المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
10/12/2010 06:00 AM GMT
قالوا عن عبد اللطيف الراشد بعد موته: "أقام نادي الشعر في الاتحاد العام للادباء والكتاب حفلا تأبينياً لمناسبة رحيل الشاعر والكاتب عبد اللطيف الراشد على قاعة الاتحاد صباح السبت 17/12/2005" ـ جريدة الصباح.
" بعد طرده ـ من الفندق ـ تأبط بطانيته وذهب سيرا على الاقدام من الميدان الى اتحاد الادباء لغرض المبيت في حدائق الاتحاد لكن المسؤولين آنذاك طردوه... صرخ منكسرا: احسبوني قطة واتركوا ليلي يمر بسلام" ـ محمود موسى، مقال: " الناسك المخذول". " عبد اللطيف الراشد ربما يكون اخر سلالة الشعراء الصعاليك"ـ باسم غفوري. " مات الراشد دون ميراث ودون مريدين ودون نساء...مات صديق الامكنة وشاعر الامكنة" ـ الكاتب علي حسن الفواز. " شاعر موهوب متعطش للحياة والحرية...لا تستيقظ عبد اللطيف... السير في طرقات بغداد صار عسيراً" ـ كاظم غيلان. " هذا العام عام الحزن في الثقافة العراقية، اذ فقدت مجموعة من الاسماء ابتدأت برحيل عقيل علي وانتهت برحيل عبد اللطيف الراشد" ـ ناظم السعود في حفل تأبين. " رحيل طائر السنونو دون أي اعلان أو وداع" الشاعر محمود النمر، حفل تأبين. " برحيل عبد اللطيف، تكون الشعرية العراقية لملمت اجنحتها وسرق العدم رموز الرصيف" خضير ميري، حفل تأبين. " الراشد مات من الاهمال ونحن جميعا نتحمل مسؤولية فقدان أدبائنا" ـ الشاعر حسين القاصد، حفل تأبين. " عبد اللطيف يبقى حاضراً بيننا" ـ الشاعر أحمد المظفر، حفل تأبين. " كان عبد اللطيف سليل صرائف مكروهة، طردتها المدينة من بين أسوارها" الشاعر ياسين طه حافظ، قصيدة:" حياة عبد اللطيف وموته". " يصلح هذا الانسان أن يكون بطل قصة تتحدث عن النقاء الموروث في الريف والاكواخ والتعاسة اليومية" ياسين طه حافظ، أيضا، مقالة: "تذكرت اليوم عبد اللطيف الراشد".
" أعيش مثل الضفادع في المستنقعات" عبد اللطيف الراشد، آخر مقابلة. " كان الصديق عبد اللطيف الراشد يحدثني كثيرا عنك وعن روعتك" ـ الكاتب جلال حسن، جريدة المدى، رسالة منشورة على الفيس بوك. " اذا أكو شغلة جايفة ورطني فيها حمزة هي معرفتي بك. رد عبد اللطيف قائلا: أحسن شيء سوّاه هذا ابن الكلب هو عرفني بك" ـ رسالة من فلاح المشعل، 25،ايلول،2001
أدناه سيرة مركزة لحياة عبد اللطيف الراشد، حياًّ، كُتبت في 20/12/2005 مباشرة بعد موته في 15/12 الذي صادف يوم منع تجول ومطر ورصاص وغزو.
"اذا صرخت من يصغي الى صرختي؟ ان كل ملاك صعب المراس يجب علي ان الجم نفسي وان ابتلع عويلي المعتم داخلي ان ابتلع ذلك الصراخ المتوسل!"
مقطع من قصيدة للشاعر ريلكه في رسالة لعبد اللطيف الراشد. ويضيف( تلك هي واحدة من مراثي ريلكه ـ مراثي دوينو ـ بل هي مراثي الوحيد الأعزل في هذا العالم. ما هو ذنبك أن تتحمل تفاهة هذا الوحيد الذي انخلع نعله... أرجوك ان تتحملني فقد خرجت عن طوري..ايهم اخاطب وايهم اوليه وجهي، الملاك أم الانسان؟كما يقول ريلكه). وأنا اعود الى رسائل عبد اللطيف الراشد ينتابني شعور من ترك صاحبه في صحراء تنهشه الضواري ـ تعبيره المفضل ـ لا أبحث عن حياة او نجاة، لان هذا مستحيل بين انياب الوحوش، ولكني عدت كي اعثر على بقايا عظام او اثر لصرخة أو كلمات مبعثرة مخطوطة بالدم، وكل ما وجدته هو صورة مرسومة "مثلما يرسم الأطفال في الرمل" كما كان سيقول السياب أو بورخيس لذلك رحت أجمع عظامي المرمية وبقايا وجهي الممتد من حافة القطب الشمالي الى شارع السعدون لأشكل صراخ تلك المرأة التي قال عنها أبولينير والتي ذكرها عبد اللطيف في هامش خاص في تلك الرسالة الرسالة:( الليل الذي يصرخ مثل زوجة في المخاض/ ليل الرجال المستوحدين). ويضيف: ( نفسه الذي قال " لسنا باعداء لكم ـ نريد أن نمنحكم كل الرحاب الغريبة ـ الغواصات المبحرة في روحي ـ ستذهب لانتظار تلك السفن الرائعة". لا أحد يكشف أسرار القلب سوى تلك السفينة الراسية تحت ظلال جبال النرويج على العشب. كيف يمكن للسفن ان ترسو على العشب؟ تلك هي بهجة الشعر. الوقت شتاء . هكذا يقول الناقد. أما ابولينير فينشج " الملائكة، الملائكة في السماء". لكن سقوط الثلج يذكرني برسائلك وأعياد رأس السنة وصلاتك من أجلي.شكرا لك. قد تكون هناك سخافات وتفاهات وشتائم لا تقدم ولا تؤخر. شعرت بالندم. لا تؤاخذني .ألم تقل لي انت" ماذا فعلت بنفسك؟" غالبا ما تصدر مني حماقات لا أقصدها ولم أحسب لعواقبها. انت تريد مني أن أكون " عاقلا"؟ كيف يمكن أن أكون عاقلا وأنا أعيش كما قلت وتوقعت أنت ... أنا أعيش بلا كرامة الفأر حتى؟ اذا كان الأعزل يتنازل عن كرامته لمجرد هو أعزل فهذه مسألة فيها اعادة نظر وانت سيد العارفين). كانت تلك الصداقة المكتملة القائمة على هوية قرابة جديدة تقوم على الرصيف والفقر والادب والالم والظلم والامل قد شكلت نوعاً من الحماية النفسية لطريد بلا ذنب وصار يشعر برعب الفقدان والهجر وخوف العراء التام من ابسط الكلمات ولم اشعر بذلك الا بعد مرور سنوات لأنني كنت اعيش تلك الصداقة كنوع من المرآة وتأمل الماضي المستمر وربما كنت اعيش تلك المشاعر للاسباب نفسها لكن من منفى آخر غير منفاه الداخلي. حين اعود الى تلك الرسائل اجد اننا لا نتحدث غالبا سوى عن الألم وعن موت مقبل كما لو كنا نعيش في عالم أصم ولا خيار لنا سوى مواصلة الحكي مادامت الحياة الحقيقية غائبة كحوذي تيشخوف. هل تذكر كيف مشينا الى...؟ هل نسيت تلك الليلة حين...؟ تذكر ذاك الشارع...؟ تلك المصطبة في...؟ محاولة مشتركة من الذاكرة للعثور على زمن يتفتت ويتلاشى عكس كل مشردي العالم الذين لا يشعرون بالحنين الى الامكنة القديمة لأن ذاكرة المشرد كذاكرة الغجري والطريد هي في المكان القادم وفي المنعطف المقبل وفي الامام والحاضر لأن تقديرنا الذاتي لانفسنا ظل سليماً لم يتزعزع ويمكن ملاحظة كبرياء عبد اللطيف الحي حتى وهو يتحدث عن احلك الليالي وكذلك في تقييم الناس والظروف والمتاعب والنظر من زاوية روحية جريحة ومتعالية لكن بلا اذلال ولا حقد. على طريقته المألوفة هوامش كثيرة ورسومات بقلم الرصاص على حواشي الورق الأصفر الرديء مثل:(اذا كنت انت اخترت من أجلي شهرزاد لتحكي لي حكايات الف ليلة وليلة فأنا هنا اختار تيريزا باتيستا"للروائي جورج أمادو"المصنوعة من الألم والحرب والوحيدة مثلي). وعلى هامش آخر في الرسالة:( في الميدان شربت البعشيقة حتى ثملت فكتبت هذه الرسالة/ للعلم كتبت الرسالة والتخطيطات وانا ثمل. انها تجربة/ لي قلب أكبر من ردف امراة/ قل لي: هل عندكم في النرويج بارات كما كنا ايام تشردنا؟ هل تذكرني وانت تشرب البيرة؟/سقط عقال الرأس تحت أقدام العابرين...) ربما أراد في العبارة الأخيرة ان يقول شيئا ما وحاول تمريره. ما اصعب واقذر الحياة حين لا تستطيع ان تعيش ولا تستطيع ان تتكلم؟ لا أن تسكت ولا أن تصرخ؟ لا يثبّت عبد اللطيف تاريخ الرسالة الا نادرا وربما سهوا وهذا أمر طبيعي بالنسبة لحالة المتشرد، فلا علاقة له بالزمن الا من حيث هو مجموعة أوجاع تأكله بسرية واحيانا يلجأ للصراخ المخنوق لتصديره الى الخارج بعد ان يفيض عن حاجته وعن مساحة الصحراء وهو ألم لو وزع على العالم لأصاب قارة بالجنون، وهو لا يذكر علاقتنا المشتركة الا حين يتذكر( ايام تشردنا) فهو الزمن الوحيد المحفور على جسده كما المرض الذي ظل يفتك به علنا وسرا وحوّله الى كوخ عظام متنقل. الزمن هو الليل الذي يصرخ كامرأة في حالة مخاض. الليل هو عدو الأعزل والوحيد حين يعود الناس الى منازلهم وتضاء النوافذ بالضوء الأسري الحميمي والناعم، وحين تطرد المدينة المهمشين الى النسيان أو زوايا الحيطان، ويكون الحزن، كما الجدران، باردا، واخزا، لأن الحزن كما الحب، كما الموت، يحتاج الى شراكة وحفل وأكثر من قلب. وكما ان الزمن ملغي عند عبد اللطيف فإن اللغة ملغية هي الأخرى، اعني اللغة الاجتماعية، ومن غير المعقول أن نحاسبه على ذلك، كما هي دعوتي المستعجلة مرة في ان يكون"عاقلا"، لأن احترام الزمن، احترام اللغة، احترام القوانين يتطلب ان يعيش الانسان وضعا لائقا، لأن حالة المشرد في الساحات العامة، المنفي في وطنه، المحارب عند الضرورة، هي انتهاك كل شيء، وعنف الكلمات في رسائله هو عنف له ما يبرره وهو العنف الوحيد الذي يوازي، ولا يساوي ، موته اليومي وعذابه المكشوف حتى اليوم الأخير حين لم يكن مسموحاً بالدفن في يوم منع التجول، آخر لمسة سخرية من تلك الحياة الشاقة. اخترعت له من أجل أن يؤجل موته حكايات طويلة، وكنت أعرف ان عبد اللطيف يحتاج الى الصداقة أكثر من حاجته الى المال الذي يسحقه سريعا كما لو يتخلص من عارض طارئ . وكان بدوره يبدو مسرورا بهذه الصداقة التي يسمو بها في كل فرصة سانحة الى مستوى الحنان والتشبث كرد فعل على صلابة عالم قاس وشرس وضع عقله معه حتى النهاية:(هذا العالم وضع عقله معك، انا حزين وسأصلي من أجلك. ساحفر لك قبرا في قلبي وسأتكفل بدفنك).كتبت له مرة. وفي رده كتب: ( قلت لي ستموت يوما بلا كرامة، حتى بلا كرامة الفأر.هل تدري؟ ان كلماتك الأخيرة صحيحة ونافعة وعرفت بها اشياء كثيرة عن نفسي....أرجوك اقطع كل شيء الا الرسائل...). الا الرسائل لأنه يحتاج الى الصداقة والحنان كتعويض عن وطن. كتبت له تلك العبارة لكي احثه على الهروب من الوطن ومن الموت الوشيك الداهم ـ هل من فارق؟ ـ الزاحف لكنها صارت نبوءة ولعنة رعب تطارده كما سيأتي: كان حريصا على الموت بكرامة حين تعذر العيش الكريم. لكن هل يستطيع ان يختار موته من لم يستطع اختيار حياته؟ ماذا ستقول النائحة عنك يا عبد اللطيف؟ والى متى تسلك سلوك الحشرة وهي تحلم منتصف الليل قرب الحيطان؟ كتبت له مرة. جاء الرد:( ورثت عن ابي لهب وزوجته حمالة الحطب ـ ورثت جمرة وحبلا من مسد، الحبل في أيديكم والجمرة في يدي، معين بسيسو). كتب:(عزيزي زهران، جميل ان تقرع اجراس الكنائس ويهبط الثلج عندكم. كلماتك "سكاكين وبلسم" في وقت واحد. خراب وجوع وشيخوخة وجسد منهك. اليوم حاولت مع صديق ان نلتقط صورة ونبعثها لك. ضحكنا كثيرا رغم قسوة التعبير في اسلوبك" ماذا تركت للنائحة ان تقول عنك؟" لكنها بواقعيتها تنطبق علي فعلا" انا أسلك سلوك الحشرة التي تنام قرب جدار وتحلم". سأقرر مصير بنفسي وان كان بعد فوات الأوان). " أرجوكم يا أصدقائي ألا تموتوا لأن موتانا كثيرون".كتبت له مرة هذه العبارة المأخوذة من سولجنستين، فوعدني في رسائل كثيرة بأن يؤجل موته. لا أحد منا يستطيع تأجيل موته، لكن راوغه يا عبد اللطيف. على الأقل نموت بكرامة:( إن احلامي ايها الأخ صغيرة، لا تتجاوز شبع جوع البطن وعلبة سكائر سومر وثمن قنينة عرق بعشيقة وهي ارخص ما عندنا لكن المدمنين عليها تحولوا الى شحاذين في الشوارع واصدقاء حميمين للمسطبات العتيقة في حديقة الأمة. لا يمكن أن أتحول الى متشرد في الشوارع رغم ان دور العجزة قد اغلقت كما اغلقت البارات ولم يبق سوى الجلوس في المقهى. اكتب لي حالا..). حالاً؟ كما لو كان يهتف عبر واجهة المقهى. كان يخاف من الوحدة والهجر كطفل في محطة سفر. كانت رسائلي له كما لغيره في تلك المرحلة تحمل اسماءً عدة ومنها:حازم وزهران وسعيد مهران وعبد الرحمن وثجيل ويوسف الخ الخ، وكان يصاب بلوثة عقلية مضاعفة لو لم تصله يوما رسالة مهما كانت الاسباب حتى لو كنت مسافرا كما حصل مرة حين كنت في المغرب فكتبت له من هناك، أو لكونه هو بلا عنوان وكنت انا من نهاية العالم ابحث له عن عناوين في بغداد، لكن أكبر الصعوبات هي الخشية من الرقابة حيث رسالة واحدة قد تكلف حياة :(عزيزي ثجيل.. منذ ان وصلت " المساعدة" ومنذ أن اتصلت بك هاتفيا وانا انتظر منك رسالة. تطالبني برسالة عقلانية. كيف تريدني أن اكون عاقلا ازاء عالم مجنون؟ أنا واقعي ولكن الحياة ترفض تعاملها معي من خلال سفاسفها. تلك " السفاسف" تمتلك من الانانية أكثر مما تمتلك من أية نزعة اخرى. لذلك تراهم ينافقون، يشهرون، ويتعاملون مع اقرانهم بخبث ولكن مجرد التفكير بالمغامرة ـ طلبت منه الهروب للمرة الثانية ـ سيجعلني اتخلص منهم واعيش بقية عمري معك). أكثر ما كان يثير الحيرة والاشمئزاز هو احتجاج البعض العلني وبحضور عبد اللطيف نفسه حين يراني بعض الاصدقاء جالسا معه ومنغمرا في صداقة حية وطفولية( ألم تجد غير هذا المعتوه...؟ غير هذا المشرد...؟ غير هذا العدمي...؟). لم اسمع منه مرة واحدة يخوض في حياة الاخرين الخاصة الا مواربة وبلغة رمزية متعالية رغم انه يعرف الكثير عن قاع المدينة وخرائطها العميقة واوكارها واسرارها وعماراتها ومكاتبها ومحالها التي تبيع شيئاً في العلن وتبيع شيئاً مختلفاً في السر، وقد يعود الامر الى انه هو نفسه ضحية مستمرة ترفض ان تلعب أدوار الاخرين وصورته الذاتية عن نفسه لم تتأثر بآراء وانطباعات خارجية لان النواة الاصلية نقية ونائية ولم يكن ذلك بلا ثمن نفسي بطبيعة الحال لكنه ثمن مدفوع من حياته هو وليس على حساب الاخرين. لم يكن هذا الترفع عن ارادة ومشقة بل عن صفاء داخلي تلقائي مشع من جسد محطم كنور بهي ينبثق من مصباح تحت الرماد: كانت مبادئ عبد اللطيف الاخلاقية في مكان بعيد لم يلوث بتقاليد الشوارع الخلفية والحانات الرخيصة وحمّامات الثرثرة الفارغة ووشايات المقاهي وكانت الوقاحة الخارجية في بعض الاحيان كأشواك الزهور تبرق تحت الندى الفجري. كان مقيما في طفولة عصية ومنيعة ونائية لا يمكن ان تراها عيون عابرة . كان يخاف حد الرهاب من" المثقفين" . كان يصرخ، فجأة، كملدوغ، حين يرى أحدهم مقبلاً:( مثقف! مثقف!). ـ ( لكنك حاضر بينهم دائما؟) فيرد، ساخرا:"حاضر كقشرة بلا بصل. ثم انهم ليسوا على صورة واحدة. ماذا لو سقط علينا صاروخ الآن؟". كانت سنة حرب صواريخ المدن. أقول" لن يتزحزح عود ثقاب واحد من مكانه. دعنا نذهب". يقول منذهلا" الى أين؟". كل الرعب في هذا السؤال.
