المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
18/10/2010 06:00 AM GMT
حوار: ثمة انحسار في الثقافة المعمارية، وهذا الانحسار فاجع حقاً،انه انعكاس لما يحدث في الخطاب الثقافي بصورة عامة. ان غياب النكهة المحلية في المشاريع المصممة، واعتقد ان حضور تلك النكهة، او غيابها، رهن بمقاربة المعمار المصمم، وخياراته الحرة في اصطفاء اتجاهه المهني. هذا مايراه المهندس المعماري والباحث في شؤون العمارة الدكتور خالد السلطاني في الحوار الذي اجرته معه صحيفة المدى.
ذكرت في كتابك (عمارة ومعماريون)، إن العمارة هي نتاج امتزاج العلم والفن.. نتساءل عن تصورك للمفهوم، بوصفه يـتأرجح بين تقنية العلم وآفاق المخيلة الإنسانية. - نعم هذا صحيح، العمارة ناتج امتزاج العلم والفن. من هنا تتبدى فرادة هذا الجنس الابداعي وصعوبته في آن، فهو وان اعتمد على العلم ومبادئه الواضحة والثابتة من جانب، لكنه ايضا يتكئ على المخيلة الواسعة التى يتيحها الفن، وهذا الامتزاج غير العادي في مفهوم العمارة، هو الذي يطبع العمارة بطابع خاص. ولهذا فانها تجمع ما لا يمكن جمعه. انها كما قلت مرة، " الصيف والشتاء على سطح واحد!". واعتقد ان هذه الخاصية التى تسم العمارة تجعل منها جنساً ابداعياً عابرا للتقصيات الواقعية والملموسة المشغول بها العلم، في الوقت الذي تجمح تصورات المخيلة الفنية وشرودها في عوالم متخيلة وغير واقعية. ولهذا فان المعمار الكف عليه الاطلاع على معارف متنوعة وعديدة، تتطلبها خصوصية المهنة التى نتحدث عنها.
نبدأ من حيث ضرورة تكريس ثقافة معمارية، نجد إنها بانحسار رغم المنجز المعماري الواضح على يد مبدعي هذا الفن بمختلف أجيالهم وعلى مدى مراحل تاريخية مختلفة .. ما تعليقك على ذلك؟. - نعم، ثمة انحسار في الثقافة المعمارية. وهذا الانحسار فاجع حقاً. انه، يا صديقي، انعكاس لما يحدث في الخطاب الثقافي بصورة عامة. فغياب الطبقة الوسطى ومبدعيها، وتغييبهم القسري عن المشهد، هو الذي أفضى وسيفضي الى ذلك الانحسار المعيب، ليس في الشأن المعماري، وانما فيما يخص الهم الثقافي بعامة. وتأثير هذا الانحسار، (او عدم المبالاة، اذا شئت)، لهو تأثير مزدوج، فهو من ناحية، يقود الى افقار المنجز الثقافي بعدم الاكتراث به وبعدم متابعته، ومن ناحية أخرى، يتيح وجود مثل هذا الانحسار او عدم المبالاة، الى تمرير الرديء في المنتج المعماري، وعدم قراءته نقديا او تبيان قيمته السلبية. وبمرور الوقت، سيقصي الرديء من العمارة جيدها، تماماً، مثلما تشير المقولة الاقتصادية إلى "إن العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة!". لقد عمل كثر من المعماريين العراقيين المجتهدين على غياب الاهتمام بمنجزهم. ولنا ان نتصور لو ان حركة نقدية جادة واكبت اعمالهم، لكانت تلك الأعمال اكثر بريقاً، وأعمق تأثيراً في الممارسة المعمارية المحلية. الممارسة التى حققت مع ذلك الانحسار النقدي، نجاحات مرموقة اجترحتها اجيال عديدة من المعماريين العراقيين.
