علي الشوك: أنا كائن نثري ولا أتذوق شعر السياب ومحمود درويش وأدونيس |
المقاله تحت باب مقالات و حوارات حوار:
الحوار مع علي الشوك يفتح سجلات الثقافة العراقية على زمن يبدو الآن بعيدا، لا بحكم انتهاء فترة الخمسينيات الخصبة من تاريخ العراق الأدبي،الذي يمثل الشوك مزاجها واهتماماتها، بل لأن الذي حصل في العقود الاخيرة من عمر الثقافة العراقية، يحسب على انقطاع مع تلك الثقافة سوسيولوجيا ومعرفيا. من هنا تبدو كتابات علي الشوك، وكأنها تسعيد تلك الأزمنة الراحلة، حيث المثقف الذي يصل العلم بالأدب، وتتشعب اهتماماته، ويرى نفسه عبر المطالعات، مواطنا عالميا لا تعنيه كثيرا الهوية المحلية كما يقول الشوك في كل لقاء جمعنا.
علي الشوك الموسوعي الذي خاض في مواضيع العلم والأدب واللغة والموسيقى والتراث العربي والحضارات القديمة، وبكفاءة واقتدار، يبدو نموذجا للمثقف الفرداني، الذي لم يهبط أدبه إلى أرض الجماهير، فكتاباته تدور في أفلاك المقاربات الجمالية والمعرفية، وتظهر عزلة المثقف وانقطاعه عن الناس. ولكنه كان في الوقت نفسه مساهما فاعلا في تحديد اتجاهات ثقافة الخمسينيات بحكم اشرافه على المجلات التي أصدرها اتحاد الأدباء، وبينها مجلة "المثقف العراقي" الذي كان محررها الأول. كنت أقول له ما الذي دفعك الى كتابة الرواية؟ فأجابني بطيبة شيخ لم يعد يخاف من أسراره : انه الحب، خضت تجربتي حب وانا في سن متأخرة نسبياً، لم تكن المرأتان عراقيتين،الاولى ألمانية والثانية عربية. وجدت نفسي أحاول استرجاع بطلات الروايات اللواتي عشقتهن. نعم كنت أبحث عن ماتيلدا ستاندال في "الأحمر والاسود" تلك المرأة التي تملك جمالا ارستقراطيا، بكبريائها ورقتها وانكسارتها. وكم سحرتني آنا كرنينا العاشقة والمعشوقة. الكثير من الشخصيات النسائية التي صورها الروائيون الغربيون، عشت من خلالها ولعا بالرواية. ان تحب هو ان تكتشف في الاخر قيمة العاطفة والتواصل الروحي، هكذا حاولت تجسيد تلك الشخصيات التي عشقتها في روايتي الأخيرة "فتاة من طراز خاص". عندما انتهيت من كتابة الرواية سقطت في فراغ كبير، لهذا انا الآن أحاول استئنافها. لا أعرف كيف أفسر عشقي للرواية، فأنا دخلت الأدب من باب العلم، باب الرياضيات، ولكن الأدب رافقني أيام دراستي الأولى في الجامعة الاميركية ببيروت، ولم تصرفني دراسة الهندسة المعمارية عن مطالعة النتاج الأدبي، بيد انني كنت أشعر أن أسلوبي لا يساعدني على الكتابة. غير أن الرواية استهوتني أكثر من غيرها، ولكنها بقيت عصية عليّ. الرواية هي المرأة وعوالمها، وعندما اقتربت من هذا العالم وجدتني بحاجة إلى استعادته روائيا. أشعر الآن أنني أضعت وقتاً ثميناً في حياتي كان من الممكن أن أوظفه على نحو أفضل درست الرياضيات في جامعة بيركلي في الولايات المتحدة، ما الذي غيرت فيك سنوات الدراسة، وما هو تأثير الحياة والأدب الأميركي على خياراتك اللاحقة؟ = كانت بيركلي واحدة من أفضل الجامعات في أميركا من حيث مستواها العلمي وما توفره من مناخ ثقافي. فهناك نواد للثقافة والسينما ، تحاضر فيها شخصيات مرموقة، وتعرض فيها افضل نتاجات العالم السينمائية. اتذكر انني استمعت الى محاضرات لنهرو وتوماس مان، وحضرت فيلم انزشتاين النادر عن المكسيك، وفيه يسرد قصة اضطهاد الهنود الحمر. عندما عدت الى العراق كنت أختزن هذه الثقافة واستطيع أن أقول ان كتابي "الأطروحة الفنتازية " كتاب أميركي الروح، لايعتمد على فخامة الأسلوب، بل على بساطته، ويتميز بالخفة على الرغم من موضوعه العلمي الجدي. كتبت في علم اشتقاق الكلمات، واللغة كأداة للتواصل، كيف اتجهت الى هذا الميدان؟ = جاءت كتاباتي نتيجة قراءات استدرجتني إلى هذا الميدان، كنت قد قرأت كتابا لعبد الحق فاضل لقي وقت صدوره رواجا وعنوانه " مغامرات لغوية" وفيها يرى أن العربية أمّ الألمانية، وصدر كتاب آخر لكاتب رصين مثل لويس عوض عنوانه "فقه اللغة" يحاول ان يثبت العكس فالعربية بتصوره تابعة الى اللغات الهندو اوروبية.. في ذلك الوقت كنت أطالع في مكتبة المتحف العراقي وابحث في القواميس السومرية والأكادية، وسواها من اللغات القديمة، بدأت الاحظ أن تلك الكتابات التي تحاول أن تلوي عنق الحقائق اللغوية هي أقرب إلى المآسي أو المهازل، فهي تنطلق من نزعة المباهاة، وهي نزعة تملكها الشعوب المتخلفة، العراقيون والمصريون والهنود، شديدو المباهاة بأنفسهم. على من يعالج اللغات عليه أن يدرسها بتجرد وموضوعية، تعلمت القراءات باليونانية واللاتينية والآرامية، ودخلت في عالم الاشتقاقات اللغوية الحافل بالمفارقات، كان النظام البعثي وقتها قد أجبر عالما جليلا مثل طه باقر على رد اللغات القديمة إلى أصول عربية. اكتشفت خلال دراستي أن كلمة " شجرة" لا يمكن أن تكون عربية، ففي اللغات السامية لا توجد كلمة "شجرة" وبعد بحث ومقارنة وجدت الأصل في اليونانية "سكارس" وأكاد أجزم ان تلك الكلمة تعود الى هذا الأصل. بدأت بتأليف كتاب عنوانه " الجذور المشتركة بين اللغات الحامية والسامية واللغات الهندو أوروبية" ودفعته للطبع عبر وزارة الثقافة والارشاد في العراق، فاحتجوا على ما توصلت إليه من نتائج، وطلبوا مني تغيير اتجاهه، ولكني رفضت وسحبته من النشر. تابعت دراستي في الخارج واعانتني المكتبة الشرقية ببودابست، اضافة الى مطالعاتي في كتب علوم اشتقاق اللغات بالانكليزية ولعلماء كبار مثل برنار ومايكل أستور. ولكني لم أنشر كتابي الذي ألفته عندما كنت في العراق، لحين ما فتحت لي مجلة " الكرمل" صفحاتها التي نشرت فيها دراسات تجاوزت بعضها الاربعين صفحة، وكان محمود درويش يعدها من بين مواد مجلته المهمة. أثمر تنقيبي في اشتقاق الكلمات إلى نتائج أحسبها مفيدة، على سبيل المثال أرجعت كلمة "الهلهولة" أي الزغرودة بالعامية، الى أصولها السومرية والبابلية، حيث انتقلت الى اللفظ اللاتيني واليوناني، من هنا اشتق القداس المسيحي " الهلولويا". بحث تفصيلي يعتمد على مفردة