(انتظرني ساعة يبلغ الحب ذروته فألوذ بك: هذه الكلمات كتبتها عنك سأرفقها مع هذه الرسالة. يجب ان تصلني أكثر من رسالة في الاسبوع. احتاج الى ملابس وقندرة جديدة...13/1/1999). كتبت، في غمرة أعياد الميلاد، والثلج يهطل هنا، وعلى أصوات انفجارات احتفالية، اعادتني الى انفجارات اخرى مختلفة ووحشية، رسالة الى الصديق فلاح المشعل طلبت فيها الاهتمام بعبد اللطيف الراشد ولم يكن قد عرفه بعد. بتاريخ 31/12/ 99 جاءني الرد:(... اما فيما يخص" الصعلوك" لطيف فهو مسكين وطيب. تخيل انه عندما رآني أول مرة في المجلة جلس وراء مكتب وتلفون، وسلم علي وبدأ يحدثني بالعربية الفصحى. قلت له" هاي شبيك؟ شارب نفط من الصبح؟" فضحك. وبعد نصف ساعة توارى خجله. انه وديع ومحبوب. لقد قرأته منذ الدقائق الأولى واعتمادا على تعريفك له. وقبل ان تصل فلوسك أعطيته الرسالة مع مساعدة مالية بسيطة وظل يزورني على نحو يومي حتى وصلت مساعدتك ففرح بها كثيرا. قلت له: أوصاني بك حمزة. انا مستعد أن اقدم لك ما اقدر عليه من مساعدة. سأجد لك عملا. قال: انك تذكرني بحمزة. كان لهذه الكلمات شديد الوقع علي. لقد شكا لي كره واهمال الاخرين له كما لمست هذا من الذين يعرفونه...). الذين يعرفونه؟ في 25 ايلول 2001، كتب لي فلاح المشعل:( عبد اللطيف الراشد يأتيني الى المجلة ثملاً. اشتغل في جريدة الجمهورية ومازال مصرا على معاقبة نفسه بالخمرة والتشرد. طيّب هذا الراشد واحيانا يكتب قصائد رائعة وفي اعماقه يقيم شاعر مرهف لكنه يعاني لأنه صادق وشريف. مرات اقول له: ـ" اذا أكو شغلة جايفه ورطني فيها حمزة هي معرفتي بك". فرد قائلا:" أحسن شيء سواه هذا ابن الكلب هو عرفني بك!"). " في رامبو أرى نفسي، كما لو كنت انظر في مرآة" مقطع من هنري ميلر وضعه عبد اللطيف عنوان رسالة:( كنت في كل رسائلي غير مهذب معك. لكن العجيب كيف تعيش في اوروبا ومازلت تعتبر المزاح في الجنس مسألة مبتذلة؟ انني عرفت ان اعضاء صناعية للجهاز التناسلي تباع في الدكاكين عندكم. ماذا لو بعثت لي بواحد يناسب هذا الذي عجز الطب عن علاجه؟. أشعر بفراغ رهيب يا ماليطا الجميل كأني منذور لك. كأني لا أعيش بعدك. انت تسمع صوت صراخي. يقول بسيسو: القول ليس ما يقوله السلطان والأمير وليس ما يقوله المهرج الصغير للمهرج الكبير... فأنت ان نطقت مت.. وان سكت مت.. فقلها ومت". اسمع هذه النكتة . فتاة قالت لزميلتها: كم يعجبني اجلس على الدولار الآن. فقالت لها زميلتها: وما هو السبب ؟ فقالت الفتاة: لأن الدولار هذه الأيام يصعد وينزل... يقول ناظم حكمت: وضعوا الشاعر في الجنة فصاح آه يا وطني. بينما يصرخ برانس في الجمر والرماد" لقد نبذتني يا وطني. لن أرجع اليك. لن ارجع ابدا" انت وطني يا زهران. أنا رامبوك المتشرد. كلما ذهبت الى شارع المتنبي بحثت عن" رامبو وزمن القتلة" ـ هنري ميلر ـ وحين اجده لا اشتريه. اتذكر ذلك اليوم الذي مررنا به في سوق السراي وكان الكتاب على واجهة مكتبة حسين الفلفلي، فالتفت انت وقلت لي: من هذا الكتاب تعلمت. لكني انا لم اتعلم من شيء ومازلت ضائعا. هل ستبكي علي مثل بكاء ماركيز على الكولونيل الذي انهى حياته لأني سأترك فراغا مثل كلب كامو؟( ربما يشير الى هروب كلب كامو من السيارة في حادث الموت المشؤوم) أخاف الموت ووعدتك ألا أموت. يقول خيري منصور:"كان والدي في أيامه الأخيرة يصهل كجواد حين يغلق احدنا باباً أو نافذة عليه. كان يقول لنا لا تتعجلوا فغدا سأجد منه الكثير". تذكرت كلماتك" لا تمت يا لطيف. لا تموتوا أيها الأصدقاء، لأن موتانا كثيرون". انا لا أريد أن ارى الظلام. أريد أن اراك. لا اعرف أن أسبح في الحبر. يقول معين بسيسو" ان السباحة في نقطة حبر أكثر خطورة من السباحة في البحر". قد لا تكون رسائلي مسلية بسبب الجوع. ليس جوع البطن فقط، بل جوع الذهن." كان الجوع تأديبا" كما يقول همنغواي. "يا جبريل، يا جبريل ياجبريل لا وطن ولا .... شجرة على الأمواج، اشرعة الرحيل كلاب البحر اشرعة السفن وطن يفتش عن وطن" بسيسو". أتذكر كل شيء حين تشتد المطاردة ويشتد الجوع ويشتد السكر وهذه هي أحلى اللحظات. اعاني الان من شحة السكائر لأني مفلس ورأسي مثل طبلة الوشاش. تربد وتعربد وتعزف لكن لا أحد يفهم المارشات في أيام المحن الا نحن الذين نتمدد فوق سرير القتلة. اذا مت أكتب عني : عبد اللطيف وزمن القتلة. " النحلة لا تمتص رحيق جراحك" كما يقول بسيسو في كتابه" بين السنبلة والقنبلة". كم كانت كاترين تكره المطر، كاترينك الزانية( بطلة روايتي: سنوات الحريق) لماذا تتركني ضائعا في زمن الحصار؟. كنت معي نصبّح ونمسي ونجوع ونعطش. الآن وحدي). وحدك وكل هذه الضجة حولك؟ (كلماتك التي تقول فيها: "سأتكفل بموتك وساحفر لك قبرا في قلبي" راسخة. كلمات كثيرة وضعتها على جدار غرفتي. اشتهى المهلبي وكان فقيرا قبل ان يتولى الوزارة لحما فقال: الا موت يباع فاشتريه / فهذا العيش ما لا خير فيه/ الا موت لذيذ الطعم يأتي / يخلصني من العيش الكريه. ليس ما يضايق المرء سوى الفقر كما يقول همنغواي في" عيد متنقل". هل سنلتقي كما لا تلتقي الجبال؟... "اني اعرف سأموت لكني سابارز وأقاتل/ وأنا أعرف اني سأموت ـ بسيسو". بسيسو استحوذت اشعاره علي. يجب أن اموت في القبر الذي اعددته أنت في رسالتك وتكفلت بدفني. لا ناقة ولا جمل، لا قطرة ولا نخلة....). ها هي أعياد الميلاد تأتي كما ستظل تأتي لكن أجراسك وحدك خامدة، يا عبد اللطيف، لأنك مت في شهر ولادة المسيح، لكن المسيح لم يصلب في يوم منع التجول كما كان القدر يتربص بك ومت في شوارع فارغة ومحتلة( مات في يوم منع التجول) وصارت وجوه الجميع تشبهك في الذل. هل هي المساواة التي جعلت جان جينيه يشمت باحتلال باريس التي احتقرته؟ لقد خنت عهدا قطعته بأنك ستؤجل موتك. هذا هو دخان المنازل ودخان الكنائس ودخان حرائقك يطلع من نهايات العالم. مت على اجراس أخرى تنذر بقيامة الوحش الرقيق الوديع الذي كان يظهر لنا في الشوارع متعاليا مترفعا مليئا بالعجرفة الداخلية، تلك الموسيقى العميقة البدائية التي كنا نسمعها في مهرجانات الألوان وصخب افراح الزور. تلك الغوريلا النائمة التي كانت تلحس دمنا بسرية قاتل محترف على قرع طبول الأفراح الملفقة، تنهض اليوم لتستحم في الشوارع. كنا نُسمّى يومها، ومازلنا، بالملعونين والمارقين والخونة والمتمردين وغير ذلك من الالقاب الكثيرة، وكنا نعرف ان الزمن سيأتي لنتبادل الأدوار. قلت لك أهرب. اهرب من هذا الجحيم الى جحيم أقل ألما. من جحيمك الى جحيمي. كنا نجلس في آذار سنة 1988 في بار بحمدون المطل على جسر الجمهورية والقصر الجمهوري أو عرين الوحش على مقربة من فرح النوارس ومن الصواريخ القادمة من الطرف الآخر في حرب الخليج الاولى حين قلت لك بتصميم شيطاني:سأهرب. قلت لي بلا دهشة وانت تشرب وتظن ان الهروب هو الى شارع آخر فحسب: الى اين؟ قلت لك: الى أي مكان، سأعبر حقول الألغام. عندها بزغ من عينيك ضوء حار مثل انعكاس ضوء فجري على الندى: قد تقتل. قلت:لم يعد يهمني القتل ولا الموت ولا العذاب. الحي هو الذي يٌقتل. نحن نموت ببطء يا عبد اللطيف. لماذا لا تهرب معي؟ قلت لي: اخشى ان نجرح ولا نموت في حقول الألغام ونسحب الى حفل تسلية حيث سيقتلوننا بوحشية وتلذذ كي نكون عبرة. قلت لك: لن يحصل هذا. سأحمل معي قنابل يدوية ننتحر بها عند الضرورة. انه امر غريب أن أحمل معي فعلا قنبلتين يدويتين عند الهروب، بعد اسبوع من هذا الحوار، رميتهما قبل الوصول الى الساتر الآخر. في رسائله يتحدث عن هذه العملية بمفردة" المغامرة" التي فضل عليها هذا الموت المتجول. كتب:(فكرة المغامرة يجب أن اعمل بها. لكني خائف. شكرا على هذا الاهتمام الكبير بي. لن أتصرف على طريقة... واتحول الى صعلوك نائم على الرصيف. سأنتحر اذا وصل بي الحال الى هذا الحد. كيف عرفت ان نظري ضعيف؟ احتاج الى نظارات وملابس وأدوية ولكن لا عندك ولا عندي الفانوس السحري او مصباح علاء الدين. انت شجاع واقتحمت الجدران اما انا فماذا ينفعني لو خرجت من مدفني وانا في أرذل العمر؟ كل شيء تداعى. لكن القلب يحب ويشتهي. 