من هنا نرى انك تكاد تنفرد في هذا الميدان في توظيف معارفك بالعمارة من خلال بحوثك في خلق وعي وذائقة للجمهور في هذا الفن.. إلى أي مدى نحن بحاجة إلى إشاعة الوعي بأهمية وخطورة هذا الجنس المعرفي المهم. - شكرا على اهتمامك بما اكتب. والحقيقة فاني، ومعي كثر من الزملاء المهنيين المعنيين بالشأن المعماري، نحاول جهد الإمكان توسيع مدارات الاهتمام بالعمارة، فالعمارة، كما تعرف، متواجدة في جميع الأنشطة والفعاليات التى نجريها في الحياة. انها حاضرة في السكن، وفي فضاءات العمل، وفي مناطق الترويح، فضلا عن إننا نلتقي بها في الأبنية الصحية والثقافية والدينية الخ..؛ من هنا تنبع الأهمية العالية التى أراها في إدراك جمهور عريض لهذة الفعالية بجوانبها المتعددة. إن المعرفة بالعمارة وإمكانات نقدها من قبل مستغليها، يوفران مناخات صحية لتقييمها، وبالتالي تحسين أدائها، فضلا عن ان انتشار الوعي بالعمارة يثري ثقافة الإنسان، ويضيف إلى خزينه المعرفي دراية جديدة. وهذا هو ما كرست له جهدي المهني والشخصي. فانا ، كما تعرف، "معلم"، ومهنتي وواجبي يحتمان عليّ عدم اقتصار نشاطي على طلبة الجامعة، وإنما يحثاني على توسيع دائرة المتلقين. واعتقد بان ذلك لا يخرج كثيرا عن متطلبات مهنتي واهتماماتي. لكني، اعترف لك، باني، أساساً، محب للعمارة؛ ومهتم بقضاياها. كما ما زلت أؤمن بان نشر الثقافة المعمارية هو مشروعي المهني وحتى الشخصي، وأسعى وراء تحقيقه بكل السبل المتاحة، ومن كل الأمكنة التى أتواجد بها. كما ما انفككت أثق بان شيوع الثقافة المعمارية، يغني الخطاب الثقافي، ويثري المهنة في آن واحد.
كنت قد أشرت في ندوة لك مع عدد من المعماريين إلى ظاهرة تتمثل في الصمت الملازم للإبداعات والنتاجات المعمارية، إن كان في الأعمال الرديئة أو ذات القيمة العالية.. ما الذي ترمي إليه بالضبط؟ -اعتقد ان جواب سؤالك هذا، يكمن جزء منه في اجابتي عن السؤال السابق. والصمت الذي اشرت اليه ازاء المنتج المعماري، ينتج عنه عدم اهتمام بما تحقق؛ سواء كان المتحقق عمارة رديئة ام ذات قيمة عالية. ففي كلا الحالين، علينا التنبيه الى ما يجري، قائلين كلمتنا فيه بموضوعية، ليتسنى تقويم العمل السلبي وحصره في مواقع محددة ومقننة، والاحتفاء بالايجابي والاتكاء عليه للسير قدماً نحو الامام، نحو عمارة مميزة، ذات قيمة، يمكن لها ان تثري المنتج المعماري المحلي، وبالتالي العالمي. والصمت، في هذه الأحوال، بمقدوره ان يحجب عنا امكانات التساؤل والمراجعة، وبالتالي يحرمنا من فرص التقدم ويجعلنا اسرى لتصوراتنا الذاتية، وهي غالبا ما تكون غير موضوعية، تجاه ما ننتج او نعمل.
إلى أي حد شكل التراث المعماري الشعبي في العراق معيناً للمعماريين الكبار لخلق نتاج معماري متقدم وللتعجيل بتطور هذا الفن؟. - شكراً على هذا السؤال، الذي اراه مهماً. اذ ان قضية التراث واشكالياته، اصبحت الآن من الامور التى تتداول بكثرة لدى البعض. وكأن التراث، هو المجال الاوحد لفضاء الممارسة المعمارية. وعليه ان يحضر، وفق رأي كثر، حضورا واجبا في جميع الممارسات المعمارية. وارى ان ثمة خلطأً معرفياً يجري في التعاطي مع اشكالية