علي جعفر العلاق يبحث عن عشبة الوهم

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
27/10/2010 06:00 AM
GMT



عندما أصدر الشاعر العراقي علي جعفر العلاق (ديوانه) الأول «لا شيء يحدث لا أحد يجيء» عام 1973 بدا واضحاً أن قصيدته لم تنم في حاضنة الشعر الستيني الذي كان يومها في أوج حضوره وتأثيره على مستوى ما أبتكره من أساليب وما كان يقترحه من مضامين. كان واحداً من أهم أوجه الاختلاف الذي أظهرته قصيدة العلاق يتعلق بمفهوم اللغة لدى الشاعر وعلاقته بوظيفتها. فإن كانت لغته ذات صوت منخفض فإن لمعانها كان ساطعاً. وكان المعنى يسري في عروقها، يتنقل بخفة بين كلماتها، بل بين حروف تلك الكلمات لكن من غير ضجيج لافت. يجري الإيقاع كما لو أنه كان مطلوباً لذاته، فيتذوقه اللسان وتطرب له الأذن، وهو ما يضفي على فعل القراءة متعة تجعل البحث عن معنى أمراً جانبياً. شعر العلاق في بداياته كما في كل كتبه الشعرية اللاحقة (أصدر ثمانية كتب شعرية كان آخرها، هكذا قالت الريح عام 2008، اضافة الى عدد من كتب المختارات) يمزج الوصف بلوعة النظر إلى الجمال المهدد بالزوال. لا يستجيب إلا لما تحتاجه الكلمة من توتر يناسب رغبتها في خوض مغامرتها اللفظية وهي تتحول من معنى إلى آخر. هنالك تيه كثير تبدو الكلمة فيه كما لو أنها صنيعة برية لغوية تقع خارج المعجم المتداول. تقول ما يقوي هذيانها على فصاحته المتهالكة. سيكون على قارىء شعر بمثل هذا التمنع الإيجابي أن يتخلى موقتا عن الفهم ليتيح للنغم التسرب إلى نقاط معتمة من روحه. أتذكر أنني لطالما كررت أبياتاً بعينها من كتاب العلاق الأول من غير أن أكون معنياً بما يمكن أن تشير إليه من معنى. تقول تلك الأبيات: «وزع لغة الصبر علينا،/ جرب لغة البكائين/ الليل،/ شبابيك تهذي،/ وعصافير الفرحة طين».

الآن أصدر الشاعر مختارات جديدة من اشعاره بعنوان «عشبة الوهم» ضمن سلسلة آفاق عربية التي تصدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة في القاهرة تبدو تلك القصيدة بالنسبة لي مثل شراع لقارب مفقود لم يصل إلى الشاطىء. بحثت عنها ولم أجدها فشعرت بالأسى. كان ظلماً مني أن اختصر شاعراً بما اشتبك منه بتجربتي الشخصية، بكل ما تمثله من مزيج انفعالي وتعبيري. لا يحق لعاطفتي أن تكون ميزاناً. ولكن هل ينفع في الشغف بالشعر أن نبحث عن الحق؟ شعر العلاق يسمح بأية محاولة شخصية للاستيلاء الشخصي عليه. فهو لا يعنى بالأشياء موضوعياً. بل أنه ينقيها من الشوائب التي تجعلها مقيمة في الخارج. إنه يدسها في ضمير القارىء مثل لقى تم العثور عليها في لحظة إلهام. وكما أرى فإن العلاق وقد أدار ظهره لتقنيات القصيدة السائدة في العراق لحظة ظهوره قد اختار أن يكتب شعراً شخصياً تمتزج فيه العديد من العصور الشعرية العربية، فهناك في شعره رومانسية قريبة وهناك ما يشير إلى عبق عباسي بعيد. ايقاع قصيدته يخلي الطريق أمام الكثير من التكهنات التي تعيد الشعر إلى بصيرته الأولى، فعل انتشاء. يقول: «من أين جاءت/ هذه السيدة؟/ فحركت/ غدراننا الراكدة».

سيدة الفوضى تلك هي القصيدة تماماً. قصيدة العلاق ذاتها. القصيدة التي تعدي، لا لأنها لا تقول شيئاً بعينه، بل لأننا نكتشف بعد اختفائها أنها لم تقل الشيء الذي كنا ننتظره. سعادة ذلك الشعر انما تعبر عن صفاء سريرته وبراءته وتخليه عن أي ضرر يمكن أن يلحقه بقارئه. حمولة عاطفية تضيق بها اللغة المتاحة فتهرب إلى الخيال. ما يمكن أن يعبر عنه جسد القصيدة هو الأقل دائماً ازاء ما تثيره القصيدة من رؤى غائمة تأخذ القارىء مثل عاصفة بعيداً من حواسه المباشرة. هناك قصائد من العلاق، سحر قراءتها يمنع القارىء من البحث عن أسباب اعجابه بها. هناك قصيدة بعنوان «جرس» من كتاب «ممالك ضائعة» تقول: «فاح/ فأيقظ ماء الليل/ وضجت هائجة،/ غبراء،/ خيول الروح/ جرس/ من مطر؟ أغنية/ من تفاح/ أم سيدة/ تشرق من حجر/ مجروح؟».

غالباً ما يهتم العلاق بتدوير جملته الشعرية، فهي لا تنتهي بالسطر الذي تبدأ به، بل تتنفس هواء السطور التي تتابع لتشكل جملة واحدة، جملة تتماهى مع نغم يطلع منها ليستولي عليها. نغم يرفعها من مستوى سلمها اللغوي الغائي إلى مستوى سلمها اللغوي المبعثر بين تجلياته. غموض الموسيقى يلتهم كل وضوح. حينها يصبح الوصول هدفاً ثانوياً. غير أن الشاعر حين يصل إلى بلده الجريح فإنه يقول كلاماً مختلفاً في درجة وضوحه. يقول كلاماً جارحاً لا يستثني التاريخ من لعنته. يقول: «منذ أن كان كلكامش عشبة/ منذ أن خلقت بابل لغة/ للحنين وللموت، كنا معاً/ نتقلب ما بين ليل وليل». يكفي دلالة على ما نقول ان الجملة التي ينتهي بها كتاب المختارات هذا هي: «للخراب أو البركة؟».