الأدب والإعلام والإرهاب |
المقاله تحت باب في السياسة كوننة الارهاب ونشره تقع على عاتق الاعلام. لا أخفي كراهيتي للاعلام وأساليب عمله كونه مظهرا من مظاهر الرعب السياسي الجامح، أو وسيلة من وسائل كوننة الهلع البارد وسياسة التلاشي على حد تعبير فيرليو، فهو الذي عمم عن طريق الخبر الناشف مسيرة الارهابيين في العالم برمته، وصنع قصصهم المروعة في مرحلة ملتبسة من مراحل الرأسمالية الجامحة ومسيرتها المتبلدة في إحلال الصحافة محل الادب، والتكنولوجيا محل الانسان، والغرائز محل الثقافة، وهي مسيرة أصبحت مدانة أخلاقيا في العالم المعاصر، ولكنها عابرة في ثقافتنا -مع الأسف-ولم تخضع إلى نقد حقيقي ولا بأي شكل من الاشكال. وبالرغم من أنها سياسة عامة في وسائل ووسائط أخرى، ولكن يضاف إليها ما ينتجه الاعلام ذاته ومن طبيعة عمله، وما ينتجه من سياقات تنفيذه لمجاله المهني، وأقصد هنا قاعدة المنافسة المهنية، وعقيدة الهرولة وراء الخبر، وتصدر السباق الاعلامي، وكل ما ينتجه هذا السياق المهني من الدناءة والتبلد الاخلاقي والحط من سلم القيم. المشكلة السياسية التي نواجهها اليوم في العراق متعددة، لا تختص فقط بكيفية بناء نخبة سياسية في بيئة متهرئة من ناحية التنشئة السياسية والاجتماعية، أو بناء حكومة وسط تفكك اجتماعي وانهيار أخلاقي، ولكن كيفية بناء إعلام وصحافة دون سياق ثقافي وأدبي حامٍ وضامن للقيم الاخلاقية. لا يمكننا أن ننكر وجود إنتاج أدبي فخم في بلادنا، ووجود ثقافة فنية واستيتيقية نوعية أيضا، غير أن هذا الانتاج كان معزولا عزلا تاما عن عملية بناء الأمة في العراق، وهو بالعكس تماما عما حدث في عهود الامبراطوريات الاسلامية الذي استخدم استخداما بارعا في تعزيز الحس الامبراطوري للمسلمين، ولذلك لم ينتج الادب والفن في نشأة العراق الحديث سياقه الاجتماعي والسياسي الحامي والضامن للقيم الاخلاقية، ولم نلمح تأثيره الحقيقي والفذ في تسيير أوجه النشاطات المتعددة سياسية وإعلامية واجتماعية، ومن المثير أن هذا الأمر قد تم على نحو بارع في بلدين قريبين من العراق وشبيهين له نوعا ما في التنشئة التاريخية والسياسية والاجتماعية وهما إيران وتركيا، وفي دراسة شيلا خرمي اللافتة عن دور الأدب في صناعة الأمة في إيران، ما يثير الاعجاب عن الوعي النوعي للسلطة السياسية في إيران في استخدام الوسائل الادبية والفنية في توحيد الخيال الوطني، وإذا كانت هنالك نزعة وطنية ذات تضاريس خشنة في الشخصية الايرانية فإنها تعود لمرحلة البناء الوطني التي نفذها الشاه لا لرجال الدين في الوقت الحالي، وكان يمكن لهذا أن يحدث في العراق، من وجهة نظري، بل كان يمكنه أن يكون كذلك وبصورة أكثر سلاسة، لو كنا حظينا بنخبة سياسية مثقفة، وكان للأدب أن يلعب دورا هائلا في تكوين خيال وطني موحد للأمة وسياق منتج لنخبة سياسية واجتماعية وثقافية موحدة، وكان له أن يدعم وبشكل متواتر ومتواصل قيما أخلاقية بعينها فيجعل أمر المنافسة السياسية-التي نراها اليوم- بالقياس إلى المصلحة العامة أمرا منحطا، وكان يمكنه أن يكون حاضنا وضامنا أخلاقيا للصحافة والاعلام في بلادنا، فهو، من دون أدنى شك، لا ينشأ إلا في هوامشها ومتونها، سواء أكان هذا الأمر يتعلق بالصحافة والإعلام هنا، في العراق، أو هناك في العالم الثالث، بل وفي كل مكان في العالم، وبالتالي نقف عند عتبة واحدة في تعامل الاعلام مع