المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
25/11/2010 06:00 AM GMT
غرناطة: لم يكن باعث رحلته شبيهاً بالباعث الذي جعل بودلير أو فلوبير أو أي واحد من أولئك الذين سحرهم الشرق الغامض قبل أن يروه فذهبوا في البحث عنه جنوباً وشرقاً، وبدل أن يصفوا شرقاً رأوه تحدثوا عن شرق خزنوه في مخيالهم. كلا، الرسام الفرنسي هنري ماتيس عثر على الشرق صدفة، عندما زار أسبانيا لمدة شهرين من نوفمبر/تشرين الثاني 1910 حتى يناير/كانون الثاني 1911، وحتى هذه الزيارة لم تحمل هدفاً واضحاً حقيقة. وخلال تلك الشهرين طاف ماتيس بين بعض المدن الأسبانية، زار مدريد وأشبيليا وقرطبة وغرناطة وتوليدو وبرشلونة قبل أن يواصل رحلته اللاحقة من برشلونة إلى روسيا بدعوة من صديق روسي التقاه في غرناطة، وهذا ما يفسر أيضاً وجود عدد من لوحات وتخطيطات له في متحف الفنون "أرميتاجه" في مدينة سانت بيترسبورغ. وخلال تلك الشهرين، ولأنه ماتيس الفنان أحد أولئك الذين أدمنوا على الرسم، كان عنده الوقت الكافي لكي يرسم ثلاثة أعمال، إثنان منهما لحانتين والثالثة على شكل بورتريه. لكن الرسم الذي خططته ذاكرته من تلك الرحلة كان في النهاية أكثر عمقاً وخلوداً. آثار السطوح المحيطة بالحمراء والجبس الذي زين حيطانها انتهوا إلى عمق تنويعاته الفنية، أعمال متقنة حتى الآن يمكن رؤية العفة الطبيعية الشمال أفريقية تنبعث منها. المعرض الذي ضم كل الأعمال تلك التي جاءته من إلهام الزيارة تلك افتتح قبل أيام تحت عنوان ماتيس والحمراء 1910-2010 بمناسبة مرور مائة عام على زيارته تلك في قصر الملك كارلوس الخامس وسط حصن الحمراء. عشرات اللوحات، بينهما 35 قطعة رسم صغيرة، مستعارة من متاحف عديدة ومن جامعي لوحات جاءت من أماكن مختلفة من العالم لكي تبين لنا كيف أن السحر الذي تعرض له ماتيس لم يكن وهمياً، كان حقيقياً لدرجة إنه ترك أثراً ملموساً على الجزء المهم من إنتاجه الفني. ماريا ديل مار بيافرانكا مديرة الحمراء والمؤرخ الفني فرانسيسكو خاراوتا، كانا مثل كوميساري شرطة أخذا على عاتقهما التحري لتوضيح وقائع تلك الرحلة وتأثيرها على الرسام الإنطباعي. وحسب ما صرحت به السيدة بيافرانكا للصحافة، إن فكرة المعرض ولدت عن طريق الصدفة المحضة، حدث ذلك في عام 1991 عندما كانت تراجع أحد كتب الزيارات العديدة الموجودة في أرشيف حصن الحمراء ولتعثر في الصفحة الأخيرة من الكتاب على توقيع "الزائر" هنري ماتيس، ولم تعرف حتى تلك اللحظة إنه كان هناك، الإكتشاف ذلك كان باعثاً لها للتحري عن القصة. في لقاء مع ماتيس نفسه تم في عام 1947 إعترف الفنان بأن الألهام الذي كان وراء رسمه للوحاته الأخيرة والتي لاقت نجاحاً لافتاً في حينه جاءه من الشرق. الآن يمكن قول ذلك بأكثر دقة بأن زيارته لغرناطة كانت مهمة جداً ليس لفهم أعماله وحسب بل أكثر من ذلك إنها هي وليس غيرها وراء تكوين الرسام الكبير ماتيس الذي ستدخل لوحاته بعد تلك الزيارة صالونات وكاليريات عديدة في باريس وفي العالم، ماتيس لم يخف ذلك، كتب عن ذلك في كل الرسائل التي بعثها لزوجته ولأصدقائه في الأندلس. في الرسائل (أغلبها معروض في المعرض) تحدث ماتيس بإندهاش أصيل عن الطريقة الساحرة التي "يصفي الضوء فيها نفسه عبر الفضاءات" أو "من العدن الحقيقي الذي تجسده الينابيع والأشجار بكل أنواعها"، من أشجار الكاستانيا وشجر الحور الأسود، من أشجار البرتقال إلى اشجار الرمان "غراناندينيرو" وليس أخيراً النخيل، كل تلك الأشجار التي ما تزال تظل القصر حتى اليوم. رسائل