ذكريات موسى الشابندر البغدادية:السيرة واضطراب لحظة التنوير |
المقاله تحت باب أخبار و متابعات هنالك اتفاق بين منظري فن كتابة السيرة الذاتية أن لحظة الشروع بكتابتها هي لحظة تنوير واكتمال. إنها لحظة يتجمع فيها التاريخ الشخصي ليكتسب معانيه الدالة في وضوح لم يكن متاحا لكاتبها من قبل بسبب الانهماك في التجربة. ومعروف أن بوم منيرفا الذي يرافق ربة الحكمة في الأساطير الرومانية، واستخدمه هيغل رمزا لحكمة الفيلسوف، لا يحلق إلا عند نزول الظلام واكتمال نهار التجربة. وهذا هو الافتراض الذي انطلق منه الدبلوماسي والسياسي العراقي موسى الشابندر (1897ـ 1967) في كتابة مذكراته "ذكريات بغدادية: العراق بين الاحتلال والاستقلال" الصادر عن دار رياض الريس عام 1993. لقد أثار اهتمامي الشديد في هذه الصفحات الحية الصادقة الطريقة التي حاول بها الشابندر تدارك حالة الاضطراب والخيبة واللامعنى التي انتهت إليها تجربته عبر إصرار مأزوم على السعي إلى لحظة التنوير التي تقتضيها السيرة. والواقع أن القارئ يحتاج إلى القراءة بين السطور ليدرك الجانب المأساوي في تجربة الشابندر وهو جانب يعد معلما متكررا في تجربة المثقف العراقي السياسية. وربما كان هذا هو التنوير المتحقق على نحو غير مقصود من المؤلف. سأركز هنا على مشاركة الشابندر في حركة رشيد عالي الكيلاني ومعاناته التي ترتبت على فشل الحركة. هل أكره الشابندر على الاشتراك كما حاول ان يثبت للمحكمة وللقارئ على حد سواء؟ أرى أن الشابندر كان متحمسا لنجاح مشروع الكيلاني. ويبدو من السرد أن دوافعه لم تكن واضحة محددة. كانت خليطا من الحماس لدور في الحياة السياسية كوزير للخارجية ورغبة في تخليص البلد من الهيمنة الاستعمارية الانجليزية، وقد اختلط كل هذا بتحفظه تجاه التدخل الأهوج للجيش في الحياة السياسية وتهميش المؤسسات الدستورية التي لم يكن بإمكان الشابندر ـ وأمثاله من المثقفين ـ أن يجدوا مكانا مشرفا في المعترك السياسي بدونها. علما أنه أعرف من سواه بالنتائج الكارثية التي نجمت عن الخطيئة الأولى في الشرق الأوسط حين تدخل الجيش العراقي في السياسة في انقلاب بكر صدقي، يومها استدعي من برلين حيث كان يعمل سكرتيرا في السفارة العراقية ليتوجه إلى بغداد في أجواء من الرعب والغموض ويواجه تهمة أدهشته هي المشاركة في إرسال أسلحة إلى نظام فرانكو في اسبانيا. ولم تتوفر أدلة قاطعة على التهمة ويرى في سرده أن سببها عداوة شخصية يكنها حكمت سليمان لآل الشابندر بسبب مطالبته بديون من قبل. وقد عانى الشابندر ثلاث سنوات ليثبت براءته ويعود إلى عمله في برلين (الطريف أن الحرب العالمية الثانية اندلعت بعد شهر من تلك العودة المنتظرة فعاد أدراجه إلى بغداد ليواجه المزيد من العجائب). إن التناقض بين الثورة وما تعنيه من شجاعة ومبدئية وبطولات من جهة، والحياة الدستورية المستقرة وما تعنيه من ابتعاد عن استبداد القادة العسكريين وتحكيم للعقل من جهة أخرى هو السبب الرئيس في ارتباك الشابندر في تبرير مواقفه. وكانت معضلته الكبرى أنه حاول أن يوازن الولاء للطرفين أو مسك التفاحتين بيد واحدة دون جدوى. وهكذا نجد نبرة الجزع والتحسر وخيبة الأمل تسود سرده لمعاناته، فهو لا يقدم نفسه بعد فشل الحركة بطلا في الأسر بل ضحية لرعونة الضباط (القادة) من جهة وخسة السياسيين والبلاط من جهة أخرى. من هنا يشعر القارئ بتعاطف مع الرجل. لم أشعر أنه شخصية زائفة مدعية على الإطلاق بالرغم من شتائمه وادعاءاته التي حاول بها تغليف حيرته بين النقيضين المذكورين آنفا. هنالك في سرده لوقائع علاقته برشيد عالي الكيلاني التباس متكرر، فهو يقول عند تكليف الكيلاني له بتولي وزارة الخارجية لأول مرة "شعرت في تلك اللحظة بمزيج من الاغتباط والتردد.. كنت فرحا بأن أخدم بلادي في مثل تلك الظروف ولكنني كنت مترددا لأن الوضع كان مرتبكا وقد لا أنجح في هذه المهمة.." (ص 251) ثم يقول عن ظهور اسمه وزيرا للخارجية بعد الحركة "كنت أشعر باغتباط أمام الشعور الوطني، وبألم أمام قلة التدبير والتفكير السائدة عند الجماعة."