1999). نعم" القلب يحب ويشتهي " وتقول اغنية هندية سمعتها يوما في سينما في الشارع الوطني في البصرة " القلب كالزجاج سينكسر يوما". لكن ساحة الميدان هي ساحة الآلام المكبوتة، لأن النازحات من ريف الجنوب أو الجنون كما كنت تقول دائما في لوثة سخرية يختلط فيها كل شيء كما اختلط عليك الوجع ووجوه الناس والأزقة والأزمنة، يذبلن بسرية أزهار النوافذ على مقربة أمتار من وزارة الدفاع حيث العقداء الغجر يعدون بين سنة واخرى عبر كل تاريخ هذا الوطن/ المنفى/ حفلة انقلاب. كلهم، أقول كلهم، رحلوا الى دار الحق، مشنوقين، قتلى، مسمومين، مطاردين، ولم يبق غير وجه ربك، ووجوه تلك الأزهار التي تذبل بسرية عبر النوافذ، ولبن اربيل. في النهاية علت آلامه على آلام الحياة( التهاب غامض في القولون) هذا الألم الذي استعصى على الأطباء والسحرة والحكماء والنقاد. انه، كالسم، من النوع البطيء: ( الم تحذرني من الموت واستجبت لأوامرك؟ ان مرضي من النوع البطيء ويسبب لي الكثير من الآلام. انام واستيقظ من الألم. بعض الأطباء قالوا انه جرح في القولون النازل" المستقيم" بعضهم قال تقرح في البروستات ومنهم من زعم انه عصب العجان وهي المنطقة المحصورة بين المستقيم والبروستات وحتى هذه اللحظة لم احصل على تشخيص صحيح. الاطباء هنا"فتاحين فال" يضربون بالتخت رمل... إنني في الوقت الذي وعدتك أن اغلق نهائيا ملف الدبر، عادت ثانية آلامه. "يا أخي اشتريلي واحد صناعي!" ولا تكلف نفسك بالحجم لأن الأصابع والنواظير قد أولجت فيه كثيرا. كلما دخلت على طبيب انحنيت بأمره، وكلما أولج اصبعه وناظوره طلب الف دينار. الما عنده منين يجبيب ياخلك الله...). ارسل مجموعة تقاريره الطبية كما طلبت منه صادرة من عدة اطباء مع ادوية وملاحظات عن حالة المريض عبد اللطيف حسين الراشد: تقرير صادر من الدكتور حسين السكافي ـ جراح اختصاصي، السعدون، مقابل سينما السندباد، البكترويلوجي ثابت عباس حمد، ممارس في التحليلات المرضية والمايكروبايولوجية والسيرولوجية،، الصيدلانية ساجدة عيسى جعفر، شارع الرشيد، ساحة الرصافي، عمارة سامي سعد الدين، الصيدلي الاختصاصي ليث عبد الوهاب ايوب لتحاليل الهرمونات في جامعة كلاسكو، مختبر للتحليلات المرضية والهرمونات والفيروسات، الباب الشرقي، شارع المشجر، مستشفى بابل، التحليل:( كأنه ورم ملتصق بالجهة اليسرى من الشرج كأنه شبكة او شيء ما متحرك فيغير مكانه، يحقن العصب، ويفرز احيانا غازات). تعليق من عبد اللطيف على ظهر التقرير: ( يقول العقاد: المرض مذل ولا يحتمل ولكن الموت ينهي كل شيء، ولا أخاف الموت بقدر ما اخاف من المرض).مختبر أور، الصيدلانية ليلى محمد صالح ميكريولوجي، الصيدلانية نسرين محمد شابا، كيمياء سريرية( تعليق منه مع التقرير: اللوعة المستمرة حولتني الى قطعة زرقاء. لا اخشى الموت)، مختبر الرصافة، شارع الرشيد، ساحة الرصافي، الدكتور ضياء الكناني، شارع الرشيد، ساحة الرصافي، الدكتور عمر دزه، الدكتور نبيل ابراهيم، الدكتور ريكان ابراهيم، طبيب شعبي... الخ.. كل هؤلاء عجزوا عن وقف الألم. اذن لا مفر من الدعاء :( يا رجل الله... اقرأ تعاليم ابانا الذي في السماء فانه متساهل جدا معنا نحن الفقراء. ياتيطس ، كما يقول الانجيل" كانوا مثل غنم لا راع لها"هذا حال كلابك التي تبحث عن طعام. انا نعجتك الضعيفة. ان جسدي ياتيطس يحتاج الى قطع غيار روحية وبعدها قطع غيار لمؤخرة جديدة. نوع محسن تخم اسنان. جهاز تناسلي كامل ومعدة قوية. بعدئذ سأكون كما ولدتني امي عاقلا. هذا موسم الصيف وانا اخاف موسم الشتاء. موسم النكبة. انا المتعود على النكبات. انا المرعوب طوال النهار. دعني اصعد مع الكلاب والطليان والطيور والعذارى الى سفينتك واطمئن عليهن فان ضياءهن لم يعد يبهرني. نضب الزيت. يا مركب نوح.. لست مهرجا. اهذي من السخونة. فلا تدفني حيا، انت الذي قلت لي سأحفر لك قبرا في قلبي. كيف عرفت اني وفي؟. نعجة ضالة بلا راع. يا مروض الكلاب. كم كلبا قبلي اطعمته؟ سيمتليء قبرك بالعظام فما احسب ان عظمي سيضيع عليك يوم تقوم الساعة وينشق القمر. ستجدني هناك في بوابة الفردوس انتظرك. اسمع يا يوحنا: كان يسوع يصلي في أحد الاماكن فلما اتم الصلاة قال له واحد من تلاميذه: علمنا نصلي. فقال يسوع: متى صليتم قولوا: اعطنا خبزنا اليومي واغفر لنا خطايانا ولا تدخلنا التجربة. يقول ابوك المسيح يا زهران: دقوا الباب، يفتح لكم. يا كولونيلي المسالم ثجيل الاعزل: المسالك التي اقتحمتها" شرقا" وحدك، والحقول مفروشة بالقصب( يقصد حقول الالغام) وصرير الطرق الموحشة بالتوجس والصدى وهو ينادي خلفك، كنت انا ناطورك نائما. احلم انك تقول لي" الحفلة حفلتك". حسبتها مزحة او دعابة عابرة. يا زهران كنت اسمع يومذاك اخبار الحفلة ـ يقصد الهروب بلغة مرمزة من الرقابة ـ فقلت: ان العصفور الشرس طليق الآن. ربما تعبت انت من الكلاب الضالة والبارمانات القدامى الذين يشمون العظام على مسافة الاف الكيلومترات. قلت لهم: ربما عظامه لا تكفي لهذا القطيع من الكلاب فدعوه يطعم خرفانه أولا. في زمن الوالد والوالدة لم نكن نعرف سوى العانة والقران ( عملة عراقية في ذاك الزمان) أو الليرة التي لم ارها. اليوم صرنا نعرف الدولار في صعوده ونزوله. مرة صعد فنزلت واحدة مرعوبة من باص المصلحة، ومرة نزل فصعدت عاهرة تبحث عنه. في اليوم التالي بعد المكالمة ـ حدثت المكالمة في ليلة عملية ثعلب الصحراء 1998 ـ ذهبت الى شارع الرشيد وانعطفت الى اليمين بمحاذاة خان مرجان والذي كانت لي ذكريات فيه مع لميعة توفيق وشعوبي وعلي حيدر الذي كان يرقص على انغام "الهجع" فسألت صاحب محل: كيف اضمن وصول مساعدة من النرويج؟ اعطاني الكارت الذي آمل ان يكون قد وصلك. قال: ارسله وعندما تصل النقود عليك ان تبرز هويتك فقط. فقلت له: بيناتنه العباس ابو فاضل. هز رأسه استياءً. صباح الخير ايها الاسكندنافي الطليق. ما اثار دهشتي هو كيف عرفتني( في الهاتف) وصرخت" لطيف " وقبل ان أتكلم وكأني على موعد معك؟ غيرك لم يعرف الصوت على مسافة مترين. امس قرأت " جغرافية التخلف" لاكوست. يقول: ما دامت الهوة بين الفقراء والأغنياء تتسع باستمرار فاننا بحاجة الى المساعدة والفاعلية). ( انا الحمار المذكور في الكتاب المقدس، الجحش المربوط، قبل ايام قرأت الكتاب المقدس من اول سطر الى اخره" لا تجعل اخاك يسقط".... ما زلت اتذكر كل شيء أنا المقيم داخل طفولتي... بما أنك حدثتني عن بارمانات بغداد القدامى وكيف كانوا يتفقون علينا مع لصوص البارات الظرفاء، سأحدثك يا كولونيلي عن اللصوص الذين اسميتهم اصحاب المايوهات الممزقة من الخلف في رسالتك. يا أخي هؤلاء لصوص بالفطرة، انهم عيارون، يتنكرون بأزياء مختلفة، لا عقيدة لهم ولا دين، ولا مذهب ولا لغة. اصحاب المايوهات كفاك الله شرهم...). كنت مسمرا على شاشة التلفاز متكورا مثل جدول ماء ناضب اشاهد نقلا مباشرا من بغداد على إحدى القنوات، وكانت شوارع بغداد تبدو حذرة وساكنة الا من مرور سيارة مسرعة، لكن الظلال التي يخلقها الظل والضوء والترقب والموت تمنح الشوارع والزوايا والمناطق المعتمة بتلك العتمة الدافئة جمالا يشبه جمال موت طقسي منتظر أو كمطر مقدس في احتفال. كان الرئيس كلينتون قد قرر الهرب من فضيحته الجنسية باطلاق حفنة صواريخ عابرة للقارات على بغداد، ولم تكن لحظتها الفنانة ليلى العطار قد انتهت توا من تمشيط شعرها الآسيوي الاسود الطويل أمام مرآتها السحرية التي لا قاع لها ومنها يخرج عالم سحري فاتن مليء بالانوثة حتى في مشهد موت، وحين استعدت العطار لتأمل النجوم، كانت ذخيرة الموت قد انهمرت وغطت الشاشة، فأشحت بوجهي نحو الشارع عبر النافذة ـ خلال المكالمة الهاتفية مع عبد اللطيف بدا لي بصورة غريبة منفصلاً عن واقع مدينة تحت القصف وظلالها المعتمة وشوارعها الخاوية الشبحية. لم يكن يتحدث عن الأمر بل لا وجود له في مشاعره. ماذا يعني لشريد قصف مدينة تحتقره؟ كنا نحصل، قبل أن أهرب من الحرب والعودة ثانية بعد حفلات الاعدام المرتجلة في الشوارع للفارين من الحرب، على راتب شهري ـ أقل من عام في العمل الصحفي بين حرب وسجن وحرب وتشرد ـ مثل كل جنود الاحتياط الذين رحِّلت رواتبهم في المؤسسات المدنية الى الجيش لكنه لا يكفي نفقات كثيرة بلا حكمة كما لو ان هذه هي الساعات الاخيرة في نوع من الشره المحموم للحياة. حتى حين يكون وضعنا "القانوني" عاديا، نتعامل بذهنية مطاردين حتى في المشي والاكل والشرب والكلام. من أي شيء؟ قلت له مرة ونحن نستلقي على مصطبة في شارع ابي نؤاس مقابل وكالة الانباء العراقية يومذاك وهي المصطبة التي تعود الشاعر الحصيري على النوم فيها ورصد الداخل والخارج للوكالة للحصول على ثمن الشراب، وكان قد اقترح علي الذهاب الى فندق هربا من هجير الظهيرة: " اسمع لطيف، لا يفرق عندي الفندق والخندق والمصطبة والصحراء والساتر والحديقة والسجن والشاطئ. تساوت الامكنة". " الا البار؟" قالها ضاحكا. " ربما بعض الوقت. عدت من حرب سنوات في الجبل لأدخل السجن، وبعد بضعة شهور في الصحافة جاءت هذه الحرب. كيف يمكن بناء علاقات طبيعية وذاكرة مستقرة مع امكنة العزل هذه؟". كتب مرة رسالة غريبة وبلا مناسبة كما لو اننا لم نفترق سوى بضع دقائق أو عدة ايام او يتذكر ويكتب فورا:(ثجيل، لا أدري كيف عشت في هذا الوسط من دون أن تمد يدك في أحلك الظروف مما جعلك في نظر هؤلاء كائنا متعالياً كما لو ان على الكاتب أن يكون متسولا لكي يكون متواضعاً؟ ربما لأنك قادم من المراعي الى عاصمة غريبة. حصلت على نسخة من سيرتك الذاتية الروائية "الأعزل" من فلاح المشعل واريد نسخة خاصة وفهمت كثيرا لماذا تحب شخصية ثجيل: الراعي الذي حين اقتربت منيته طلب من زوجته في البرية ألا تخبرا أحداً ومات في صمت العاقول. هل تظن انني قادر على الموت في صمت العوسج؟". لكنه مات على دوي الهامفي بلا كفن نظيف ولا صراخ امرأة مبهورة الانفاس ولا وريث يحمل اطراف الجنازة ولا اصابع محناة تغلق الجفنين، باكية، على هذي الحكاية، بلا وصية، ولا نحيب، ولا مناديل ونوافذ ولا زهور. عبد اللطيف، يا عبد اللطيف، لماذا هربت بالتابوت وحدك "وتركت صاحبك القتيل؟". كان الشارع مقفرا الا من ثلج لا يتوقف عن الانهمار مثل شعر ابيض يتطاير الليلة قرب مرآة مهشمة ولوحات خيول راعشة مجفلة. خيول تصهل عبر الحائط، في أعماق اللوحات، خيول تصهل مع نثار الثلج الهابط كأننا في أول يوم للخليقة. تلك اللحظة رن الهاتف كما لم يرن في أي يوم على هذا النحو من القوة والقسوة والضجيج. كان عبد اللطيف الراشد، في تلك اللحظة الحرجة، يحدثني على الهاتف عن أوجاعه المريرة، في حين كنت ارى عبر الشاشة الغوريلا، الغوريلا الوحشية، وهي تستحم بالدم في شوارع فارغة تماما الا من الضوء والظل والدخان ورائحة الموت الذي صار عطرنا الوحيد في كل القرون.كان عبد اللطيف خارج الزمان والمكان.كنت احبس انفاسي أمام الشاشة وكان يبدو أبعد ما يكون عن الحدث. تلك اللامبالاة التي تسكن روح المتشرد مع بلادة خاصة يعرفها جيدا جان جينيه الزنجي الابيض والمنبوذ حين شمت فرحا بسقوط باريس. تلك البلادة الواعية التي لا تهتز أمام أشد الحوادث هولا ورعبا لان الحرب والاحتلال والموت والذل والقصف يخلق مساواة كريهة مفقودة. ماذا عند عبد اللطيف ليخسره في هذا الحريق وفي أي حريق؟ ربما شعر تلك اللحظة انه يتقاسم مع الجميع ذاك الالم المنسي الذي عاناه طويلا، ربما شعر لاول مرة بمساواة حقيقية أمام موت مرتجل، ربما شعر انه الان أكثر حرية من الجميع لأنه لا يملك شيئا يخاف منه او عليه. حدثني عن أوجاعه. قلت له ذاهلا: ما هذا الذي يجري عندكم؟ أجاب بلا مبالاة عجيبة وساخرة: لا شيء. قلت: كيف لا شيء وانا ارى الصواريخ تنهمر على بغداد؟ رد ببرودة: هذه تسقط في مكان آخر انت تعرفه.كان عبد اللطيف، كغيره، من شدة الضيم والقمع والأرق التاريخي قد شعر ان هذه المعركة تحدث" في مكان آخر" وان هذه الأرض مملوكة لغيره وهو مار عابر. غضبت كثيرا تلك الليلة. كتبت له بانزعاج فرد علي برسالة يقول فيها انه لا يعرف عن اي شيء اتحدث وانه لا يتذكر أي شيء عدا صوتي. (بعد ان اتصلت بك، غادرت منزل خالي رغم وحشة القصف الى منزلنا في اليوسفية... اشتريت قاطا وحذاء وقميصا واعطيت شقيقي 25 الف دينار وامتلأت الثلاجة باللحم). كتب في رسالة ملحقة: ( كيف تتحملني يا " مسودن" وتتحمل طلباتي واصراري وعنادي ولم امتثل لأوامرك بترك الخمر؟.دعني اسرح وأمرح ولا أحد يعرف ذلك. أجوع وأمرض. انا جالس مع أخي وهو متصوف وأخشى اقناعه ان علاجي الوحيد هو ربع عرق على الأقل يوميا لذلك أخبيء أصغر قنينة في جيبي ولا اشربها الا بعد ان ينام هو وزوجته . نعم انا مضطرب. هذا صحيح. ان الرعاع لم يدعونا نفكر بشيء سوى البطن و... ان مجرد الكتابة اليك تشعرني بالراحة. لا تغضب من مزاحي لأني احب المزاح معك. حمزة: هل استهلكت القمصلة الملونة ـ ارسلت له صورة شخصية ـ انت تعرف اني من مواليد 49 وبشع وأزرق. هل يمكن لواحد مثلي ان يلبس تلك القمصلة المزركشة وفي مثل مجتمعي( نوع المعاطف النصفية المطرية المنتشرة في اسكندنافيا الواقية من الثلج وقد بدت له غريبة) ولكني اريدها عندما تكون قد استهلكت تماما. ارسل لي الآتي:نظارات ولا حاجة للوصفة، بنطال كابوي، قمصلة معتدلة، حذاء ايطالي، ومنشط جنسي لأن" مال أخوك!" ميت. عنواني الجديد: بغداد، باب المعظم، صندوق بريد:53731، عبد الزهرة زكي، ثم عبد اللطيف الراشد). " ثم" عبد اللطيف الراشد؟ كل عناوينه تنتهي بثم. كيف؟ " أنا الذي وطني ملء ارتحال الشمس لكني بلا وطن ـ معين بسيسو" . اللعنة على" ثم" يا عبد اللطيف فهي المسؤولة عن كل هذا الخراب. أم هي ضحية؟ "ثم" مات في يوم منع التجول تحت المطر والغزو ... مات مؤرخ بغداد الاخير الذي كتب تاريخ الشوارع والحدائق باقدامه. مات آخر ملوك الليل، وحيداً، كصقر أعزل وجريح على قمة جبل ينزف وصدره مفتوح للريح والابدية. 2
كنت اذهب كل صباح الى دائرة البريد تحت أشد العواصف الثلجية بالمعطف الأزرق كما لو كنت ذاهبا الى موعد. دائما تسقط رسائله من صندوق البريد، من الارتباك والخوف من المفاجات وهي كثيرة، ومن الفرح، لأني مازلت حتى هذه اللحظة أعيش ذهنية المتشرد في كل شيء حتى ان غرفتي خالية من اللوحات وان وجدت فهي ملصوقة على عجل كأني اعيش على نداء رحيل دائم، اضافة الى حالة من الترقب يولدها المنفى المتواصل، لأننا منذ حمل القلم ندخل في متاهة المنفى. المنفى ليس جغرافية. انه ذهنية. في كل مرة تواجهني مشكلة كيف اقرأ رسائل عبد اللطيف؟ من اين أبدا؟ هو يتعامل مع الورقة كغنيمة قد لا تتكرر. يكتب من كل الجهات ومن الاعلى الى الاسفل وبالعكس، وعلى الجوانب وحتى على المساحات الضئيلة الباقية، وفي فوضى وتنقل مفاجيء من موضوع الى آخر ولا يذكر تواريخ الرسائل، لكنه لا ينسى ابدا ان يشكر موزع البريد على الغلاف. (عزيزي زهران...يقول حنا مينة في مستهل روايته "الشراع والعاصفة:" المسافة بين العين ومرمى البصر ليست هي المسافة الوحيدة للرؤية.العاشقون مثلا والمغتربون والمحزونون وكل الذين نأت بهم الدار، هؤلاء جميعا لا يرون بعيونهم فحسب، بل بقلوبهم..." اذن انا اراك وانت ايضا تراني. يقول بابلو نيرودا على هامش قصيدة" غذاء في هنغاريا": "قادتني المصادفة في شبابي الى زيارة المدن الهندية عام 1927، فعرفت هناك الاسواق والأزمة والفن ومذاق الكباب الذائع الصيت المنتشر الرائحة".قبل أن أكتب هذه الرسالة شممت رائحة الكباب خصوصا وان اليوم هو الخميس وقد غادرنا العيد مصابا بالف خيبة ورجله الخلفية مكسورة(تلميح خفي عن المذلة) مجرد ازمة وتنتهي. قلت لصديق هذا اليوم" كل آذار وانت بخير". هل صحيح ان القوانين المكتوبة عندكم لا تسمح للانسان ان ينام جائعا وبلا سقف؟. في حياتي ومنذ خمسين عاما لم أشعر بحنان من احد ولم يتحملني احد باستثناء امي وانت. هذه حقيقة يجب ان تعرفها. مرة زعلت علي في بغداد( احتدمت سوادينك) وحين كنت تتوارى تحولت انا الى كلب بوليسي اشم رائحتك في درابين البتاوين. كان قلبي البوصلة التي استطاعت الاهتداء اليك فدخلت احدى الحانات فوجدتك جالسا فجلست معك. قلت لفلاح المشعل امازحه ان حمزة زعلان من التخطيطات والكلمات البذيئة واطلق عليها" بذاءة". هل صحيح انك اقلعت عن المشروبات؟ يقول أراغون في عيون الزا: الزمان امراة بحاجة الى مغازلة/ جئت اليك كما يجيء النهر الى جدول/ ضحيت كل شيء من أجلك/ ملكت دمي/ ووهبتك ذاكرتي/ لم اعد انام الا في ثلوجك...). هامش: ( ارسلت لك كارتات عن بغداد). بطاقة بريدية عن شارع السعدون كتب عليها:( من هنا بدأت علاقتنا وذكرياتنا وفراقنا وآمالنا الضائعة. ويل لك ايها الموله بالشوارع والمقاهي والنوادي التي اغلقت. هل مازلت تحلم بها؟). حشود من المارة على رصيف شارع السعدون تظهرها البطاقة من جهة سينما سميراميس ويبدو جو الصورة خريفيا، فرغم الصحو المشرق والسماء الزرقاء، الا ان الغيوم البيض القطنية المحملة برائحة خريف عراقي قديم واضحة في سماء بغداد. يظهر في البطاقة الفرع الجانبي المؤدي الى مقهى مجاور للسينما وكنا نجلس فيها بعض الأوقات خاصة فترة هروبي من الحرب وقبل الحرب من الاعتقال السياسي أواخر السبعينات ولأنها تعج برجال الأمن الذين لا يخطر ببالهم ان هذا الجالس يحتسي الشاي ويقرأ برصانة حجرية هو هارب ومطارد من العالم. كنت احمل معي هوية صحفية من نقابة الصحفيين كانت عونا في مواقف كثيرة حرجة. بطاقة اخرى عن كهرمانة وهي تسكب الماء في الليل. كتب على ظهرها: (المرايا، كهرمانة، ذكرياتنا، الشوارع، الفنادق، النوادي). بطاقة ثالثة عن القيثارة الذهبية وبطاقة بريدية اجنبية لا اعرف ولا هو يعرف مناسبتها:( ذهبت اليوم الى فلاح وعندما اخبروني انه سافر تجمدت الدماء في عروقي. تصلبت كما لو ان صاعقة قصفت بي الأرض. هل ستراسلني؟ 8/5/99). كتبت له حالا: ( اذهب الى محل خياطة حيفا في شارع الرشيد قرب ساحة الغريري، وهناك تجد من يعرفك). ذهب الى هناك ولم يعرفه أحد. قلت لهم عبر الهاتف سيصلكم كاتب وشاعر ارجو الاهتمام به. لم اقل أكثر لأن هذه الوصية، بالنسبة لعمال خياطة بسطاء تبدو غير مفهومة. دخل عليهم وكانوا قبل ذلك قد غسلوا وعطروا ونظفوا المحل واستعدوا لهذه اللحظة لكنه دخل عليهم كما يدخل شبح يتعكز على سترته كي لا يتداعى. كان تلك اللحظة بحاجة الى النوم. النوم العميق ولا شيء آخر حتى انه نسي كل ما كان يريد قوله. هل يجب ان أبحث لك عن عناوين من هنا، من حافة العالم؟ كان كبرياء عبد اللطيف أكثر رسوخا من مرضه ، وحتى في اللحظات التي كان يتساهل مع نفسه بدافع الضيق والألم، كان يتوجع أكثر. كان المأوى في زمن الأفراح المشوهة، حلما يتراجع مع الوقت: ( اسمع يا زهران.. في عام 1949 ولدت كما هو مدون في بطاقة الاحوال المدنية. ولدت في بغداد كما تقول امي التي عقد عليها القران في السنة نفسها واحتفلا بليلة عرس هنيئة في احدى عربات القطار القادم من ذي قار الى بغداد. استبعد ان تكون امي قد حبلت بي تلك الليلة. القطار في ذلك الوقت لا توجد فيه عربات خاصة بالعرسان. استقرا في بغداد. شيدوا صريفة في قرية قرب الشاكرية القريبة في معسكر الوشاش الذي كان والدي يخدم فيه كنائب عريف متطوع. وفي عام 55 أرادت امي دخولي المدرسة اسوة بالأطفال. رفض والدي الذي يعتبر مدارس الحكومة منافية للشرع وعلمني بطريقة قاسية الحروف الأبجدية. كانت الفلقة المكافاة الوحيدة التي حصلت عليها أول مرة في حياتي. كان تعلقي بامي اكثر من تعلقي بوالدي. نشأت بين وبينه كراهية حتى آخر أيام حياته. كان متطرفا في كل معتقداته الخرافية. اما والدتي رغم أميتها لكنها أكثر تحررا من الكثير من العقد. تمردت على تعاليم والدي ودخلت سوق السراي وعمري تسع سنوات عام58، فكنت احمل مجموعة من القصص التي اشتريها من مكتبة البيان ـ الخاقاني، في شارع المتنبي وأطوف بها مقاهي علاوي الحلة. كانت القصص هي الزير سالم، وسيف بن ذي يزن، عنترة، مياسة والمقداد، ابو زيد الهلالي، المختار..الخ... وكان قراء هذه الكتب من العسكريين القادمين من الجنوب. كنت امقت تلك القصص بل لم اتصفحها. اثرت الجلوس الى جوار ابو عوف وهو رجل بدين جدا ويملك عربة من الكتب. كنت ابيع ـ على التصريف ـ الكتب الجيدة والغالية الثمن . كان سعر الكتاب انذاك 150 فلسا. دواوين ومعلقات وكتب تراث. بدأت أقرأ روايات فيكتور هيغو ثم مرتفعات وذرنج، الشيخ والبحر لهمنغواي. كان سلوكي يفتقد لسلوك الاحتياط. لم أكن اضع في حسابي التدبير ليوم قادم. لهذا خسرت الكثير. اذا لم تزعجك هذه التفاهات سأكتب لك المزيد عن حياتي...5/5/1999). قلت له في رسالة: (اكتب لي كل ما يخطر ببالك). من الظلم ان يحرم عبد اللطيف من حق الحياة ومن حق روايتها كما حصل معنا. لماذا لا نحكي نحن بعد ان حكى الجميع حكايتهم من الجنرال الى المقاول ومن السياسي الى الحرامي، بل بعضهم روى وكالة عنا تلك الحكاية المبتورة المشوهة التي تليق به وعلى صورته؟:( اخي العزيز...انني اقيم مع شقيقي خليل في مجمع سكني في اليوسفية وهي قرية تابعة للمحمودية. اما تلك الصرائف( دخلنا مرة في كوخ لأمه في ضاحية قرب بغداد الجديدة في حي معامل الطابوق) فقد تهدمت ولا ادري ماذا حل بها. الفرق بيني وبين شقيقي كبير فهو عابد زاهد حد التصوف. احدى غرف المنزل كتب عليها" المصلى" وهي خاصة بطقوسه الدينية، وبسبب عدم توافق الميول وافراطي في الشرب، فهو لا يأكل معي في ماعون واحد. المبرر عنده ان طبيعته الدينية تحرم عليه ذلك. هو يحبني لكنه نادرا ما يتحدث معي أو نجلس مع بعض الا من خلال الرسائل وكأنه في عالم وأنا في عالم آخر. اليوم كتب لي رسالة" رغم انني اقيم معه في منزل واحد" يعبر بها عن مشاعره ازاء اخلاصك لي ونصائحك التي تبدو انها اعجبته كثيرا. اعلن عن رغبته في مكاتبتك لا لشيء الا لأنه يريد أن يشكرك. لا أدري اذا كان قد كتب لك رسالة أم لا...). في أواخر شتاء 1987 قادني عبد اللطيف الى ضاحية في بغداد الشرقية متاخمة للمشتل، وفي حي عمالي كئيب منازله يبدو عليها الفقر المدقع، تتكوم الازبال والقاذورات في كل مكان، والمستنقعات الوسخة اشار من بعيد الى فتحة في جدار متهالك وقال: ذاك هو البيت. حين دخلنا ولجت غرفة تنعدم فيها الرؤية من الدخان المتصاعد من موقد يبدو ان مخلوقا ما او حيوانا مجفلا قد تركه توا وبعد لحظات قادني بالطريقة الصامتة نفسها التي جاءني بها الى جحر آخر وقال لي : هذه أمي. لم أكن قد رأيت أما ولا أي شيء آخر حتى هذه اللحظة. رأيت شكلا هلاميا يتشكل من دخان آخر لكنه لا ينبثق. سمعت حشرجة مبحوحة. قال لي كما لو يترجم لي عن مخلوقات غريبة انها تسلم عليك. انحنيت كي اقبلها فلم اعثر الا على بقايا لشكل بشري لا يريد ان يخرج من هذه العتمة الرائبة. انتظرت أطول مما ينبغي كي تتحدد ملامح ذلك الشيء الذي يتطور شكله دون ان تخرج صورة بشرية محددة الملامح وبلا جدوى. الشيء الوحيد الذي خرجت به من تلك القبلة الامومية الضائعة هو طعم الدخان. كان المطر يهطل منحرفا وحشيا فوق الكوخ أو شبح المنزل. قال لي بما يشبه الاعتذار : انها عمياء. قلت ساهما: تساويت معها فلا هي رأتني ولا أنا. لكن من يعتني بها غيرك؟ أجاب: أختي وقد خرجت من الغرفة الاولى حين رأتنا :( وضعت صورتك في اطار زجاجي وكتبت عليها من الخلف: ستكون هذه الصورة هي الشاهد الوحيد على اننا مررنا بهذه الأرض ـ 1999). وفي سنة 2001 كتب لي فرحا على غير عادته:( أكتب اليك من الجريدة التي اعمل فيها وأمامي على الطاولة اخر رسالة منك وصورة شذى( طفلتي) التي سانشرها عاجلا في جريدة تموز ملحق بالأطفال في جريدة الجمهورية. زهور عراقية نبتت في القطب. فرحت لصورتها. كما أرجو ان تبعث نسخة خاصة لي على طريقتك من روايتك" الأعزل" مهما كلف الأمر( ذكرته في الأعزل بالاسم) كل شيء في منزلك يشير الى تصميم عراقي: المزهرية، الورود، ساعة الجدار. أنتظر منك رسائل كثيرة... سلام لك من رعد عبد القادر.../ هامش: كيف تذكرت كل تلك الاشياء التي نسيتها انا رغم اني عشت فيها: المدن، الصفيح، بيوت الطين، موقد النار والدخان في الكوخ؟). كانت طائرة الهيلوكوبتر أو الاسعاف الجوي قد هطبت للتو فوق مستشفى فولدا النرويجي بعد اقل من ساعتين على ولادة طفلتي. بعد ثلاثة ايام مع الموت خرج مخلوق شاحب وأزرق يتنفس بصعوبة ناقعا بالدم والماء .قالت لي الطبيبة الهندية: الطفلة ليست على ما يرام. قالتها برصانة لا تثير شكا أو ريبة. لكن قلق الطبيب النرويجي والممرضات التشيلية والروسية والنرويجية أصابني بفزع حقيقي تصاعد حين أحضروا صندوقا خاصا ووضعت الطفلة فيه بعناية فائقة كما لو كانوا يضعون وردة أو جثة ثم سمعت هدير الطائرة عاصفا في الجو الثلجي. التقطت لها صورة داخل الصندوق لا اتحملها حتى الان، فعلت ذلك ساهما. القيت عليها نظرة الوداع وخرجت الى العاصفة الثلجية والطائرة تقلع حاملة معها طفلة سنوات الانتظار. كان الثلج يهطل في الخارج بقسوة، لكنه كان يهطل داخل قلبي حارا كمياه الينابيع الجبلية. تابعت الطائرة وهي تنطفيء وعدت الى صالة الولادة ميتا من الألم. حاولت الممرضة الطيبة سيسيل ترطيب الجو الخانق قائلة: اليس رائعا ان نعمل معا طوال ايام، انت المسلم وزوجتك المسلمة، وانا النرويجية المسيحية، مع الطبيبة الهندوسية أو البوذية مع ممرضات من قوميات وأديان وربما بلا أديان مع اخرين من اجل انتاج طفلة؟ قلت لها وانا شبه حي: كنت قد فكرت بذلك من قبل. مهما تكن النتيجة فلا يمكن نكران هذا الرمز الذي يعني الكثير بالنسبة لرجل مثلي ـ كنت أريد أن اضيف بالنسبة لرجل صارت حياته وليمة في كل مكان ذهب اليه، لكني توقفت لأن الوقت لا يسمح بالمراثي، الا لنا نحن الذين صارت حياتهم مرثية طويلة مملة ومسئمة حتى أدمنا الحزن. الطائرة المروحية التي اقلعت من فوق المستشفى، ذلك المساء النرويجي الكئيب، والعاصفة الثلجية المزمجرة، في 30 كانون الثاني 2001، اقلعت معها اسراب من الطائرات المروحية الرمادية في أعماق الذاكرة، لكنها تنتمي الى عالم الحرب الذي لا توجد فيه سيسيل ولا الطبيبة البوذية ولا الممرضة التشيلية. ربما يكون هدير المحركات الضاج هو الذي ايقظ الذاكرة. ان ذاكرة المنفي مصنوعة من قشرة رقيقة مثل دمع اليتيم لا يحتاج الا الى رائحة او نظرة او كلمة أو همسة حتى تتفتح مثل زهور حمراء في الليل قرب جدار متهدم. الزهور لا تعرف الطبقية. انها مثل الفراشات تنام على صدور القتلى المهزومين وعلى صدور النائمين المنتصرين كما تقول الاسطورة البوذية. حين عادت طفلتي من الموت، التقطت لها صورة وارسلتها لعبد اللطيف. نحن، اذن، يا عبد اللطيف، مازلنا قادرين على الانجاب وعلى الفرح وعلى الخصوبة وانهم لم ينتصروا الا على الظلال والرمل والضباب. نحن لم نخرب تماما ما دمنا قادرين على الفرح وحتى على البكاء، لأن الزهور تبكي احيانا وهي تضع اعناقها على الصخور من قلة الضوء أو قلة الحب أو من جفاء النحل: (يا سعيد مهران ـ بطل رواية: اللص والكلاب ، محفوظ ـ أرجوك ان تسمعني جيدا. امس استلمت رسالة منك. يبدو انها وصلت منذ اسبوعين من صديق لفلاح المشعل الذي عاد ولم اره حتى الان. اعجبني قولك: "ان الخيبات والويلات لم تجعلني الا اكثر دقة ووضوحا وتلذذا بمباهج الحياة". كثيرون يعيشون من مصادر كثيرة لكني الوحيد الذي أذرع الشوارع وتحولت الى حطام سفينة تتقاذفها الأمواج كما يقول بريخت" العالم فقير والناس سفلة وأوغاد، سنكون طيبين لا حقراء، لكن عالمنا الهرم ليس مكانا للطيبة" توقفت عند عبارة تقول فيها: "أشكرك على هذا الاصرار في أن تظل وفيا وصادقا وشريفا حتى وانت تذبل". لا تغضب بعد الان. سأكون حارسا على الكلاب حتى لا تدخل وتلوث القلوب الطيبة. الكلاب التي تتحدث عن القيم والحب والضمير... بناء على طلبك أجلت " قيامة" موتي. لم أذهب الى سوق الصفافير لأشتري لك زنجيا صغيرا( تعليقا على قصيدة لجاك بريفير كتبتها له) أما بصدد أماكننا القديمة مثل بار الرند والمرايا وبحمدون فقد اغلقت ولم يبق منها على قيد الحياة سوى جراثيمي. اما نصيحتك بأن أذهب الى صحن موسى الكاظم، فلم أتجرأ على ذلك. لكن مقابل هذه النصيحة أنصحك بدوري من أبناء الزنا الذين يمنعون الماعون. هل فهمت؟ لو كانت عندي أخت "اتنيج" لحُلت مشاكلي. لا تزعل مرة اخرى من هذا المزاح. لا تصدق ما يقال عني....مازلت طفلا وأصدق كل ما يقال لي. انت مثلي واعرفك جيدا فقد عشنا اياما عصيبة نحتسي الجوع والبيرة وننام في الفنادق المبتذلة. لقد ارسلت لي مساعدة مالية بيد أحد الاشخاص سلمها لي بطريقة مرعبة....لست بحاجة الى الإذلال.... قرأت كتاب رامبو وزمن القتلة. اكتب " لطيف وزمن القتلة") هامش على حافة الورقة): كان بودي أن اكتب اكثر لكن الورقة لا تتسع). مع الرسالة ملحق أطول منها ويبدو انه عثر على ورقة في مكان ما: ( نفسي مختلجة مثل "زورق مثقوب". كيف تقول اني سأموت بلا كرامة الفأر؟ اليوم وانا أدخل المقهى استقبلني احدهم بهوسة" شايل طيزة ويفتر بيه اسمع يا الشامت" لا تؤاخذني يا أخي الذي لم تلده أمي....) هامش آخر على الحاشية:( لن أموت وأنت حي يرزق. ارسل القمصلة اذا استهلكت). بعد موت الشاعر الصديق رعد عبد القادر(2003) ذلك الموت العاجل والمرتبك والشبيه بجريمة قتل، صرت أكره أكثر من قبل صيغة المراثي. قبل غياب رعد بثلاثة عشر يوما كتبت احتفالية لرعد على موقع الحوار المتمدن، موقع الحزب الشيوعي العمالي، وكنت اراوغ واحتال على الرقابة كي امرر تلك الاحتفالية بدون متاعب له فابتكرت كذبة عيد ميلاده الذي اجهله حتى اليوم. قلت انني ساشعل شمعة لك في عيد ميلادك على خليج رصاصي بلون الرماد. لكنني فوجئت بعد ايام بانطفاء رعد نفسه والشمعة كما قلت في آخر مرثية لا تزال مشتعلة ولم يتغير سوى لون الخليج. عاد رعد آخر مرة الى البيت باكرا في الصباح وفتح كل النوافذ وجلس على كرسي في حديقة المنزل ومثل اوزة لوى عنقه ونام حتى هذه اللحظة. في صورة ارسلها عبد اللطيف يظهر الشاعر رعد وسط مجموعة من الاشخاص نحيلا مثل نخلة محترقة، كضرع يابس متهدل، كجسر ممتد على هاوية، في حين يبدو عبد اللطيف قريبا منه ذابلا كزهور منزلية متروكة في منزل مهجور ومغلق تفوح منه رائحة الغياب والغبار وسفر طويل وطارئ. كل صور عبد اللطيف تالفة كما لو انه سيموت بعد الصورة أو انه يعيش من أجلها. لا أدري لماذا أتذكر الآن بدقة مدهشة بعض ابيات "النشيد الشامل" لبابلو نيرودا، ربما للذاكرة قوانينها الخاصة، ذاكرة المنفي، هذا المكان الحزين المؤلم الذي يشكل، على قول أدوارد سعيد، أكبر اهانة تلحق بالانسان: ( يا أخي الخائف، لا تتخذ من النسر الأحمر صديقا، من بين الطحالب أقول لك: ستمطر غدا دماً، وستكون الدموع كثيرةً، تتحول الى غيوم، الى بحار، الى أنهار، حتى تذيب عينيك). حين كانت الدبابة الأمريكية نهار 9/4/2003( هو تاريخ سقوط أورشليم على يد الجيش البابلي . مصادفة؟) فوق جسر الجمهورية تذكرت، تحت حمى عاتية تطلبت حضور الطبيبة الى المنزل لأن الحرارة كانت ترتفع لدرجة الهذيان والاغماء كيف كنا لطيف وأنا وامرأة نقطع الجسر ذهابا وايابا، وكيف كنا نشتم المطر، النوارس، القصر الموحش والخرافي، ونمد أعناقنا نحو القاع، وكان لطيف يشعر بخوف غريزي غامض من الوقوف طويلا في هذا المكان لأن المخاطر كثيرة. حين أطلقت الدبابة طلقة نحو فندق فلسطين، سقطت امرأة في الذاكرة سابحة في بركة دم، وكان لطيف يخرج من لهيب حمّاي، ضاحكا، وقد عاد طفلا، لكن نواح المرأة يتصاعد. من النهر؟ أم من الجسر؟ من الدبابة؟ أم من الجسد؟ من الذاكرة؟ أم الثلج؟
كتب عام 1998: ( اليوم وقبل ان اعبر جسر الجمهورية، وقفت كعادتي كلما غادرت شارع السعدون في طريقي للاستفسار عنك من " فلاح المشعل" وقفت في نفس المكان الذي اشتريت منه الصور من الأطفال، وقلت لي ان الزمن يخدعنا بل ويغتالنا ويستهلك قوانا لكنه غير قادر على تدمير ذاكرتنا ـ مرة كتبت له ان الذاكرة الحية هي جزء جوهري من الشرف لذلك أكتب سيرته الآن ـ رفعت رأسي الى شرفة الفندق الذي كنا قررنا المبيت فيه، نأمر ونطلب كل شيء بمجرد ان ندير رقم الهاتف الداخلي ـ قوزي، بيرة، مزة ـ وفي الأيام التي تكون جيوبنا ثقيلة بالدنانير نأنف من شرب العرق. نشرب البيرة "المجرشة" على الطريقة اللبنانية. لا تلامس فوهة الزجاجة شفاهنا فقط بل نسمع قرقعة عصير الشعير في بطوننا المليئة بالفستق والتبولة. الشاعر هو من يغني في أحزانه . اليوم سمعت من صديق انك تشتهي العرق العراقي. ان العرق العراقي مغشوش واذا اردت ان تتأكد من ذلك فسأرسل لك اشعة لامعائي التي خدشتها حبوب الفاليوم . أردت أن اقول لك: هل وصلك مالك بين ريب؟ مشكلتي هي في عنوان ثابت لي مع صندوق بريد... ماش، ميز، جيش تون، نار وشمس، فاس ماش/ ميشر... هل تعتقد انني جننت؟ وانني اتكلم لغة سومرية؟ اذا كان جلجامش قد اعتلى عرش أوروك بعد تموز أو ديموزي بصلة القرابة، فإنك اعتليت عرش روحي بصلة الروح ذاتها. هذه صيحة أم جلجامش: "يا جلجامش الى متى تبقى انت جالسا/ لا تجعل ابناء مدينتك الذين اصطحبوك يقفون بانتظارك عند سفح الجبل/ لا تدع امك التي ولدتك تخرج مجبرة الى ساحة مدينتك"). كنا نمضي في الشوارع أيام الحرب الأولى مفلسين، ضاحكين، من الألم والغبطة المجهولة المصدر، ومن تيه غير مفهوم، كجرحين رشيقين مهملين ينزفان امام المارة وفي دروب مدينة اغلقت ابوابها في وجوه رعايا ولدوا سهوا على أرض ظهر انها غريبة. يوما وقد وصلنا( حافة الهاوية) كما كان يقول، فلا مال ولا مأوى عدا ذاك الكوخ البدائي الذي تتحرك فيه مخلوقات من قلب الدخان واليأس والانتظار الخانق، مر اطفال راكضين وهم يحملون صورا كبيرة ملونة لشركات دعاية واعلانات " تقويم شهري اجنبي" قرب جسر الجمهورية مجاور لكنيسة أو مدرسة للراهبات، وعندها طار عبد اللطيف خلفهم واشترى تلك الصور. قال لي لاهثا: لقد حلت المشكلة. بحث في الصور عن نساء في أوضاع مغرية فاتنة وجرني الى ساحة التحرير والى مكان بيع الملابس المستهلكة وهناك فرشها على الرصيف وباعها في دقائق لكنه احتفظ بصورة واحدة لفتاة شقراء تنام على ظهرها فوق رمل ساحلي مشتعل، وفي الأفق البعيد، في النهاية القصوى للبحر، سفينة مبحرة تحت الشمس. لقد رأيت من بعد في دول عدة نساء مستلقيات على بحار وسواحل ورمال لكني لم ار ابدا مثل تلك الحورية التي مضت مع عبد اللطيف الى أكثر أماكنه عزلة ووحدة، ومن المؤكد انه لم يكتشف خلفية الصورة: البحر والسفينة التي كنا نحتاجها تلك الايام، وهذه الأيام، وكل الأيام، نحن غرقى اليابسة وهتاف الدم وغرائز الابادة:( لماذا انقطعت عني؟ ربما لأن لغتي غير مهذبة. لا تؤاخذني أرجوك. ابعث لي بمزيد من الرسائل أكثر مما أنا بحاجة الى شيء اخر. غير ذلك سيؤكد لي هذا الانقطاع انك مت ولم يقم لك احد مأتما. سأنتظر شهرين ومن ثم سأستأجر خيمة وكراسي ومكبرة صوت والة تسجيل ومعمم يقرأ سورة " وكل نفس ذائقة الموت" أو يقرأ الفاتحة على روحك وأرواح الأهل ممن تركونا وحيدين في عالم مكتظ بالشظايا والغبار والاحزان والخوف من الموت في الغربة). ملحق مع الرسالة:( أفر مذعورا من قطيع يحاصرني/ من عيون جثة تراقبني/ من ميراثي وجوعي/من حشود اجتمعوا لقتلي/ من أفاعي البراري الى البراري/ أنا الوحيد طوقتني الضواري..). هذا الصباح( كانون الأول2005) كنت امشي تحت الثلج، وفي النوافذ مصابيح مضاءة لعيد ميلاد يقترب بعد ايام، وفي الهواء رائحة مداخن وأرغفة وقهوة ساخنة وضوء.انه الضوء العائلي القادم من المنازل والستائر والنوافذ. فجأة دوى صوت، خلته اول الأمر كتلة ثلجية سقطت على رأسي، لكنه كان صوت رعد عبد القادر: ( من أين تأتي علي ـ كل يوم ـ بهداياك أيها الماضي؟ خذ هداياك بعيدا عني/ واركب أول قطار يوصلك الى الجحيم/ لا تحاول ان تذكرني بالمناسبات السعيدة/ حاول أن تكون عاقلا/ أقبلْ بدورك الصغير الذي اصبحت فيه/ واتركني أمارس هواياتي الجديدة/ في صناعة الألقاب / لموتانا المستقبليين). عدت الى المنزل سريعا لمواصلة الكتابة والنزيف والمطر والذكرى بعد أن مررت في طريقي على منزل صديقي الرسام ميلفين اندرسين Melvin Andersen الذي يقع في الطابق الأول تحت شقتي فوجدته ثملا كئيبا وبادرني ساخطا ان احدا لم يأت لزيارة معرضه الذي أنفق عليه كل ما يملك والسبب كما أظن ان ميلفين مصاب بهوس صور النساء العاريات الكئيبات المحاطات بجو ضبابي مشوش وهن يشربن في أوضاع خليعة أو ينتظرن شبه ميتات من الشهوة بعيون ضاجة قلقة وهن يجلسن في الحانات الفارغة الا من الكراسي والكوابيس . قال انه لا يعرف السبب وشاركته سخطا مجاملا فهذا النوع من التعرية لم يعد مستساغا هنا لانه يخلو من جماليات العري المقترن بحياء داخلي شفاف. هذا الرسام الستيني، الجوال، المنهك الحالم الى أبعد حدود الوهم، يذبل يوما بعد يوم بارادته ويتآكل ولا أستغرب يوما ان وجد ميتا وحيدا الا من كلبته التي تتبعني في كل مكان كلما نزلت السلم حتى اضطر في اغلب المرات العودة الى المنزل كي لا تتيه في المدينة. سألني: ماذا ستفعل الآن؟ قلت: سأكمل سيرة عاجلة عن صديق مات مهجورا. سأل: هل قتل بالرصاص؟ قلت: لا، قتلته العتمة والنجوم البعيدة والليل على مبعدة 500 كلم من جنودك ـ اشارة للقوات النرويجية في جنوب العراق التي تثير قلقا كبيرا هنا ونقاشا متواصلا. تركت ميلفين مع غانياته المنتظرات على الجدران ودهشة واسعة في عيونهن هذه المرة فلا أحد جاء من أبواب الحانات المفتوحة ولا أحد زار المعرض، فعشن مع الرسام كآبة سهول اسيوية تعج بالصمت والطنين والأبدية. أعود لقراءة آخر الرسائل والثلج يحتدم ويضرب النافذة بعنف وحشي تاركا شَعرا طويلا قطنيا اسطوريا يمتزج مع صورة لصحراء عريقة في القدم ملصقة على الجدار. خلف الجدار روضة أطفال، وخلفها البحر، وخلف البحر عزلة وفي أقصى نهايات العزلة جرح:( زهران، فكرت هذه اللحظة ان اذهب الى مصور واطلب منه ان يلتقط لي صورة عارية الا من ورقة التوت كي ترى كيف تحولت الى هيكل عظمي في داخله روح ونفس وشرايين مقطعة. انت محق في كل ما تقوله لكني لا اعتقد ان نصائحك ولا نصائح المسيح تصلح من شأني. زوربا وحده من يفهمني. فكرت بـ" المغامرة" هذه نصيحتك الوحيدة التي يجب ان اعمل فيها...لا تعتقد اني أتصرف على طريقة ... ـ يذكر اسم أحد الاشخاص ـ قيل لي انه قريب منك في النرويج. عينك ميزانك!...1999). بالفعل لا تخطئه العين الواعية من النظرة الأولى. خذ قطيع جواميسك أو خذ أرقك واذهب الى البرية يا عبد اللطيف، وكن مثل أي عبد اللطيف اخر بلا حكمة ولا نساء ولا حدائق ولا اشجار ولا اسطرلاب وتنزه قرب أي نبع ماء على طريقة رعد عبد القادر في بلبله المتعجب، وكفاك من المدن الفاضلة والنساء والسكراب أو أخرج كالدجاج الى السوق لبيع السكائر الوطنية مثل أي مواطن صالح باعوا اثاثه في السوق من اجل القاب ونياشين لن يشتريها احد يوما حتى في سوق الخردة. لا أدري لماذا تخيلت ان رعد عبد القادر كان سيقول ذلك لو كان يمشي اليوم في شوارعنا التي خلت من الكراسي والأيام ( بعد أن خلع المماليك سراويلهم أمام شفرة التاريخ) والحرس الملكي فوق جسر الجمهورية، كما سيخلع غيرهم سراويله يوما، ونظل وحدنا نطبخ الأمل والأيام. خذ دخان موقدك، خذ معك نوري سعيد القديم ، خذ معه أي نوري سعيد جديد، خذ الدكتاتور والعب معه الشطرنج في السجن، خذ معك كل الزعماء والثورات والحروب والمنشورات السرية والأحذية،خذ معك الانتخابات القديمة والجديدة، خذ معك المتحف والجراثيم وعابري السبيل، خذ معك تابوتك، ضعه على ظهرك كنيشان من ساحة ثورة العشرين، خذ النفط والسيف والايمان والضريح، ولا تعد بعد الآن يا عبد اللطيف. اذهب الى البرية وحدك حاملا خطايا التلفزيون والمسلسلات واغاني رمانة، والذئب وصاحبه وياس خضر والريل، خذ معك حتى المكيّر، قطار الجنوب: ( زهران: نحن هنا لا نتخلص من لعبة الذكريات، ومازلت أتذكر العجوز التي استأجرت انت في منزلها العتيق ـ في الحديرخانة وكنتُ هارباً ـ غرفة خالية من الأثاث الا من" جولة" وكتاب " رامبو وزمن القتلة"الذي حرضتني على قراءته. مشاهد كثيرة مرت على مسرح حياتنا البائسة... من المؤسف أن أذكر لك شعوري بقرب نهاية حياتي، وانت تمازحني بالقول: هل مازلت حيا؟ مازلت حيا ولكن اية حياة؟ انتظر لحظة سعيدة في حياتي ...لحظة الموت.. مع اني احب الحياة... المرض قطع أوصالي وجند جيشا من البكتريا لمحاصرتي... لم يترك لي لحظة اخلد فيها للراحة...اني اتنفس من خرم ابرة كما قال عمر بن العاص حين دنت منيته...أريد أبكي على صدرك...2002). أريد أبكي على صدرك مشتهي النوح. اغنية ذكرتها له في رسالة لكنه هرب لوحده في التابوت: (يا صاحبي، في النعش متسع لصعلوكين، ووردتين، وليلة مستهترة. فلماذا مضيت وحدك وتركت صاحبك القتيل؟)* هوامش: 1: المقطع الأخير من قصيدة لسميح القاسم " الى المتماوت معين بسيسو".
2 : في رسائل عبد اللطيف ذكر لاسماء ادبية وثقافية ومواقف كثيرة تم حذفها مؤقتا في انتظار أن تأخذ سيرته شكلها النهائي رغم ان كل واحد منا عاش تلك الفترة لا يمتلك سيرة خاصة بما في ذلك ادق التفاصيل الانسانية الفردية ومن الغريب ان تكون سيرة الراشد المهلكة مهربة في رسائل كما لو حُكم علينا جميعا ان نُحرم من العيش ومن الحكي. حين نروي سيرة الآخر نتحدث عن انفسنا أيضاً لأنه صورة أخرى لها: الذات بلا آخر كإطار مرآة بلا قاع.
3: لم أعثر في كل المصادر على تاريخ محدد للوفاة واعتمدت على الذاكرة كما لو ان موته يشبه حياته، والغريب انه هو نفسه لا يعرف تاريخ ولادته في اليوم والشهر ولكنه يشير الى عام الولادة 1949 بعبارة مستريبة : "كما هو مدون في بطاقة الاحوال المدنية"وهي ليست وضعية عبد اللطيف بل هي حالة أجيال ولدت وماتت كزهور وأشواك ومخلوقات البراري. 4: هذه السيرة في طور التشكل المستمر. قد تكون كحكاية رسام بورخيس في مجموعة" الصانع" الذي رسم المدن والجبال والسهول وحين اقترب منه الموت عرف انه كان يرسم صورته.
|