المؤرخ عبد العزيز الدوري : يكفيه كتابه تاريخ العراق الاقتصادي |
المقاله تحت باب مقالات و حوارات رحل المؤرخ عبد العزيز الدوري (1919- 2010)، يوم الجمعة المصادف 19 تشرين الثاني، وبرحيله يكون العِراق فقد أحد رموزه الكبار في التاريخ، مِنْ أمثال الدوري نفسه وجواد علي (ت 1987) والقائمة تطول. "إيه أيها النهر الذي أنتج كل شيء، لقد نشرت الآلهة الخصب على جنباتك حين شقتك". بهذا الدعاء السومري استهل المؤرخ عبد العزيز الدوري أطروحته لنيل شهادة الدكتوراه، من جامعة لندن 1942 بإشراف المستشرق الروسي فلاديمير مينورسكي (ت1966)، صاحب "حدود العالم" ودراسات إسلامية عديدة، وكتب عن ديانات ومذاهب جبال ووديان العراق. والدوري في أطروحته الموسومة "تاريخ العراق الاقتصادي في القرن الرابع الهجري"، والتي نُشرت بثلاث طبعات (بغداد 1948، بيروت 1974 و1995) بدأ مؤرخاً دقيق الرواية قوي العبارة، مهندساً للبحث العلمي، ولأنه عالم، لا يشك في أعلميته، لم يتأخر من طلب ملاحظات زملائه، ووشح كتبه بالشكر لهم، زملائه الذين مثله بحثوا عن عيش خارج العراق وماتوا هناك. وما الاستهلال بالدعاء العراقي القديم إلا تأكيد انحداره من حضارة ضاربة بالقدم. أذكر هذا لأن الدوري تجاوز المألوف فجاءت باكورة أعماله الأكاديمية ناضجة إلى هذا الحد، ولابد لأستاذه مينورسكي من دور في ذلك، وهذا لا يغيب أعماله اللاحقة وأهمها، من وجهة نظري، "بحث في نشأة علم التاريخ عند العرب" و"مقدمة في التاريخ الاقتصادي العربي". هذا من جانب ومن جانب آخر يُعد عبد العزيز الدوري ظاهرة تلفت النظر في مجال البحث التاريخي، فأكثر من ستين عاماً، وهو يكتب بوتيرة عالية من النشاط، ثابتاً على ما بدأ به من آراء وأفكار، دقيقاً في نقله، يبث الحيوية في المادة التاريخية ليجيب على تساؤل عام "ما فائدة ما فات"؟ طالما سمعه من تلامذته، وحاول استفزازه به مدعو المعاصرة خارج إطار التاريخ.
وما بين الرجلين اختلاف في الاهتمام والتوجه، فبالوقت الذي ظل الدوري وفياً للفكر القومي، باحثاً عن جذوره التاريخية في الاقتصاد والمجتع العربي ظل محمد مكية متعاطفاً مع الفكر الإنساني خارج الحدود القومية، ويظهر اهتمامه هذا من تجاوز النظرة القومية لما حوله، وعندما يتحدث عن صديقه الدوري كأنه فقد فيه بدايات لمسها فيه من عهد الشباب، عبر تعاطفه مع أفكار أساتذة بريطانيين ومستشرقين آخرين، وهو يدرس بلندن، لذا يتكلم عنه دون أن ينسى استغرابه، الذي يوجزه بالعبارة "لا أدري لماذا كتب الدوري عن الشعوبية بهذه الطريقة؟ غير أن محمد مكية يعتبر الدوري وفياً لعلمه بالدرجة الأولى، وعلى حد عبارته: كان ذكياً جداً في مجاله، علماً فذاً في التاريخ، لديه قدرة على الإقناع في المواقف الحرجة، متنور وإنساني في تعامله مع الآخرين، ولم يلمس منه تعصباً مع انحيازه الكلي في بحوثه للفكر القومي. وحينما يسرد المعماري مكية ذكرياته عن صديق أو مدينة عراقية لا ينسى مشروعه الطموح "جامعة الكوفة". فقلت له: وأنا أحاول أن أجمع مادة وافية عن عبقة من عبقات العراق، مثل عبد العزيز الدوري: ماذا كان موقف مؤرخنا من المشروع وهو رئيس جامعة بغداد يومذاك؟ قال مكية: الدوري لم يرفض لي طلباً، ويحاول بطريقة وأخرى أن يلبي طلباتي، لا محاباة للصداقة، بل لأنه يقدر دوافعي ويشعر بهمومي، لذا لم أجده ضد المشروع، الذي أعتبره البعض خطأً، مشروعاً طائفياً، لأنه يقع في منطقة شيعية ويجاور النجف الأشرف، غير أنه بطريقة ما كان يحذر من إشاعة التعليم الأهلي، ويميل إلى بقاء التعليم تحت ضوابط الدولة، وعندها ذكرته بجامعة كامبردج وغيرها من الجامعات الدولية، كيف تهيأت إلى هذه المنـزلة عبر التعليم الأهلي. وأتذكر أنه طلب مني أن أتولى مهام نيابة رئاسة جامعة بغداد، رغم أني مهندس معماري، رفضت لعدم قدرتي على تولي منصب إداري، أو أن أكون تحت رئيس مع أن الدوري إن حصل وأصبحت نائباً له لا يشعرني مثل هذا الشعور. كذلك قدر اعتراضي على مقترحه في إلحاق معهد الفنون الجميلة بقسم الهندسة المعمارية. كان مكية يجالس عبد العزيز الدوري لحظة إضرابات طلبة الجامعات (1968)، وكان يسمع الهتاف الطائش "اعدموه للدوري"، وقد شعر مكية بقلق المؤرخ من هتاف الطلبة، فليس له علاقة إلا بانتظام الطلبة في كلياتهم، أما حالة البلد السياسية التي اعترض عليها الطلبة فليس مسؤولية رئيس الجامعة. سألت أحد الطلبة الذين شاركوا في تلك الإضرابات وعلا صوته بهذا الهتاف في فورة الشباب، وهو اليوم من المعجبين جداً بالدوري، عن مغزى الهتاف، ضحك وقال: لا أدري؟
وانقسم الجمهور العلمي والأكاديمي إزاء العالمين إلى يساريين مع عبد الله وقوميين مع الدوري، وظل الحال عليه حتى شباط 1963، يومها اعتقل عبد الجبار عبد الله لأنه كان محسوباً على اليسار وعبد الكريم قاسم، ليصبح مؤرخنا رئيساً للجامعة لكن وسط أجواء ملبدة وحرجة جداً. وما حز بالنفس أن الدوري نفذ أمراً لقيادة انقلاب 8 شباط 1963 بفصل خيرة الأستاذة من علماء وأدباء ومؤرخين وفنانين، واحتفظ بنسخة من أمره الصادر آنذاك وبتوقيعه، عطفاً على قرار قيادة الانقلاب. لكن لا يجب أن نحصر المؤرخ الدوري بهذا الفعل، ولا أظنه ظل منسجماً مع ما فعل، فهو الآخر وصلت النار إلى أذياله فهجر بغداد، قبل سقوط النظام بزمن طويل، ومات بعمان. لم يترك الدوري زميله وصديقه العالم عبد الجبار عبد الله يهان وربما يصفى جسدياً، فقيل إنه سعى في إطلاق سراحه بالتنسيق مع وزير التربية أو المعارف آنذاك أحمد عبد الستار الجواري. سألت أحد المعتقلين مع عبد الجبار عبد الله حول ما حدث له، قال: أهانوه وكانوا يبصقون على وجهه، ويوماً نودي عليه لمقابلة شخص ما، فعاد بعد مغادرة ذلك الشخص مهاناً، فقلنا له: مَنْ رأيت قال: صديقي الدكتور عبد العزيز الدوري، وأنا لا أعرف منْ يكون الدوري، قلت له، هو الذي أمر بإهانتك، وعندها أصر عبد الجبار على مساعدة الدوري له، قائلاً: لا، الدوري صديقي وقدم لمساعدتي"، وفعلاً كانت النتيجة أن عبد الجبار أُطلق سراحه بمساعدة الدوري، والأخير كما نعلم وإن كان قومياً لكنه لم يكن في يوم من الأيام حزبياً. غير أن هذا التفاضل بين عالمين يخبر عن زمن جميل، يحترم العلم والعلماء إذا ما قيس ذلك بتربع شخص مثل سمير الشيخلي، ليس رئيساً لجامعة بغداد، وإنما وزيراً للتعليم العالي وقس على هذا. وإن أُقيل عبد العزيز الدوري من رئاسة الجامعة من قبل عبد السلام عارف، أعاده عبد الرحمن عارف ليفصل منه بعد انقلاب 17 تموز 1968، ويعتقل لمدة عام، ثم تضطره الظروف للهجرة.
