المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
18/12/2010 06:00 AM GMT
الطرد من الجنة
أيها الناس، يا أيها التلاميذ، لِمَ كل هذه الكتب، القراطيس، لن نكتب. لِمَ كل هذا الزاد، لن نأكل. لِمَ كل هذي الخرائط، البوصلات، لن نصل. لِمَ كل هذي التراتيل، الكمنجات، لن نصغي. أيها التلاميذ، يا أيها الناس، لِمَ كل هذي المسامير، لن نقيم. لِمَ كل هذي الصحائف، الآيات، لن نقرأ. لِمَ كل هذي الخمور، الأمواه، لن نشرب. لِمَ كل هذي العطورات، البخور، لن نشمّ. أيها الناس، يا أيها الناس، يا تلاميذ، لِمَ كل هذي الثياب، الزمردات، لن نبدل. ومن كان عاشقا فليعد. لن نبصر. لدينا الكلام حسب. أيها التلاميذ، سنمضي إلى الأرض كي نتيقن من ضلال اليقين. للسماء نسألها عن ظلها المزيّن بالشبهات. سنمضي إلى الليل قبل النهار نلقي على بابه نظرة بعكازتين ليس اكثر. للسعادة، نريها مخالبها اللغوية. للخطأ صواب الشر فيه. أيها التلاميذ، يا أيها الناس، لن نقيم. الإقامة قبر. سنمضي إلى الغد الذي يتقنع بغبار قطعانه. الليالي وأوصافها إلى الحاضر الذي يتقهقر إلى غيبه. ونبقى في المضارع من أجل لا شيء. أيها التلاميذ لن نقرأ. ما نجهله لن نقرأه. سنحكيه حتى يتشافه او يشف لكي يرانا فنراه لنعشقه لا لنقرأه. يرى العاشق معشوقه ولا يعرفه، وإن غاب لن يفقده. ايها التلاميذ، سنمحو الذي يتكرر ونفرق المتشابهات. سوف لا نصغي الى الشراح ولا المترجمين. سوف لا نصغي إلى الخارج حتى يصبح داخلا. الخارج حار/ بارد اذ لا مقام. الخارج تأويل/ زيادة- نقصان ولا مقام. أيها التلاميذ، سوف لا نصغي إلى الأئمة، المرتلين، القراء. أولاء مجتهدون لهم أجرهم. ما لنا وللأجر. تقدم أو تأخر قشرة مما نريد.أيها الناس، يا أيها التلاميذ، سوف لا نصغي إلى النحاة ولا المتكلمين. حمقى يقولون- الفاعل مرفوع- فحسب. يا لفقر البلاغة والإلف (أ) حرف تضيق به الابجدية. والباء (ب) مفتاح سبع سماوات طباق. سوف لا نصغي إلى المجانين. حتى المجانين فِرق. فيهم الفرح المطمئن الى خيانة عقله. فيهم الذي يخون عقله ويقول عاش السلطان. فيهم الطفل لا يفرق بين ابيض او اسود. فيهم الشيخ ينكر صورته في المرايا. فيهم العاقل يضحك اذا تألم. ايها التلاميذ، يا أيها الناس، ما هذه الاسطرلابات، البوصلات، ما هذي الخرائط. لن نصل إلى سومر أو أكد، ولا ارض أوروك. ما نريد... آه... عذراً ايها التلاميذ، تذكرت سومر. هذا مقام ينبغي أن نصلّي ثم نبكي. ما لي تذكرت سومر الان! اللعنة أيها التلاميذ. تذكرت بغداد والكوفة. تذكرت أرض السواد. أرى الناس "سكارى وما هم بسكارى". ارى قبورا تمشي. أهذه سوق الثلثاء أم سوق الشورجة؟ امرأة تبيع خاتمها ثم تبيع يدها. رجل يبيع كليته ويشتري قمحا. أرى طفلاً أعمى يسوقه جزّار الى.... أهذا مارستان أم جامع الخلفاء؟ اللعنة ايها التلاميذ، أأرى ما ترون؟ باعة الدم اكثر من باعة الخضروات! واكثر من ذلك صور تتناسخ تتناسخ لمسخ لم تصوره كتب الاقدمين. أهذه بغداد أم مشهد ينبغي تحطيمه؟ أأرى ما ترون؟ حرس غلاظ على بيت الحكمة. اللعنة ايها التلاميذ. انه سجن بغداد. كتب مسجونة. حياة مسجونة. أرى هولاكو يسكر بالدماء ويمسح مؤخرته بالفتوحات. أأرى ما ترون؟ أم انني يكبسني حلم غابر؟ آه أيها التلاميذ، عذرا أيها الناس، لقد غاب الشفيع طويلا. ليته يبصر الان ما يحدث في أرض السواد، حالنا، شمس الكآبة تمنحنا الرمل والقيظ ولا ظل للسماوات في ارضنا. إلامَ وصلنا ايها التلاميذ؟ أفي مقام التهدج أم في مقام الخراب؟ على كل حال ينبغي ان نصلي لأن الضياع مقام. ايها التلاميذ، يا أيها الناس، أراني فانياً في الصورة. هيِّئوا سرير القلق، مكحلة الملح. لا توقدوا شمعة او سراجا. لن نبصر حتى يجفّ الظلام الذي في الروح، او يتم الفراغ. لن نأكل او نشرب حتى تأخذ الطير ارزاقه. لن نكتب. ماذا سنكتب يا مساكين؟ "ستضيق العبارة" ويتعطل السمع والنطق والوقت والجسد الهش. ما لنا والحروف. ما لنا واللغات. ما الموت، ما الحياة "اذا اتسعت الرؤيا"؟!
تدوين الصحائف
أيها الناس، يا أيها التلاميذ، أخرجوا من البئر لقد طار غرابي. أيها التلاميذ، يا أيها الناس، إسمعوا: السماء غير مسكونة، ولا ظل للارض. وهذا البرق لا تترجموه. بل دوِّنوه كصرخة، اننا شعب يتلاشى سؤالاً إثر سؤالاً، جسداً إثر جسد، وغياباً إثر غياب. أيها الناس، يا أيها التلاميذ، لن نصوم. بالكلام العابر والنادر، بالكلام الشائع، والصيحات سنشيد هذا النشيد. لن نصلي حتى نتم النشيد. سنعدو حفاة بلا حلم أو أمل. النشيد هو الذي نريد. أيها الناس، يا أيها التلاميذ، أننا منأسرون. أرى شجرا كثيرا ولا أرى غابة. فارغة هي الريح ولكنها تصفر تصفر. ما لنا نتعثر بظلال آبائنا الغائبين؟ ايها الناس أخرجوا من البئر. يا ايها التلاميذ، ولنتذمر. ها أنذا اول من سيسيء الظن بنفسه. سوف اتربص لنفسي لكي اتذمر. البدء من "المنفى" ولتكن أورا جديدة. هل لي أن أعاتب الله بشكّ العارف؟ أيها الناس، يا أيها التلاميذ، اخرجوا من الشيء الى إسمه. من الشيء الى شمسه. تسمم الكلام ولم تعد اللغة تسمع نفسها. وتلك قواميس الغيب لا تدرك تابوت النار، ولا تفسر حياة الشبح المنخرط في تجربة قياس العدم الفارغ بأسطرلاب يشير أبدا الى عدم فارغ. تلك ذات غافية تتنكر بالرغبات. تلك فلسفة تجعل الشعر يبيض قبل مغيب شمس الكآبة. تلك لغة عقبة في أرض عقبة في زمان عقبة. شاغرٌ ومبهم هذا الجسد. شاغرٌ ومعطل وقت هذا الجسد. غائبٌ ومتطلب هذا الجسد. أيها الناس، يا أيها التلاميذ، أيها القانطون، أيها السومريون، يا ذوي الرؤوس