دكتاتور الرواية |
المقاله تحت باب مقالات و حوارات هل تستطيع المعرفة اليقينية ان تضيف شيئاً أو تتوقع أو تتنبأ؟ على هذا السؤال أجاب موريس بلانشو ـ نقلا عن عبد السلام بنعبد العالي في:" ميثولوجيا الواقع" ـ بكثير من التحفظ. لو كان الأمر يبلغ اليقين لما تعلق بانعراج ـ منعطف ـ ذلك ان الانعراج" لابد وان يطال أساسا، وبالدرجة الاولى، يقين المعرفة" لأن المعرفة اليقينية لا تستبق بل تتذكر ولا تنتج بل تستعيد ولاتخلق نموذجها، إنما تستدعيه: هي اذن أبعد ما تكون عن المعرفة أو بتعبير أكثر شفافية ليست معرفة عن الآتي كما تخبر ولكنها معرفة عن معروف ونموذج ومثال. هي بكلام آخر: نسج وليس استباقاً.
في مقال الكاتب عباس بيضون المنشور في منابر كثيرة(دكتاتور الرواية العربية) ما يبرر هذه المقدمة وقد لا يبررها لأننا لا نريد أن نقع في خطأ نرفضه، خطأ النموذج الجاهز، الى خطأ نرتبكه في سياق كتابة سريعة تحت الحاح الوقت وجموح اللغة. مقال بيضون يتعرض للرواية العربية في تعاملها مع موضوعة الدكتاتور العربي ويذكر في الاستهلال ثلاثة نماذج روائية عالمية كنماذج للمقايسة وللعمل ايضا في تشريع شبه فقهي: هذه النماذج كما وردت حسب تسلسل الكاتب هي: رواية حفلة التيس لماريا فارغاس يوسا، وخريف البطريرك غابريل ماركيز، والرواية الثالثة هي السيد الرئيس التي ينسبها خطأ الى الروائي المكسيكي كارلوس فوينتس الذي يقول عنه كمؤلف لرواية السيد الرئيس( الذي لا يقل عنهما وزنا رغم ان كاتبها لم يحصل على نوبل) وفي حقيقة الأمر ان رواية السيد الرئيس هي للروائي الغواتمالي الشهير ميغل انخيل أوسترياس وهو حاصل على جائزة نوبل، وكنا سنقبل بهذا الخطأ او الالتباس لو كان التشابه بين الاسمين قريبا أو في بلد واحد اضافة الى كون هذه الرواية أقدم من خريف البطريرك ومن حفلة التيس. كارلوس فوينتس هو روائي ومفكر ومثقف مكسيكي شهير ومن وجوه تلك القارة وصاحب المواقف الصاخبة المعادية للدكتاتوريات والرأسمالية والحروب وقد نشر كتابا خاصا عن الرئيس الأمريكي السابق بعنوان( ضد بوش) واخر رواياته المترجمة الى العربية هي( كرسي النسر) وتتعرض لمجموعة من السياسيين الذين يعملون في النصب والاحتيال والسياسة والمال بوسائل مختلفة للوصول الى السلطة أو كرسي النسر، اي كرسي الدكتاتور، ولكن عبر تحليل دقيق وشامل وموسوعي لتاريخ العالم الحديث وطرق الهيمنة: إن الروائي المكسيكي كارلوس فوينتس والشاعر والراهب والصوفي والانقلابي الأحمر النيكاراغوي ارنستو كاردينال والروائي الارجنتيني أرنستو ساباتا والروائي البروفي ماريا فارغاس يوسا والغواتمالي أوسترياس والكولومبي ماركيز ليسوا مجرد روائيين أو شعراء بل هم مجموعة من المثقفين المنخرطين العاملين في العمل الفكري والسياسي والثقافي من مناطق التزام مختلفة عن الالتزام السياسي المعروف. لكن هذا الالتباس في الاسماء أو ما يمكن أن يسمى كذلك لأن الالتباس لا يعني سوء الفهم في كثير من الأحيان بل قد يعني مستوى فهم، لا يطال فوانتيس ـ كما ورد في المقال على هذه الصورة وهو فوينتس ـ بل يمضي أبعد من