السلاح في العراق زينة وخزينة..

المقاله تحت باب  قضايا
في 
28/01/2011 06:00 AM
GMT



كدلالة على أهمية السلاح عند الفرد العراقي، هناك أهزوجة ريفية تقول: «بيع أمك واشري البارودة».. وأبناء المدن في العراق غالبا يتندرون على ابن الريف بالقول إن الفلاح عندما يحصل على الفلوس يتزوج أو يشتري قطعة سلاح.
وبالعودة إلى «ثورة العشرين» في القرن الماضي ضد بريطانيا العظمى آنذاك، تختزن الذاكرة العراقية الكثير مما هو زاخر؛ ليس عن أهمية السلاح فقط، بل تفوقه حتى على أهمية الأبناء أحيانا، خصوصا في الملمات. وتقول إحدى النساء في رثاء ابنها الذي وقع صريعا في المواجهة مع الإنجليز: «ابني المضغته البارود مفطوم على سركيها.. وغم راي التجيب هدان وتكمطه على رجليها». ولأن بعض المفردات بحاجة إلى «ترجمة» للفصحى، فإن هذه المرأة تفتخر بمقتل ابنها الذي هو أخ البندقية بالرضاعة «مفطوم على سركيها». ولا تكتفي بذلك؛ بل تنتقد النساء اللاتي ينجبن أبناء جبناء «هدان» بحيث يقمن بتربيتهم بمعزل عن أهمية السلاح في حياتهم.
لم يتغير الكثير بين الأمس واليوم. ففي عهد صدام حسين، كانت خطة «عسكرة المجتمع» سلوكا رسميا تشيد به كل وسائل الإعلام ويدبج له الشعراء الشعبيون وغير الشعبيين أفضل قصائدهم. أما اليوم، حيث يتجه العراق لبناء تجربة ديمقراطية من خلال الانتخابات والتداول السلمي للسلطة، فإن الطبقة السياسية تتبادل التهم في ما بينها بشأن سلاح الميليشيات مرة واللجوء إلى «عسكرة المجتمع» مجددا بهذه الطريقة أو تلك مرة أخرى.
على صعيد السلوك المجتمعي، لم يتغير الشيء الكثير أيضا بين الأمس واليوم؛ فمجتمع المدينة في العراق فشل في الحفاظ على خصوصيته المدينية بعد «الهجرة المليونية» من أبناء الريف إلى المدن مع أوائل ستينات القرن الماضي لأسباب مختلفة؛ القسم الأكبر منها يتعلق بالبحث عن الرزق. تلك الهجرة المنظمة حينا والعشوائية في غالب الأحيان، جعلت أبناء مدينة متحضرة مثل بغداد مجرد بقايا أفندية، بينما زحف أبناء الريف «الثوار» إلى الأحياء سواء كانت الراقية منها أو المتواضعة للسكن والإقامة وإلى مواقع السلطة للعمل والهيمنة. منذ ذلك التاريخ توزع أبناء الريف وقسم قليل من أبناء المدن بين ركوب أول بضعة دبابات تواجههم في المعسكرات المحيطة بالعاصمة ليقتحموا القصر الملكي أو الجمهوري معلنين الانقلابات تلو الانقلابات التي يسمونها ثورات من أجل التغيير نحو الأفضل مثلما تشير بيانات رقم واحد، وبين المجيء على «ظهور الدبابات»؛ لكن الأميركية هذه المرة بعد عام 2003.
ومع كل تغيير، تتكدس أنواع الأسلحة وآخرها المسدسات «كاتم الصوت».. هذه المسدسات التي بدأت تحصد أخضر السلطة ويابسها. فالمسؤولون متوسطو المستوى ممن لا تسير أمامهم وخلفهم الهمرات والسيارات المصفحة وتقطع الطرق لمرور مواكبهم، هم الآن الأكثر عرضة لهذا النوع من عمليات القتل. هناك من يتحدث عن فوضى السلاح في العراق، وهو أمر، إلى حد بعيد، صحيح، لكنه ليس على كل الصعد. هناك فوضى في طرق إدخال السلاح وأنواعه وأساليب حيازته. ولكنه من حيث الاستخدام يبدو في غاية التنظيم. فكل عمليات الاغتيالات التي تجري بواسطة المسدسات كاتمة الصوت ليست فوضوية؛ بل تجري في غاية التنظيم والتنسيق معا. فبدءا من طريقة الاستهداف وتتبع الضحية، فإن هناك عيونا ترصد، وهو ما يعني بالمصطلح المتعارف عليه الآن «الاختراق». فكاتم الصوت الذي أصبح الآن بعبعا مخيفا، لا يزال ضحاياه هم الكثر، وآخرهم مدير مكتب وزير الخارجية هوشيار زيباري. فهذا الموظف الدبلوماسي لم يقتل أمام باب الوزارة أو محيطها في منطقة العلاوي أو الصالحية وسط بغداد، بل قتل بمسدس كاتم صوت قرب ساحة عدن غربي بغداد. الجريمة هذه وقبلها الكثير وما سوف يأتي بعدها، سوف تسجل ضد مجهول ما دام أن الأجهزة الأمنية لا تملك حتى الآن استراتيجية واضحة لكيفية التعامل مع الأسلحة بمختلف أنواعها في مجتمع تنقسم فيه الآراء بين الحاجة للسلاح كجزء من عملية الدفاع عن النفس في ظل عدم القدرة على توفير الحماية لكل مواطن، وبين الهواية أو الثقافة الاجتماعية التي لا تزال ترى في وجود قطعة سلاح في أي بيت جزءا من أثاث البيت وأحيانا ديكوراته. الخلاف لا يزال جاريا حول كم قطعة سلاح يمكن السماح بها لكل بيت على أن تكون مرخصة. والكلاشنيكوف لا يزال سيد الأسلحة المنزلية في العراق.. أما المسدس كاتم الصوت فهو الآن آخر صرعة في عالم الموت المعلن عنه في العراق.