(ص 260) ثم يصف الحالة بعد تأزم الأحداث:"وبقينا بين طيش القواد وبين مكر الإنجليز."(ص 272). وحين أدرك أن قادة الجيش الانقلابيين سيجرون البلاد والجيش إلى تهلكة حقيقية طلب الاستقالة لكنه تراجع كما يلي: "رجاني [الكيلاني] أن أنتظر وأخذ يستنجد بوطنيتي وإخلاصي وشجاعتي و .. و .. وفاستولى علي الخجل، وهي نقطة ضعيفة عندي، ورضيت بأن انتظر ولكن لا أدري ماذا أنتظر." (ص 274) الجانب الآخر المثير للتأمل في هذه السيرة هو ما أعقب نفي الشابندر واعتقاله في الأهواز وأفريقيا ثم سجنه المذل في أبي غريب لمدة خمس سنوات مع مصادرة كل أمواله. وهو الثمن الذي دفعه لاشتراكه في الحركة. أفرج عنه قبل انتهاء المدة بسنة ونصف ثم عرض عليه نوري السعيد عام 1949 الاشتراك في حزب جديد شكله باسم حزب الاتحاد الدستوري، فصار الشابندر أمينا للصندوق في الحزب! ثم تم استيزاره من جديد في حكومة السعيد هذه المرة (بالرغم من قناعة الشابندر أن السعيد كان السبب فيما واجه من العنت وفي التعامل مع قضيته بوصفها جريمة عادية لا سياسية،وهو يعلق على التغيير متهكما "وسبحان مبدل الأحوال." ص 473). من الواضح أن حكومة الوصي والسعيد كانت قد قررت أن تواجه الناس بعد هزيمة العرب عام 1948 والوثبة بوجوه تحمل صبغة التطرف الوطني والقومي بعد أن اطمأنت إلى أنها شخصيات أفرغت من كل أحلامها ومثلها السابقة وصارت تسعى إلى شيء واحد هو حماية نفسها ومصالحها وأموالها المصادرة. نبرة التهكم واليأس والسرد المحايد التي ميزت الفصول الأخيرة تدل على أن الشابندر أدى دوره السياسي الجديد دون قناعة، وأنه أضطر أن يتنازل ويرعى مصالحه. يعلق على قراره الالتحاق بحزب السعيد وعلى ردود الفعل المؤيدة والمستهجنة بالقول: "أما بالنسبة لي فكانت خطوة إيجابية تخدم مصالحي الشخصية وإعادة حقوقي، وتخدم في نفس الوقت المصلحة العامة." (ص 473). لدينا إذن حالة معروضة بكل تفاصيلها لضياع المثقف بين الثورة الراديكالية والشرعية الدستورية وكيف أدى هذا الضياع إلى انسحابه إلى عالمه الشخصي مشغولا بجراحه وخيباته. لقد خرج الشابندر من تجربة النفي والسجن والمرض رمادا لا أمل لقدحة فيه، وصار همه الأول والأخير استعادة مكانته لكي لا يشمت به الشامتون كما يرد صراحة. لا أعتقد أن عملا أدبيا عراقيا قد عرض هذه التجربة المأساوية الملتبسة بتفاصيلها المؤثرة وصراحتها كما فعل الشابندر في سيرته. خصص الشابندر فصلا لذكرياته عن السنوات الخمس التي قضاها في مصحة شتالبر في سويسرا للشفاء من التدرن الرئوي (1925ـ 1930) وانطباعاته عنها. ولا يستطيع من قرأ رواية توماس مان "الجبل السحري" (1924) المخصصة لسبع سنوات قضاها بطل الرواية هانس كاستورب في مصحة مشابهة في سويسرا إلا أن يقارن الوصفين. والطريف أن هنالك تشابها في العناصر الأساسية؛ منها اعتقاد راسخ في النصين أن المصحة تختزل العالم الموجود في الخارج على نحو مكثف ودال. يذكر الشابندر أن الكثير من العرب كانوا موجودين في المصحة، وكانت تجري الكثير من الحوارات السياسية والفكرية بينهم. ومن الواضح أن العرب هناك كانوا يعيشون عالما واحدا مع الغرب الأوروبي. والشابندر نفسه نموذج على تداخل الأفقين العربي والأوربي، إذ يلاحظ ما لا حظه توماس مان في روايته من أن التيارات السياسية والفكرية السائدة خارج المصحة كانت ماثلة بقوة داخلها: هنالك الاشتراكي والفاشي والليبرالي، وهي نماذج يقدمها مان بتوسع في روايته. يبدو الشابندر في نهاية مذكراته وكأنه أحد أبطال مصحة مان، يكابد ثم لا يتعلم إلا درساً ملتبساً، يكتب تاريخه دون لحظة تنوير تواسيه، بالرغم من أنه يقدم لنا وهو يكابد ذلك صورة عميقة الدلالة. |