ماتيس تلقي الضوء أيضاً على إعجابه بالأشكال الهندسية التي ميزت الحمراء، والتي تنتهي دائماً على شكل دوائر في صحن القصر، كما إنها (الرسائل) تبين افتنانه وتأمله للزخرفات التي زينت جدران الحمراء والتي هي على شكل نجمات سداسية متداخلة مع بعض. الطريف إن ماتيس لم ينس في رسائله من وصف بعض المفارقات التي حدثت له في زيارته تلك إلى أسبانيا، مثلاً وهو يصف جولته في توليدو حيث كانت درجة الحرارة 10 تحت الصفر لدرجة أن لحيته تجمدت وبسبب ثقل الثلج عليها راحت تسحبه بثقلها إلى الأمام. وحسب المؤرخ الفني خاراوتا كان عام 1910 عاماً حاسماً بالنسبة لماتيس، عاماً مليئاً بالأزمات الشخصية والفنية، لكن أيضاً كان عاماً للتجديد بالنسبة إليه. بلاشك كانت زيارته (التي جاءت بعد زيارة غرناطة) للمعرض الشرقي في مدينة ميونيخ الألمانية ميونيخ آثارها عليه وبشكل مثمر، لكن الصالون الباريسي أوتونيو "الخريف" كان رفض عملين له أستوحاهما من الموسيقى والرقص. ليس من الغريب إذن أن يحتاج ماتيس في تلك اللحظة لتغيير الهواء، كما يقول المثل عندنا. لحظة الإلتباس هذه في حياته كانت وراء رحلته إلى ميونيخ وزيارة معرض الشرق هناك. في لوحته "الجزائرية" عام 1909 التصاميم السوداء والكاملة التي خطط فيها تخطيطاته للمرأة وقطع القماش التي تؤطر المكان مثل ديكور تعلن إعجابه بالديكور الشرقي. إلى جانب الهواء الإنطباعي الملون هذا يبرز بشكل واضح أيضاً إناء الزهور الكبير الأندلسي المصنوع من الخزف الفرفوري بإنعكاسات نقوشه الذهبية، الحضور الشرقي الحميم هذا سيحضر دائماً على قماش لوحات ماتيس. أول أعماله التي يمكن رؤية تأثير غرناطة فيها عليه الرسم الذي عمل عليه في عام 1921، العام الذي بدأ فيه الفنان بدراسة العري الأنثوي. النساء العاريات تقريباً أو الملفوفات في أقمشة شفافة كانت أعمالاً ناجحة لدرجةإنه رسم منها العشرات. أغلب اللوحات تلك رسمها بطلب من جامعي لوحات أو كاليريات أميركية. وتقريباً دائماً مع الموديل نفسه، الراقصة المعروفة هنريتة دياريكاريرا التي دمغ جمالها قماشة لوحات عديدة من تلك المرحلة. وكما يكتب المؤرخ الفني خاراوتا في تعليق له على المعرض كيف "أن الجمال غير المعروف حتى تلك الفترة للحمامات العربية في الحمراء يتسلل تدريجياً إلى أشكال الديكور الذي جمعه ماتيس في لوحاته الحسية تلك"، والتي يمكننا رؤية "عالم ملون يعرض نفسه فيها، عالم ألوانه القوية واضحة: أحمر، أزرق، ذهبي". التنويعات اللونية هذه موجودة أيضاً في الرسومات الأصلية على جدران قصور الخلفاء والأمراء. المعرض يضم أيضاً سلسة من صور لماتيس جاءت على شكل طبع حجري مستوحاة من النساء العاريات، الصور هذه أمنتها إبنة الرسام ماغريتة لمتحف ألبيرت في لندن. الصور هذه تعرض في المعرض بمواجهة قطع أقمشة إسلامية لمراحل تاريخية مختلفة زينها الرسام نفسه، موتيفاته الديكورية تعيد نفسها كل مرة وعلى كل قطعة بشكل آخر. الحمراء هذه المرحلة الخفية حتى الآن من حياة ماتيس تعيد النقاش من جديد إلى أهمية كل تلك الرسوم والزينات التي زينت جدران الحمراء التي نفذها فنانون ألهمَ فنهم أجيالاً عديدة من الرسامين، المهارة الفنية والإبداع في النقوش والبناء الهندسي ما يزال يلقي ظلاله حتى اليوم، إن ليس على الرسم فعلى ثلاثة ملايين زائر يأتون سنوياً لزيارة حصن الحمراء. للأسف الفنانون هؤلاء مجهولون بالنسبة إلينا، لا إسم لها ضاعوا في غبار التاريخ. إنهم الفنانون هؤلاء الذين يستحقون وضع نصب لهم، نصب: الفنان المجهول.
|