التراث ومفهومه. يتعين التفريق بين ضرورة الحفاظ على نماذج التراث المادي، (وانا اتكلم عن نماذج التراث المعماري تحديداً)، وبين امكانية توظيف التراث بصفته الاعتبارية، في الممارسة المعارية المعاصرة. لا جدال في وجوبية وضرورة حفظ التراث، وترميمه وتنشيطه واعادة استخدامه وغيرها من الامور التى يعرفها المهنيون جيدا. هذا امر مرحب به، وواجب. واجب الدولة وواجب منظمات المجتمع المدني ايضا. تبقى المسألة الآخرى، وهي عملية توظيف التراث او استخدامه تصميماً. وبما إن تلك العملية هي نشاط معرفي، فهي اذن، تتحمل تعددية في الفهم والادراك. وكما تعرف، فان الممارسة المعمارية تعتمد كثيرا على ما تم تحقيقه سابقاً. صحيح، ثمة انعطافات كبرى وتغييرات مفاجئة يمكن ان تتعرض لها العمارة في مسارها التطوري، بنقض ماهو شائع ومألوف، لكن هذا النقض مافتئ يظل بمثابة قطيعة ايبستيمولوجية، مردها خلق مناخات جديدة، تكون مؤهلة لاجتراح افكار غير عادية، تتطلع الى ترسيخ حضورها المميز في المشهد. لكن الشائع في الممارسة، وكما اشرت، هو تراكم الخبر مع تجنب الاخطاء في التجارب السابقة. ويعمل التراث المعماري، هنا بمثابة حاضنة معلوماتية، يمكن للمعمار ان يتفحصها ويعتمد عليها في صياغة افكار معمارية جديدة. بيد ان ذلك التفحص او الاعتماد، يتعين ان يكونا تحت خيمة "التأويل"، وليس نقلا حرفيا لما كان شائعا في السابق. وهنا في اعتقادي، يكمن جوهر اشكالية حضور التراث في العمل المعماري. لا يمكن، بالطبع تغاضي اوتجاهل كل ما تحقق معماريا وهندسيا وانشائيا في السابق، لكن فهم التراث المعماري، بانه "خزان" من الحلول التكوينية الجاهزة، الصالحة لكل زمان ومكان، هي تصورات غير عملية وبالتالي غير صحيحة، كما انها غير عقلانية ايضاً. والترويج لهذه الاطروحة بمثل هذه الصيغة الجامدة لفهم التراث، يدفع في النتيجة الى التخلي عن ايجاد حلول ناجعة ومقنعة للكثير من المشاكل التى نواجهها في الوقت الراهن، اذ انها تقود لا محالة، كما اشرت الى ذلك مرة، الى التخلي عن التحديث والاصلاح وتقصي فكر الحداثة، ومثل هذا الفهم او الادراك، يجد رواجا عند قوى ومصالح تتبنى افكارا وقيماً غارقة في ماضويتها وسلفيتها. من هنا، ارى، بان الموروث البنائي وقيمه، يمكن استدعاءهما فقط عبر عملية "التأويل" التى تمنح المنتج المعماري خصوصية الاحساس بالمكان وثقافته المميزة، وتجعله مفهوما وقريبا من مستخدميه ومتلقيه. وهذه المقاربة بمقدورها ان تغني، من دون شك، منجز الثقافة الانسانية وتوسع تنويعاته. بمعنى آخر، يتعين فهم التراث، عبر موشور التأويل، واعادة القراءة، ومساءلته ونقده وتجاوزه، حتى يمكن له ان يكون ذا اثر وذا فائدة للعمارة وللثقافة. وقد قدم رواد العمارة العراقية الحديثة، امثال الجادرجي وقحطان عوني والمدفعي ومحمد مكية وغيرهم من الرواد وبقية المعماريين العراقيين الاخرين كمعاذ الالوسي وساهر القيسي وياسر حكمت عبد المجيد، نماذج معمارية متميزة، تحضر في تكويناتها قيم التراث البنائي المحلي، ولكن قيم التراث المدركة بالتأويل، والمنظور اليها عبر استراتيجيات اعادة القراءة والمساءلة والتجاوز في بعض الحالات.