أشارت عناوين المؤرخ الدوري إلى انشغاله بثلاثة هموم، وهي: التاريخ الاقتصادي العربي، والقومية العربية، وعلم التاريخ، والثلاثة يجمعها جامع واحد هو تأصيل الفكر القومي العربي، أو حسب ما يسميه أحياناً بالعروبي. وما لا يُنسى للدوري، إذا لم أكن مخطئا، ريادته بين المفكرين في الشأن القومي، في البحث عن أصول التكوين القومي عبر التاريخ الاقتصادي. فقد فسر ظهور الحركات الاجتماعية والسياسية في الإسلام بالعامل الاقتصادي، وهذا ما ظل محتكراً للفكر الماركسي، الذي اقترب الدوري منه في بعض البحوث، عندما قال: "التفاوت الاقتصادي أدى إلى قلق اجتماعي وإلى قيام حركات اجتماعية".
وربما أغضب الدوري في كتابه "الجذور التاريخية للشعوبية"، باحثين ومؤرخين اختلفوا معه في التوجه الفكري، لما في العبارة من استعلاء على الشعوب الأخرى، ومؤرخنا لم يصرف كثيراً من الوقت في الكتابة عن هذه الظاهرة إلا ما تطلبته الخلافات الفكرية وقتذاك، ما بين 1958-1963. وإذ تحدث عن الشعوبية كحركة موجهة ضد القومية العربية، حسب ما قدمه في كتابه الخاص، لم يغفل الاستبداد الأموي الذي دفع بالشعوب الأخرى أن تواجه العرب وتبحث عن مثالبهم، وربما كتاب ابن الكلبي، وهو عربي، "مثالب العرب" وكتب الأعاجم الذين كتبوا في فضائل العرب تضعنا أمام إشكالية فهم المواجهة بين العرب والموالي، الذين انتصر لهم مؤرخنا في أكثر من مكان. قال الدوري منتصراً لغير العرب: "يلاحظ أن النظرة القبلية كانت العامل الأول فيما يبدو من تمييز أو تعال في النظر لغير العرب، وفي مقاومة تسجيلهم في الديوان وإعطائهم الأعطيات، بخلاف النظرة الإسلامية". وجوهرها الآية الكريمة "وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا". ونضيف عبارة للخليفة الأموي السابع سليمان بن عبد الملك (ت99هـ) لا يُستغنى عنها بالحكم في مثل هذا الموقف، قال سليمان: "عجبت لهذه الأعاجم، ملكوا ألف سنة لم يحتاجوا إلينا ساعة واحدة في سياستهم، وملكنا مائة سنة، لم نستغن عنهم ساعة واحدة" (الزبير بن بكار، الأخبار الموفقيات).
