المقاله تحت باب أخبار و متابعات في
15/01/2011 06:00 AM GMT
(الصورة لطلبة من المعهد، أيام كان كاتب المقال يدرس فيه) سيداتي آنساتي سادتي، لقد قرأت خبراً شنيعاً، يُستدل منه أن هناك قراراً حكومياً بمنع تدريس المسرح والرسم والموسيقى في معهد الفنون الجميلة اعتباراً من 2011. يا إله السموات! في غمرة الجو الظلامي المخيّم على الفنون في العراق، سأتحدث عن الدرس الأول الذي تعلمته من هذه المؤسسة الفنية العظيمة التي أنتجت خير فنّاني العراق. إن الدرس الأول الذي حضرته في معهد الفنون الجميلة في بغداد، كنت متأخراً عليه، وذلك ليس لأن النوم قد أخذني في غيبوبته وإنما الطريق ما بين مدينة الناصرية وبغداد العاصمة كان طويلا، ومن أجل الوصول، لا بد أن أمضي الليل كله في القطار الذي لا يصل إلا وجه الصبح، مثلما يقول أهل الجنوب. إذاً كان اليوم الأول بالنسبة اليَّ تأخيرا لا بد منه، لهذا عندما دخلت قاعة الدرس كنت سريعا، ملهوفا، وغير مكترث لآداب اللياقة التي علّمني إياها الجنوب العراقي. طرقت الباب ودخلت، لا أنكر أن طريقة فتحي للباب كانت خشنة بعض الشيء بحيث أن الباب أطلق صرخات احتجاج أفزعت جميع الطلبة. وإذا برجل صغير القامة أشيب الرأس يستقبلني محتجاً بكل هدوء ورقة: لماذا؟! ماذا فعل لك الباب كي تبكيه وتخرجه عن صمته، رفقاً به يا رجل، إنه يبكي. أرجوك الاعتذار منه. فأجبته وأنا متفاجئ من هذا المنطق الغريب: أعتذر منه؟ فأجابني من دون تردد: نعم. تعتذر منه وليس مني، لأنك مثلما سمعت ورأيت بنفسك، إن الباب راح يبكي ويشتكي بصوت عال على طريقتك اللامبالية في دفعه. قلت لنفسي لحظتها، لا بد أن يكون هذا الرجل مجنوناً، وإلا كيف يمكن أن يطلب مني الاعتذار من باب مصنوع من خشب. وما بين تساؤلاتي الصامتة واندهاشي وتعجبي، اقتنعت أخيراً بتقديم الاعتذار إلى هذا الباب الذي دفعته. ولكن عندما سمح لي بالدخول والتقدم نحو المقعد الدراسي، انزعج المقعد من طريقة جلوسي، تضامناً مع أخيه الباب الذي يبدو أن اعتذاراتي الخجولة، وقهقهات بعض الزملاء على أول مشهد يتعلمونه في فن اللامعقول، لم يشف له غليلاً. فأطلق هو الآخر بعض الأصوات التي جعلت أستاذي المجنون، يقول: هل هي عادة لديك أن تؤذي كل من يحاول أن يقدم اليك خدمة أو مساعدة؟ فقلت مدافعا عن نفسي التي صارت موضع ضحك الجميع وسخريتهم: أبداً. فقال" إذاً عليك بتقديم الاعتذار ثانية، والتعهد أمام الجميع بأنك سوف لن تكررها ثالثة". بعد مراسم الاعتذار والتعهد على النفس بعدم تكرار الجريمة، راح بهنام ميخائيل يشرح لنا كيف يمكن أن تعبّر الأشياء التي نعتبرها جامدة، وبلا إحساس عن آلامها، حتى وصلت به الحال لأن يقول: إن الطماطم حينما تقضمونها متلذذين بطعمها، تبكي من الألم، وتظل تذرف دمعا على وجنتيها وأحيانا على اليد التي تمسكها، ومع ذلك تستمرون في تلذذكم بذبحها والقضاء عليها كلياً، ألا ترون في فعلتكم هذه جريمة لا تغتفر؟ لهذا أرجوكم يا صغاري الأعزاء، أن تتعاملوا برفق مع الأشياء، لأنها - صدِّقوا - تشعر وتحس بكل شيء، لهذا أوصيكم باحترامها، وإن لم تفعلوا، فكيف تريدون منها أن تحترمكم وتكون مطواعة معكم. إننا لا نحتاج حتى نمشي على الأرض أن نرمي بكل ثقلنا عليها، وأن نركلها بأقدامنا كما لو أنها لوح خشب ونحن المسامير التي يجب أن تقوم بثقبها وتمزيق وحدتها وتماسكها. يجب أن تعرفوا أين وكيف تضعون أقدامكم على الأرض التي تمشون عليها، كي لا تؤلموها أو تجرحوا مشاعرها. لا تتصوروا أيها الأعزاء، أن هذه الأشياء الجامدة بلا مشاعر أو أحاسيس. إنها أحيانا أكثر شعوراً وتعبيراً من الإنسان نفسه، فرفقاً بها، والآن دعوني أرى كيف يمشي كل واحد منكم على الخشبة، وكيف يتصرف لكي يملأ الفضاء بحضوره. هكذا صار يصعد كل واحد منا خشبة مسرح الصف الصغيرة لكي يستعرض طريقته في المشي واكتشاف الفضاء، قاطعاً الخشبة جيئة وذهابا من اليمين الى اليسار أو من العمق إلى المقدمة وبالعكس. ثم رنّ جرس نهاية الدرس، وخرجنا مبهورين مندهشين لا نعرف كيف نتحرك بشكل طبيعي، وكيف نضع أقدامنا على الأرض التي بدت لنا مثل كائن يجب التعامل معه بكل احترام وحساسية، أو كيف ننزل درجات السلم، وكيف نحتسي كؤوس الشاي والحليب في كافيتيريا المعهد، وكيف نمسك بها، وكيف يجب أن لا نزعجها أو نجرح مشاعرها الرقيقة. هنا بدأنا نكتشف جمال حركاتنا وتكويناتها مع الأشياء والفضاء الذي يحيط بنا. بهنام ميخائيل، ذلك المعلّم الجليل الذي غادرته الحياة ولم يغادرها، غادر الفضاء الخالي، ومع ذلك ظل يملأه، وعلى رغم الرحيل وتواري التراب على الجسد، وعلى رغم الموت وغيبوبته الأبدية، ظل شاخصاً، ماثلاً أمامي، بالصوت والصورة. لذا تجدني أتحدث عنه هنا بقليل من الإسهاب، لأنه وبكل بساطة، روح تطوف أروقة الجسد ودهاليزه مثل شبح شكسبيري. مثله مثل قاسم محمد، لا يريدان أن يتواريا عن الأنظار، طالما هناك خفايا لا تزال غامضة على النفس. إن بهنام ميخائيل للأسف، قليل الحضور في أحاديثنا عن المسرح، على رغم حضوره في كل بداياتنا وفي جميع المفازات التي قطعناها مع أنفسنا، سواء أكنا هنا أم هناك حيث التقينا به وتعرفنا اليه. إن الحديث عن بهنام ميخائيل، يختصر، حسبما اعتقد، كل أزمنة تألق المسرح العراقي، على الأقل بالنسبة اليَّ، فهو البداية الحقيقية للتفاعل مع هذا الوسط الثقافي المليء بالأسماء والتجارب. فهو بالإضافة إلى كونه واحداً من مؤسسي المسرح العراقي، شأنه شأن حقي الشبل، جاسم العبودي، إبرهيم جلال، سامي عبد الحميد، وقاسم محمد، هناك ما يميز بهنام ميخائيل عن غيره من الفنانين الذين لا يقلّون عنه قيمة وجودة. إن ما يميزه هو تعليمته للمسرح، فهو لم يكن يعلّمنا كيف نمثل، ونمشي على المسرح، وأن نقول هذا الحوار أو ذاك فحسب، وإنما علّمنا الأخلاق المسرحية، وكيف نحترم الموجودات التي نمر من خلالها ونتعامل معها كل يوم ولحظة بلا مبالاة، أو شعور بماديتها الروحية، كي يتسنى لنا تالياً احترام وجودنا على المسرح، ومن ثم الجمهور الذي تنتهي عنده المعادلة المسرحية .
|