أثرت أكثر من مرة، قضية التشويه والابتذال الذي تتعرض له العمارة العراقية، بشكل يتجاوز إطارها المهني البحت، إلى كونها قضية شأن ثقافي بل ووطني. - نعم، إنها لقضية مؤلمة وحزينة، عندما تتعرض نماذج العمارة العراقية الى الاهمال والتشويه والتغيير التعسفي وحتى الازالة. واشعر بالأسى العميق لما وصلت اليه الحالة إياها، الحالة التي، اعتبر الاهتمام بها يتجاوز اطارها المهني، لتشكل قضية هم ثقافي وحتى وطني، نظرا لما تمثل تداعياتها السلبية من تشويه ومحو للذاكرة الجمعية. في كل دول العالم الفقيرة منها والغنية، ثمة اهتمام جدى يؤدي إلى الأثر الثقافي المادي، بضمنها العمارة. وهذا الاهتمام، هو اهتمام مشروع ومفهوم، ومطلوب؛ اذ ان الامر يتعلق بالارث الثقافي الواجب الحفاظ والبقاء، حتى يمكننا ، كما اشرت في اجابتي عن سؤال سابق، للسير قدما نحو الافضل والاحسن والاكثر فائدة وجمالا. بالاضافة طبعا الى ان المحافظة على تلك النماذج البنائية، مسوغة ثقافياً ومطلوبة مهنياً، كونها تجسد ذاكرة لمراحل تاريخية تخص انجازات ماضي البلد وشعبه، وهذه الذاكرة ستعمل جيداً وتؤثر عميقا، عندما تكون حاضرة دوما ومحافظاً عليها جيدا. وفي هذا الصدد تحضرني مقولة لرفعة الجادرجي، المعمار العراقي الرائد، عندما كتب مرة: " .. انني أؤمن بأن البناء الحضاري يؤلف النصف الأول في عملية الإنجاز، وأن النصف الثاني، وربما الأهم، هو صيانته والحفاظ عليه باعتباره من ذاكرة المجتمع وامتداداً لهذه الذاكرة في الزمن. واعتقد أن الشعب الذي لا يتمكن من صيانة إبداعه، هو شعب لا يمتلك ذاكرة يسخرها في المزيد من البناء الحضاري، بل لا يعي بأن الذاكرة هي أساس في تكوين وجدان المجتمع " . وهو قول لا يمكن للمرء، الا ان يتفق معه.
على هذا الأساس هل للمزاج الشعبوي كما وصفته انت والذي يحفل به المشهد العراقي الأن ما يسوغ ويديم ظاهرة التشويه هذه .. والنموذج الذي نتحدث عنه هو ما لحق بالحضرة الحسينية والعباسية من تشويه للإرث المعماري الراسخ في الذاكرة الجمعية. - آه، من هذا "المزاج"!. اللعنة عليه!.. اعرف انه طارئ وغريب على المشهد وسيزول قريبا، لكنه الان، مثير للقلق، انه مؤثر، وتأثيراته فاجعة وعميقة، والمحزن ايضا، شاملة. لقد شوه بابتذال مبانينا التى نعتز بها، والمصممة من قبل روادنا المعماريين، وانتهك حرمتها. لقد دعوته بـ "المزاج الشعبوي"، الممجد للابتذال والساخر من الحلول الجادة والمهنية، والمتهكم عليها وعلى اصحابها. انه يروج لحلول تبسيطية عادة ما تكون وهمية وكاذبة، للمشاكل المعقدة التى تواجه المجتمع. وهذا المزاج الشعبوي يتمثل معماريا في صيغة انحطاط في الذوق الفني، ويسعى وراء الاعلاء من شأن رموز شائعة ومتداولة بكثرة لدى فئات منحدرة، في الاغلب، من قاع المجتمع، والتبجح باظهارها باساليب فاضحة ومستفزة. وغالبا ما يحتفي هذا المزاج بالصدفوية ويتقبلها على حساب العمل المهني المحترف. وما نشاهده الان من تشويهات ظالمة وتغييرات مجحفة بحق نماذج العمارة العراقية، اثر رواج هذه الظاهرة، يجعلنا جميعا امام مسؤولياتنا الوطنية والثقافية والمهنية، في تبيان تبعاتها الكارثية، والعمل على الحد منها وايقافها ورفض ماترتب عنها. نراك تؤكد على غياب النكهة المحلية لمعظم المشاريع والتصاميم في العراق، رغم تميزها بالصدقية والجدية.. هل أنت مع الرأي الذي يذهب إلى اسر النتاج المعماري في المحلية وخصوصية الجغرافية؟. - لا، لم اؤكد غياب النكهة المحلية في المشاريع المصممة. واعتقد ان حضور تلك النكهة، او غيابها، رهن بمقاربة المعمار المصمم، وخياراته الحرة في اصطفاء اتجاهه المهني. بالعكس انا اطمح الى رؤية المنجز المعماري العراقي وهو زاخر بتعددية منهجية, هذا الامر يثريه، ويبعده من الوقوع في اسرى "دوغما" المحلية، او اية "دوغما" مهنية آخرى. كما اعتقد، ايضا وبعمق، ان حضور مقاربة النكهة المحلية في التصاميم، هي واحدة من مقاربات متعددة،(وليست الوحيدة)، التى يتيحها الخطاب المعماري المعاصر؛ الحافل، كما تعرف، بالتعددية والتنوع.