الخطأ أو السهو الذي يمكن تبريره بسهولة الى تصور بيضون عن الدكتاتور وكيف يجب أن تتعامل معه الرواية العربية. يفسر بيضون موقف الرواية العربية من موضوعة الدكتاتور على انه شرح للمظالم والهتك والاجهزة والاليات والقتل والتدمير والخ (دون أن يتساءل ـ الروائي ـ عما خلف ذلك وما يفسره، أي ان عسف الحاكم وجنونه ليس سوى" واقع" بحت لا يخفي سرا ولا يحتاج الى تحقيق). إننا، يقول الكاتب، نعرف الكثير عن مظالم الدكتاتوريات العربية ولكننا لا نعرف الا القليل عن الجهاز الحاكم وآلة السلطة :(وتسرباتها الى المجتمع والاقتصاد والثقافة وعن نطاقاتها العائلية والطائفية والطبقية، يضيف بيضون، ذلك يعني أن المظالم بالنسبة لنا مجرد فظائع وليست أحداثا سياسية). ويقترح الكاتب نموذج يوسا وماركيز ـ لم يعد يتطرق الى رواية السيد الرئيس ـ كنماذج لرواية الدكتاتور لأنها:(ليست احصائية فظائع، إنها قبل كل شيء تظهر السلطة في خفائها وتجليها، إنها الدخول الى حصن القوة، الى نواتها الاساسية، الى سحرها وشطحاتها وحماقاتها الخ). وليس هناك، يقول الكاتب، سوى رواية عربية واحدة هي عالم صدام حسين التي تموّه اسم كاتبها ولم يعد لها ثانية رغم ان الرواية هي جزء اول الخ. من دون أن يقول لنا الكاتب مرة أخرى شيئا عن هذه الرواية وكيف تعرضت للدكتاتور وفي اية طبعة قال الكاتب انها جزء اول كما لو ان هذا النموذج العربي لا يصلح كمشروع عمل ورؤية عكس ما حصل مع ماركيز وماريا. اذن دعوة عباس بيضون واضحة للروائي العربي من دون مواربة بل هو يقترح نماذج من الرواية الامريكية اللاتينية على الرواية العربية أن تنسج على منوالها وفي هذه الدعوة خرق لمبدأ جوهري في الادب والفن والمعرفة لانظن ان الكاتب لا يعرفه وهو ان النموذج الروائي والفني لا ينسج على منوال بل يتشكل خلال العمل وان فكرة العمل على نموذج هو مبدأ الدكتاتوريات السياسية في الأساس: اي ان الكاتب يقترح رواية تتعرض لفضح الدكتاتور بعقلية دكتاتورية نقدية سلطوية بالمعنى المعرفي وليس السياسي لأن النموذج هو فرض وشرط، والنقد هو قوة عبر اللغة، ولا توجد سلطة في العالم بلا لغة كما هو معروف. الغريب ان رواية ماركيز خريف البطريرك التي يقترحها الكاتب كنموذج لرواية الدكتاتور هي رواية " غير مقروءة" في أمريكا اللاتينية بسبب صعوبتها التقنية وتداخل مستويات السرد والأزمنة والبناء الروائي المعقد حتى ان ماركيز نفسه أقر بهذه الصعوبة ولم تلق رواجا حتى في طبعات شعبية رخيصة وهي رواية نخبوية بامتياز والأكثر غرابة من ذلك ان رواية ماركيز هذه لم تتحول الى نموذج في تلك القارة وفي كولومبيا نفسها وكل ما أخذوه منها ومن غيرها هو الشعلة واللهب والأفق والمبادرة والأمكنة المجهولة والمغامرة وعنصر الصدمة والخلخلة والتشرد السردي واللعب الحكائي والتمرد على النص ولا نهائية الأعماق الانسانية وتعدد مستويات السرد والرؤية مع ان هذه الرواية لم تكن كما تصور بيضون دخولا في آليات عمل الدكتاتور وشطحاته وتهريجاته وفضائحه وعالمه الداخلي المشوه بل كانت أعمق من هذا التسطيح بكثير الى التوغل