واحدة " ألولو" التي تزغرد فيها نساء العرب. استهوتني رحلة الاقوام وانتقال اللغات، ولهذا انا أميل إلى ارجاع أصل الهنود الأوروبيين إلى شمال سورية، بعد بحوث مستفيضة عن زراعة القمح وانتقالها بين الاقوام. في النهاية، ورغم كل الجهد الذي بذلته، أحسب نفسي طارئا على هذا الموضوع، فقررت أن أتوقف عن الكتابة فيه ، رغم انني موقن بأن كل ما كتبته هو علمي وصحيح. لنتحدث عن بحوثك في الموسيقى، هل اتتك بحكم إدمانك على سماع الموسيقى الكلاسيكية؟ = أصل اهتمامي بالموسيقى يرجع إلى شبابي الأول ببغداد، كنا نشتري في الأربعينيات من مخازن سيروب واسكندريان اسطوانات لبيتهوفن وباخ وموزارت وجايكوفسكي وفاغنر، وسواهم من المؤلفين الكبار. انتقلت هذه الهواية معي عند رحيلي إلى أميركا، فدرستها في معهد أكاديمي ومن خلال دورتين اطلعت من خلالهما على جوانبها النظرية. بقيت مواظبا إلى اليوم على سماع الموسيقى الكلاسيكية كل يوم وتقريبا طوال النهار، ما لا يقل عن عشر ساعات، كما واظبت على قراءة ما يتعلق بها من مستجدات. وجدت في مجلة "الكرمل" فرصة لنشر بحوثي التي جمعتها في كتابي "أسرار الموسيقى" واعتبره من أفضل كتبي. تشكل الموسيقى العنصر الأبرز في مسيرتي، فهي تدخل في فكري وحياتي الشخصية ومزاجي وثقافتي وكتاباتي، حتى الروائية منها. كنت في الخمسينيات ناشطا سياسيا، ومؤمنا بالفكر الماركسي، شأنك شأن الكثير من المثقفين العراقيين في تلك الحقبة. الا يتعارض أسلوب حياتكم واهتماماتكم مع الفكر الجماهيري الذي كنتم تؤمنون به؟ = ربما يذكرني حالنا هذا بالمثقفين الروس، وما عانوه من ازدواجية. أنا شخصيا أختلف عن بقية الأصدقاء، لأنني لم أكتب للجماهير ولا عنها، كل ما نشرته هو للنخبة المثقفة، بل إلى اليوم أنا أكتب لنفسي. نعم كنت مسؤولا حزبيا، ولكني لم أشتغل في المجال الجماهيري، ولم أشترك في مظاهرة، ولم انخرط في ميدان التوعية. انتميت إلى الماركسية عن طريق القراءة، و كنت على قناعة بأن هناك الكثير من العيوب في الحياة والماركسية تشكل خلاصا. وفي دخيلتي لم أكن يوما مقتنعا بانتصارها. الرأسمالية جبارة ولن تكون الافكار المثالية قادرة على دحرها. في كل الأحوال، اشعر الآن أنني أضعت وقتا ثمينا في حياتي كان من الممكن أن أوظفه على نحو أفضل. لماذا لم تكتب الشعر، وهل ربطتك بشعراء مرحلتك مثل السياب والبياتي روابط حميمية؟ = أنا كائن نثري، ولا أتذوق كثيرا شعر السياب والبياتي، حتى شعر أدونيس ومحمود درويش لا أجد بنفسي الرغبة في قراءته، رغم انني مؤمن بأن العرب يكتبون شعرا أفضل من الأوروبيين، وعدا بعض قصائد لسعدي يوسف لا أقرأ الشعر او أتعاطاه. الجواهري، هل التقيت به؟ = هو الذي رشحني الى اتحاد الادباء عندما كان رئيسه في الخمسينيات، واعتبره شاعرا كلاسيكيا ممتازا، ولكنني أحبه في بيت واحد : أنا عندي من الأسى جبل / يتمشى معي وينتقل" . التقيت به مرات، ويبقى في النهاية شاعرا تغتفر له كل عيوبه الشخصية. |