درس في التعايش مع «العماء» |
المقاله تحت باب في السياسة لم تصمد كل تقاليد التعايش القديمة في بلادنا بل تعرضت بجملتها الى تشويه ونواقص وهزات لم تبق منها سوى ذكرى. كما ان بلادنا لم تستطع بعد هضم دروس التعايش والتسامح من العالم المتقدم، والتي تسمح بأن يتواجد مختلف الناس بألوانهم المتناقضة وعقولهم المتباينة وثقافاتهم، في مدينة واحدة تزدحم بالتنوع مثل نيويورك. ولذلك فإن الاقليات العرقية والدينية في مدننا اليوم تمر بأسوأ حالاتها، كما ان الاقليات الثقافية مثل العلمانيين، يعيشون اكثر انواع الحصار اثارة في تاريخ العراق، وهناك شرائح اجتماعية واسعة غير مستعدة لهضم هذا التنوع وتطالب الاقليات بأن تتلون بلون "الغالبية". ورغم ان بلادنا تمر بأزمة تعايش خانقة، فإن لدينا درس تعايش وحيد استطعنا تطبيقه وحفظه عن ظهر قلب واعتماده كقيمة عليا لا تخدش. وفي وسعنا ان نكون "اساتذة" مهمين نساعد الشعوب التي تحتاج لا سمح الله الى هذا اللون من الدروس. نموذج التعايش الوحيد الذي صمد لدينا وقمنا بتطويره رغم كل التحولات، هو قدرتنا على ان نعيش ونتسامح مع حالات لا تحصى من الغموض و"العماء" والضبابية وفي قضايا كبرى تمس ثروتنا وأمننا ومآلات ابنائنا. ولا يحاولن احدكم ان يحصي عدد القضايا الغامضة الكبيرة في بلادنا، فهي اكثر من قطرات البحر، ويكفي ان الجميع شبه صامت طيلة الاسبوع الجاري حيال حركة كواتم الصوت الرشيقة والسريعة وهي تتنقل من موظف الى مسؤول امني دون ان توفر احدا، ويقال ان يوم الاثنين لوحده شهد عشرات الاغتيالات التي لم يعلن عنها، بينما تعيش بغداد ظروف تشديد امني استثنائية تكاد تعرقل كل شيء، والحكومة صامتة لا تفصح عن شيء الا عبر وعود مثل "امسكنا بالخيوط وسنكشف المتورطين". نحن المواطنون تعلمنا ان نتعايش مع الغموض في الملف الامني، وبقينا نتعرض للذبح اعواما دون ان نفهم في نهاية المطاف شيئا مهما حول هوية الجلادين. لا نعرف بالتحديد ما هو جهاز مخابراتنا وأين يعمل وماذا ينجز وسط هذا الحيص بيص، ومللنا طرح الاسئلة في هذا الاطار، وفقدنا شهية ان نتابع ونتحرى، اما المسؤولون فكأنهم يخفون شيئا لا يرجحون ان يكشف. لقد نجح المسؤولون اذن في "سد شهية" الاسئلة لدى الجمهور، عبر تكرار الاجابات الكلاسيكية التي جعلت العديد منا يبحث عن اي وسيلة تجنبه سماع المكرور. والملفات لا تنتهي، وحقل الاموال والمليارات وسوء الادارة مليء بالغموض الذي نجحنا ايضا في التعايش معه وضربنا اروع الامثلة عليه. السيد رئيس ديوان الرقابة وهو شخص محترم وموظف معروف بحرفيته، كان يتحسر قبل ايام لأنه لم يعلم مصير تسعة مليارات دولار ضاعت تقريبا في فوضى الحاكم الاميركي بول بريمر قبل ثمانية اعوام. لكنني كصحفي لا اجد شهية في متابعة هذا الملف، طالما انني اقف حائرا امام "الحسابات الختامية" للحكومة الماضية والتي لم نعرف بعد كم انفقت طيلة اربعة اعوام، 170 مليار دولار كما يقول حلفاء رئيس الوزراء، ام 310 مليارات دولار كما يقول خصومه. انتهت ولاية الحكومة ونحن لا نعلم من هو المحق، ونجح البرلمان والاحزاب والكتل بتجاوز الموضوع وتخطيه لأن الفارق بين الرقمين ليس كبيرا جدا "اكثر بقليل من مائة مليار دولار". نضطر للتعايش مع هذا الغموض الذي تضخم فأصبح "عماء" شبه مطبق. ونقنع انفسنا بأن لكل عائلة "اسرارها" التي يجب ان تكتم. وقد نوافق ان تبقى الاسرار مكتومة، شرط ان يتوقف العنف او ينحسر. وقد نرضى ان تبقى الاسرار خفية، شرط ان يتوقف هدر الاموال وتبذيرها وتوزيعها كهدايا "مليارية". نعم قد نضحي بما مضى لضمان "تهدئة النفوس" شرط ان يلتزم الآخرون ويقوموا بتجنيبنا الكوارث في المستقبل. ولكن هل سيتحقق ذلك؟ ام ان كتم الاسرار والتعايش مع الغموض سيجرئ المزيد من الناس على اتيان الأسوأ فالأسوأ؟ ومهما كان شكل المستقبل، فعلى التاريخ ان يسجل اننا افضل من تعايش مع "العماء" ورضي به. اننا في الطليعة دوما. |