساعاتهم التي ألقوا بها في الانهار. كان المشهد مفعماً بأحاسيس التحرر من قيود الزمن والأمكنة والتقاليد الخانقة. |