الاحداث الكبرى في البلاد ومنها أحداث الارهاب، فنحن مع الاعلام حينما يكشف عن الحقائق التي تروع السياسيين وتحمي الناس، ولكن لا أن يتحول إلى وسيلة من وسائل الارهاب سواء أكان هذا بيد السلطة أم بيد الجماعات الخارجة عن القانون. وما أريد الوصول إليه هو طريقة تعامل الاعلام العراقي مع الحادث المروع في كنيسة النجاة، سواء مع الضحايا أو مع الارهابيين، والسؤال الملح الذي يشغلنا جميعا هو: هل يدخل تعامل قناة عراقية مع مجموعة إرهابية تختطف عراقيين وتساوم على دمائهم من باب حرية التعبير ودعم الاعلام المستقل؟ من دون شك، أن ما قام به الصحفي يعود إلى المنافسة الصحفية أكثر مما يعود إلى القصد الخبيث، وهذا هو ما وصفه رايزارد كابوتشنسكي بـ"صعود قيم المهنة الصحفية إزاء انحطاط الضمير الانساني"، فالبغدادية تبغي النجاح الاعلامي وتكون سباقة في نشر الخبر حتى لو مر هذا الأمر على دماء الضحايا، فالعملية الارهابية برمتها هي عملية إعلامية، ومن قبيل العمليات التي صنفها أولفييه روا بعمليات الجيل الثالث من القاعدة والتي تقوم بصورة أساسية على الترويج الاعلامي، فبعد انهاك التنظيمات التي تقوم على التواصل الفعلي والمادي بفعل العمليات العسكرية المضادة أصبحت تعتمد اعتمادا مباشرا على العالم الافتراضي وعلى الترويج الاعلامي مهما كانت هذه العمليات بسيطة وسهلة، وبالتالي لا تحلم أية مجموعة إرهابية بأكثر مما قدمت البغدادية لهذه العملية في أن تصبح محطة للترويج لمطالبهم، وحتى وإن كان الأمر بريئا بالنسبة لهذه المحطة ولا يتعلق بشبهة أبدا، ولكن هذه المحطة بالضرورة هي محطة عراقية والصحفيين عراقيون والضحايا عراقيون أيضا، وهذا مما لا يسمح به أبدا من وجهة نظري، ولا أقول شيئا معيبا أو مخلا بالحريات إنما هو امر متعارف عليه في كل مكان في العالم، ففي العالم الديمقراطي، وهو مثالنا هنا، لا وجود لحريات صحفية وإعلامية تطال أو تهدد السلم الاجتماعي، أو أمن الناس، بأية صور كانت، فضلا عن صيانة وتدعيم الأمن الوطني، بل لا يسمح بكلمة واحدة تعد من قبيل العنصرية أو تفسر على أنها طائفية، أو تتعلق بالتمييز مهما كان نوعه أوجنسه، ويحضر في وسائل الاعلام تماما الترويج للخارجين عن القانون من أية فئة كانت. وفضلا عن القانون هنالك قيم أدبية راعية وضامنة، ويستمد حتى القانون لغته وصياغاته من متونها. ولكن من أين لنا هذه القيم الأدبية الراقية لتكون قيما راعية وضامنة للاعلام من الترويج لحمام الدم، وللقتلة، أو لسراق المال العام، ومن أين لها أن تكون كاشفا حقيقيا لعبودية المال، أو للطائفية البغيضة، أو للتمييز بكل أشكاله، أو فاضحة للكتابات التي تفوح منها رائحة العنصرية، وسياسات الكراهية بكل صورها، أو محذرة من التعصب السياسي والاجتماعي الأعمى، ومن الشوفينية المرذولة التي تنخر بمجتمعنا نخرا. أمام هذا اليأس والعجز الكامل، لا يحضرني هنا إلا بول فيرليو والذي ذكرته في بداية مقالتي، والذي أشاركه أيضا كراهيته الشديدة للإعلام حينما يتحول إلى وسيلة من وسائل الدمار الشامل، حيث اختص بفكرتين أساسيتين في فلسفته المذهلة عن سياسات السرعة في المجتمع المعاصر، وهي فكرة "التلاشي المحض" وفكرة "ترقب الحدث الكلي"، وأنا أرى اليوم –حزينا وقانطا-أن العراق دون قيم أخلاقية ضامنة وحاضنة هو مجتمع التلاشي، ووجوه الناس فيه باهتة ومصفرة وهي ترقب القيامة أو الحدث الكلي. |