أليست مفارقة أن لا تحظى العمارة عندنا بالاهتمام، رغم إن العراق حافل بالأساطين والأسماء المعمارية المهمة في مختلف أجيالها؟. - إنها لمفارقة حقاً. وهي بالنسبة اليّ مفارقة مؤلمة، ان لا تحظى العمارة بالاهتمام. لقد عمل كثر من المثقفين على ترويج و"تسويق" منجزهم الثقافي. ونالوا، بشكل وبآخر، اعتراف المجتمع بحضورهم وأهميتهم. لكن المعماريين ظلوا مغيبين. اعترف بان علة هذا الغياب بشكل وبآخر، يتحمله المعماريون انفسهم. لكن ثقافة المجتمع وسلوكه مسؤولان بشكل اكبر عن ذلك الغياب. اذ كيف يمكن فهم انفاق الملايين من الدولارات ( هل اقول مليارات؟) على النشاط المعماري، المحدد لنوعية واساليب تنفيذ ابنية متنوعة الوظائف، ولا توجد "ميديا" كافية لتغطية هذا النشاط المهم والمكلف؟ كيف يمكن ذلك؟. فنحن لا نصدر كتباً كافية تتابع الحدث المعماري والعمراني. لا توجد لدينا مواقع الكترونية تهتم بهذا النشاط. بل لا توجد هيئة علمية (وليست نقابية) تتعاطي مع الشأن المعماري وقضاياه العلمية والمهنية. وتخلو ثقافتنا من وجود جوائز تهتم بالمنجز المعماري بكل تشعباته المتعددة. ومكتباتنا، بضمنها الاكاديمية، تخلو من المراجع المهمة ومن الإصدارات الحديثة، وتفتقر الى وجود الدوريات المتخصصة. نحن لا نعرف الكثير عن معماريينا، ولا عن منجزهم التصميمي. وبالكاد نعرف اسماء المعماريين الرواد، وحتى هؤلاء لا نكترث بهم وبشؤونهم. لا نعرف هل هم موجودون في البلد ام خارجه، واين يقيمون. هل هم احياء ام اموات؟ اين هي مبانيهم ،وماذا حصل لها؟ . هل ثمة جهات حكومية او مدنية ترعى منجزهم وابداعاتهم وتصونها وتحافظ عليها من التلف والتشويه والازالة؟ لكني بالطبع، لن استرسل كثيرا هنا، بطرح الشجون المعمارية؛ ذلك لاني اعرف بان مناشداتي للمسؤولين وتساؤلاتي هذه، المؤلمة والمحزنة لما وصلت اليه مكانة العمارة في مجتمعاتنا، ربما، الآن، هي "حرث في بحر". اعرف ذلك، واقرّ به. لكني مع هذا، ساسعى مع آخرين، وبكل جهدي، وراء مسعى انتشار العمارة وزيادة الاهتمام بها. سنحضّر مشاريع مدروسة ومقترحات نطرحها على الجميع: مسؤولين وغير مسؤولين، تنشد تحقيق تلك الامال وتزيد من شيوع المنجز المعماري في الخطاب الثقافي وفي المشهد. هذا وعد مني، وارجو ان تعاضدني انت، وغيرك من المثقفين ومسؤولي جريدكتم الغراء، التى لطالما تبنت مشاريع متنوعة مهمتها نشر الثقافة بكل اجناسها المتنوعة وسعت وراء تكريسها في الخطاب.
المسابقة المعمارية نهج دارج في مختلف دول العالم.. وهو ما نفتقده هنا في العراق.. هل أنت مع هذا النوع في تطور هذا الفن من خلال البحث عن الأفضل أم انك تراه تهميشا لجهد أعمال كثيرة إزاء عمل واحد فائز؟. - لا أرى، بالطبع، بان المسابقات المعمارية هي تهميش لجهد اعمال كثيرة، إزاء عمل واحد فائز، كما تقول. ليس الامر هكذا. فعملية التكليف، تعتمد اساسا على اسلوبين: اسلوب التوصية المباشرة، والآخر تنظيم مسابقات معمارية. وكلتا الحالتين امران شائعان ومطلوبان في الممارسة التصميمية. ولكل حالة ايجابياتها، وكذلك سلبياتها. واختيار احداها يعتمد على امور عديدة. لكن الامر الاكيد، وكما اشرت اليه، فان تنظيم المسابقات المعمارية هو تقليد متعارف عليه معمارياً، ويمكن ان يفضي الى نتائج باهرة وغير متوقعة.