السود، أيها الكنعانيون، أيها المندائيون، يا أيها الأحناف، يا جوقة العالم، اسقط على ظلي ولا اعرف كيف أتراجع. جسدي وطني ولكنه عبد وغائب وأجنبي ومرتبك وعاطل ومباح ومنقسم وقبيح. جسدي وطني لكنه صرخة. شمعة. سجن. منفى. تابوت. حطب. تجربة في الإخفاق وأسئلة تجفف النار. استيقظ مبكرا لكي اجعل الغد الخائن يحن إلى أحلامه وأؤنث الربيع لأجعله زوجة لجنود يتقاسمون خسارتهم على رصيف مؤجر. أيها الناس، يا أيها التلاميذ، لماذا لا أستطيع أن اسمع ما أفكر فيه؟ تعلمت أن لا أستريح. وها انذا أستريح فماذا لديَّ؟ خيال يقاسمني نعمة لم تكن نعمة. تعلمت ان لا أقيم ولكنني ملزم أن أعلّق جثتي بالمسامير على حائط الغرباء. الغرباء يا أيها الناس، أنتم الغرباء يا ايها التلاميذ. مجهولون مكتئبون منأسرون مشبوهون مؤجرون في حياة مؤجرة. إننا الغرباء، يا أيها الناس، لنا تاريخ يطردنا، ولنا مدن تنفينا. لنا لغة لم تعد بلاغتها تكفي لتضميد حاضرنا الذي يحتضر. إلى أين نمضي؟ ما لنا غير اجسادنا، فيها نقيم وفيها نهاجر. ما لنا غير اجسادنا، ولكن اجسادنا اصبحت اجنبية. فإلى أين نمضي اذاً؟ الى بغداد؟ لكن بغداد لم تعد وطنا بل اصبحت ساحة للرماية. الى عمان؟ عمان بحرها ميت وميناؤها عقبة. الى سوريا؟ ربما الى القدس؟ القدس شعبها يتلاشى دماً وحجارة تحت شمس الكآبة. أيها الناس، يا مكتئبين، نحن عزّل. أيها المنكبون على مخطوطاتهم واساطيرهم دوّنوا اسراركم قبل ان تصرخوا في المرايا. المكان سيمحى ولكنه لن يزول. نحن نعرف ما نريد. ما همّنا اذا كان الذي يشدّنا الى فوق سماء او قبر، صحارى او فردوس. نحن نعرف ما نريد. أكاد أشمّ لون الضحايا وبريق الخناجر وهذا قمر فوق كهوف كنعان سيضيء الكارثة. هل سيضيء الطلاسم؟ هل سيضيء اللغة المهاجرة؟
أرض الكوابيس
أيها الناس، يا أيها التلاميذ، هذه ارض الكوابيس. أرى امرأة عارية تلقي على جسدي نظرة زرقاء. أراها وهي عارية تتساقط أسنانها حين تضحك. أيها الناس، يا أيها التلاميذ، هذه ارض الكوابيس، هذا قاربي، ولكنني كلما مددتُ يدي نحوه أصبح تابوتاً. أيها الناس، يا أيها التلاميذ، أهذه خيمتي؟ لماذا أراها قبراً إذاً؟ وهذا خبزي في يدي. بيدي صنعته فلماذا له طعم الطين؟ أيها التلاميذ، يا أيها الناس، يا أبناء الجارية، إنني ارتاب من الغد المشرق. أحضِروا جاريتي وابنها. هيِّئوا بغلتي. لن نقيم. واسعة هذه الصحراء، كيد ترسم العدم. خيالي طائش تحاصره أشباح أصنام. لماذا ينبغي أن أرمم نصب الشيطان؟ أيها التلاميذ، يا رسل التجريد، ألم يتجلّ الحدس في إسطرلاباتكم بعد؟ تمضي البذور إلى صيروراتها، فإلام انتم ماضون؟ الإيمان هو انتظار العدم المؤكد، وأنا ادفع الحاضر كي يبشر بي، واقفا بين عدمين، هما الأمس والغد، فادفعوا الحاضر قبل أن يستيقظ النوم في مزاميركم. ادفعوا القبح، هذا الذي يجعل الطبيعة تشمئز من نفسها. أخطاؤنا خصبة ولكن السخاءات تنمو في آثارنا. ولأن الممكن إغراء، دعونا ندخل العاصفة. ضعيفٌ وحرّ كسمفونية يعذّبني اللامتناهي متحف حياتي مفتوح وبه الفكرة ومن دمائي الدافئة والمخطوطة أُطعم أحلامي والطريق. أيها الناس، يا أيها التلاميذ، أصنام هناك وأصنام هنا. كوابيس هناك كوابيس هنا. وبين هذا اللظى وذاك اللظى سوف نبني جنة النار في هذا الفراغ. الفراغ. من هنا سوف نبدأ يا تلاميذ. أيها الناس، هذه ارض الكوابيس، ولكنني ملزم أن أشيّد بيتا هنا كي اغسل هذا الوجود، ملزم أن اجعل الحجر هذا يوافق صورته ويأخذ شكل الأبجدية، ملزم أن امنح كل حرف مقاماً كي يرى صوته في الكلام. حين أفصح، أفصح بالسين. وحين أبطن، أبطن بالصاد. ينبض المطلق في فؤادي، بيدي ارسم الغيب وبها أمحو اسمي. أيها الناس، سوف نبني بيتا بلا باب، فلا فرق بين الدخول وبين الخروج إذا كنت اعمى. سنجعله عالياً كأبد واقف بين غيبين، كأجل يتأجل دائما كلما فكر في سطوته. سنجعله بلا باب كي نرى الباب أيها الناس، ثم نترك آثارنا عنده، كل شيء ونهرب عائدين. يا أبانا كان لنا بيت من طين، وباب من الجريد، كانت لنا نخلة وتين، كان لنا نهر وفيء وصحبة ورغيف، كانت لنا شمس وقمصان على الأغصان، كان لنا سقف وكان لنا مطر، كانت لنا ريح سموم وفوانيس، كانت لنا مسامير من الخشب، كانت لنا خمور وحماقات، كانت لنا أعمارنا القصيرة، كانت لنا جنة للعذاب، لكنها على أي حال باب. ما أكثر الأبواب هنا وما أكثر العابرين؟ بيت مؤجر في أمستردام أو لاهاي، قبر مؤجر في أمستردام أو لاهاي. ما أكثر العابرين إلى الكآبة، الواصلين إلى جنة الفاليوم والخشخاش، كل باب هاوية، باب الجنة واسع هنا، ندخلها بمعاطف طويلة لا تفارقنا الأنفلونزا. ما أكثر الأبواب وما أكثر العابرين مثلي. أيها الناس، يا أيها التلاميذ، هذه ارض الكوابيس. هل قلت باباً أم بيتاً بلا باب؟ كلنا مبصرون ولكن أين الطريق إلى الباب؟ أراني قفصاً. أراكم أقفاصا. خيالي طائش وليس سوى سلال فارغة لديَّ، ليس سوى الرمل حولي. أرى أقفاصا كثيرة وعناكب أكثر. أيها الناس، يا أيها التلاميذ، أيقظوني من كيميائي قبل أن أتحول إلى عنصر يفسد الورد والذهب. أيقظوني. إنا بابكم واكسروني. أيها السيد المهذب، قد مررنا بعدك فيها. هذه الصحراء نعرفها رفحاء. لا يمرق طائر فوقها. قد عرفنا هذه الصحراء بعدك. الارطاوية جنود شقر وبدو. ارض الكوابيس نعرفها، ليس فيها باب ولا بيت. ليس فيها سوى فراغ يقود إلى فراغ يقود إلى فراغ. أيها الناس، أيقظوني قبل أن توقظوني. أنا بابكم، لا باب لي، وأحلامكم مستقبل ناقص مثل أمل عجوز يبحث عن موته. أيقظوني، إنا بابكم واكسروني .
عن "النهار"
|