لمؤرخنا رأي في عدم سريان اللغة العربية بالبلاد الإيرانية الناطقة بالفارسية، بينما سرت بسهوله في المناطق السريانية والآرامية بالعراق، أورد ذلك في كتابه "القومية العربية والإسلام"، قال: "إن العرب تركزوا في مدن أو مراكزها بجوارها، ولم ينتشروا في الريف، كما أن اللغة الفارسية القديمة استمرت لغة حياة، بل استعملت في بعض الكتابات الدينية، الزرادشتية، بعد هذا فإن اللغة الفارسية الجديدة بدأت تظهر منذ أواخر القرن الثالث الهجري لتصبح لغة ثقافة، هذا إلى وجود تراث حضاري ووعي تاريخي، مما ساعد على تقلص ظل العرب" (ص108). والقرن الثالث هو ازدهار الدولة العباسية، التي اعتمدت بشكل خاص على خراسان، حيث بلاد فارس. ووصف تعريب العراقيين بالتعريب الهادئ، وكان لهذا الهدوء أسبابه، منها أن اللغة الفارسية كانت لغة احتلال، وثانياً هناك صلاة بين العربية والسريانية والآرامية وتواجد عربي ملحوظ بالعراق قبل الإسلام ينطلق من الحيرة ودائرها.
فالبلاذري الذي حقق الدوري جزء من كتبه "فتوح البلدان" نسج تاريخه "حول الأرستقراطية العربية" وكتابه عبر عن "رسالة الأمة الأساسية إلى الجهاد ويسد بعض الحاجات الفقهية والإدراية"، واليعقوبي كتب كتابه كتاريخ عام لا يخلو من ميول علوية، بينما فكر ابن قتيبة بطبقة الكتاب وحاجتهم إلى تاريخ موجز، أما الطبري، وتاريخه أشمل التواريخ إلى قبل وفاته بقليل "أراد أن يوضح مشيئة الله وأن يجعل من تاريخه دليلاً على فعاليات الأمة جنب تفسيره العظيم"، وهو أفضل مثال لمدرسة الحديث التاريخية. ولعلي لم أكن مخطئا في عدم عثوري، في كتاب مؤرخنا "بحث في نشأة..." على اسم المؤرخ والنسابة البغدادي الذي غرف منه أكثر المؤرخين، وهو محمد بن حبيب (ت245) صاحب "المحبر" و"المنمق"، والذي غرف منه المؤرخون الكبار ومنهم البلاذري، و ربما لمؤرخنا رأي لا نعرفه. أقول: إن الكتابة عن مؤرخ بحجم عبد العزيز الدوري لا يكفيها مقال، لذا أقف عند هذا الحد، لأختم بالقول الذي وصف فيه الدوري نفسه عندما تحدث عن صاحب المغازي "والواقدي صريح في رواياته، ومع وجود ميول علوية لديه إلا أنه بعيد عن التحزب". والدوري صريح العبارة ومتسلسل الخبر مع وجود ميول قومية إلا أنه ظل بعيداً عن التحزب، وحزبه الذي يعنيه الآن هو علم التاريخ، فماذا يُقال لصاحب ستين عاماً وهو يصلي في محراب هذا العلم. وهو من الذين كتب لهم محمد طاهر العمري العام 1921، وهو يكتب عن مقدرات العراق السياسية: "أكتب هذا لشبان العراق الذين سيؤلفون الأدمغة المقبلة ليتشعبوا حالا واستقبالاً ما قدر الله على بلادهم من الحادثات السياسية ليتعظوا منها وينهضوا بهذه الأمة التعيسة"، وهؤلاء الذين خدموا العراق بشبابهم وكهولتهم لم يجدوا فيه موطئ قدم، وشبراً يرقدون فيه رقدتهم الأخيرة. أطال الله عمر مؤرخنا. أختم بالقول: لا يجب أن نبقى أسرى ما ظهر ذلك اللغط السياسي والحزبي، والذي أظهر عبد العزيز الدوري قومياً ليس إلا، وتبوأ رئاسة الجامعة بعد اعتقال رئيسها عبد الجبار عبد الله، ولا يجب أن نظل أسرى ما كتبه الدوري في الشعوبية، لفورة طارئة، علينا أخذ الدوري بكامل ما انتج، والعراق أحق من غيره في الفخر بهذه القامة المديدة. فعلينا تقدير حياته وموته ساجداً في محراب التاريخ، ومجيباً عن الغامض من أسئلته، مِن أجل مستقبل أفضل، فلا مستقبل لمَن لا يتعظ بتاريخه. |