في عمل الحواشي والاطراف والقوى والمجتمع والاساطير الداعمة والساندة والحاضنة للدكتاتور نفسه. الأمر نفسه ينطبق على رواية حفلة التيس لماريا فارغاس يوسا التي كانت تفكيكا لبنية الدكتاتورية وليس الدكتاتور وحده لأن هذا يتفرع ويتمدد ويتعدد ويغوص في عمق التاريخ والسياسة والاقتصاد والثقافة مع انها تقوم على حبكة بوليسية متوترة هي حادثة اغتيال دكتاتور الدومنكان التي نظمتها المخابرات الأمريكية نفسها بعد نهاية صلاحية الجنرال العميل والمأجور رفائيل تريخيو، في حين تنفتح رواية السيد الرئيس لميغيل أوسترياس على عالم الدكتاتور من أفق أوسع وأرحب وأكثر رصانة وسعة. السيد عباس بيضون في نماذجه المقترحة وهي نماذج مقترحة في مئات المقالات من قبل، وربما يفسر هذا عدم دخول الكاتب في تفاصيل تلك الروايات والخلط بين كتابها أو بسبب القراءة الشفوية التي أدمن عليها الناقد العربي كتعويض عن قراءة حقيقية في زمن السرعة، يقدم لنا نموذجا في القراءة النقدية المعروفة والسائدة وهي قراءة سلفية غير بعيدة عن السلفيات الأخرى لأنها بناء على نماذج أو زمن سابق أو مغامرة مثالية في حين ان الرواية هي مغامرة تتشكل في وخلال العمل وليس قبله، لا تتأسس في الاقتراح بل في الخيال. العمل على نموذج هو من آليات السلطة بالمعنى الذي يعرفه الكاتب جيداً ولا توجد سلطة دكتاتورية في العالم من قبل ومن بعد من دون تقديم النموذج والعمل على ترسيخه سواء بقوة السلطة أو سلطة اللغة. عادة ما تقترح الدكتاتورية على الروائي حكايتها هي وروايتها هي كما حدث في العراق وحين لا يتحقق هذا في الرواية، اي حين تفشل السلطة في العثور على نموذج روائي مناسب، تقوم هي، عبر الدكتاتور نفسه، برواية حكاية السلطة وليست سلطة الحكاية، اي تقوم بوضع النموذج المطلوب. في هذه الحالة يعمل الدكتاتور على السيطرة على الواقع بالقوة المباشرة وعلى الخيال بقوة اللغة ولا مفر للناس في الحالتين الا بالانفصام عن الواقع وعن الخيال لأنهما محجوزان لحكاية واحدة كالمكان والزمان: ليس غير الانفصام والبارانويا والشطح وشرب الكولونيا في السجون وضرب الجسد بالرصاص للتملص من الحرب وضرب الحيطان بالرأس، والرأس بالتاريخ، والتسكع في الجغرافية المحلية، والبحث عن ساحر أو مشعوذ أو عرّاف يخرج الدكتاتور الذي تلبس الجسد والخيال والتاريخ والنظرة والعقلية والذاكرة والحزب والمقهى والسرير والمائدة والسياسة والقاعة والمطبخ والأفق. الانفصال الحقيقي عن الدكتاتور ليس في موته فحسب لأن الموت الجسدي لا يلغي الوجود الرمزي والثقافي بل في الاقتراب من الذات الحاملة وتحليل عناصرها الداخلية، وكلما نقترب منه ومن الذات، نزداد بعداً عنه وننفصل انفصالاً معرفيا ونفسيا وصحيا. الهروب من الدكتاتور بالانكار والشتم والكراهية كالهروب من نار تلتهم الجسد: رواية الدكتاتورية وليس الدكتاتور وحده هي محاولة للتقرب لغرض الانفصال وهي مغامرة لا تقوم على نموذج نقدي دكتاتوري جاهز بل تؤسس نموذج المتاهة لأنها طريق بلا دليل: الرواية هي مغامرة السرد وليست سرد مغامرات بتعبير كلود سيمون. |