في كتابك "تناص معماري" ، ثمة احتفاء بالآخر، ماذا يمثل لك، معماريا، الآخر المختلف؟ -اعتبر نفسي، من اولئك الذين يناصرون الإطروحة القائلة: بان <حضور الآخر في "انا" ـتنا، هو تكريس لوجود الذات>. من دون "آخر"، لا يمكن الكلام عن "الانا"؛ اوفي احسن الاحوال، تحديد معناها، ومعرفة انجازاتها ..واخفاقاتها. ومن دون ذلك طبعا، يصعب على المرء، ان "يرى" نفسه، ويقيـّم اعماله اويصححها. كما اني اعتقد بان حضور الآخر، وخصوصا في الثقافة، وتحديدا في العمارة، امر لابد منه، كي يمكن الاتكاء على خزين المعرفة الانسانية (المنتجة من قبل الآخر/ الآخرين)، والانطلاق بفعلنا المعماري نحو آفاق جديدة، بمقدورها ان تسّرع ايجاد حلول كفوءة لمشاكلنا العمرانية، وبالتالي تسهم في تحسين بيئتنا المبنية. وكتابي "تناص معماري" الصادر بدمشق عام 2007، (والذي سوف ينشر قريبا باشراف "مدرسة العمارة"، التابعة الى الاكاديمية الملكية الدانمركية للفنون، والتى ازورها في كوبنهاغن حالياً، بعد ان تمت ترجمته الى الانكليزية)، يتعاطى مع هذه الثيمة، الثيمة التى اراها مفيدة وضرورية واعتبرها آنية. فالآخر، مع الاسف، مغيب بشكل قسري في الثقافة العربية. ثمة تمركز ذاتي، تحاول بعض الجهات المتنفذة تكريسه في الخطاب بالغاء الآخر وعدم الاعتراف به وبمنجزاته واحيانا تحريم التعلم منه، بحجة مراعاة "الهوية" او الحفاظ على التقاليد والتراث، ذلك التراث الذي ينظر اليه بكونه "معطى" متكاملاً وثابتاً، لا يقبل الإضافة او المساءلة. وفي الكتاب محاولة لرصد رؤية الآخر المعماري (وتحديدا المعماريين الدانمركيين العاملين في منطقتنا العربية)، وكيفية تناولهم قيم ثقافتنا ومبادئ عمارتنا وبيئتنا عبر منظورهم الذي يتكئ على قيم ثقافتهم الخاصة. وبالنسبة اليّ، فاني اعّد تلك الرؤية بمثابة "حوار بين ثقافتين" يمكن عبره ان نرى عناصر عمارتنا، وقد اكتست بمفهوم جديد، من خلال قراءة الآخر تلك العناصر قراءة ايبستمولوجية، مضافا الى ذلك ما يمنحه ناتج تلك القراءة من اثراءات معرفية تضاف الى خزين الآخر نفسه. اي ان هذا الحوار مهم للطرفين المتحاورين ثقافيا، ومفيد أيضاً لهما مهنياً.
أراك تكثر الاستعارة والإحالة لمعماري عظيم مثل لوكوربوزيه.. ما مدى تأثرك به؟ - انا ممتن لك لسؤالك هذا؛ فاجابته تتيح لي ان اعبر عن اعتزازي واحترامي وشغفي بعمارة لو كوربوزيه: المعمار الحداثي الرائد، وفيلسوف العمارة ومنظرها الشهير. واعتقد ان نتاجه التصميمي سبق عصره بمراحل. فنحن لا نزال ننهل من فكره النير، ومن عمارته المتميزة، شديدة الرهافة، المفعمة بالحس الجمالي، والتى مابرحت تثيرنا وتمنحنا متعة كبيرة. وهي لهذا، فانها الان بمثابة مرجعية تصميمية للعديد من المعماريين الحداثيين او حتى ما بعد الحداثيين. وليس من دون دلالة، بان كثراً من المعماريين يعودون الى المنجز المعماري "الكربوزيوي" ويتفحصونه بقراءات متنوعة، وبمقاربات نقدية توفر لهم رؤية ذلك المنجز الثر من جديد. والمشهد المعماري العالمي الراهن، يعطينا برهانا واضحا لصدق ما نقوله؛ وهو ما يؤكد اهمية منجز ذلك الرجل، الذي علم نفسه العمارة بنفسه، والذي وقف الاكاديميون موقفا ظالما منه لهذا السبب، ولم يعترفوا بعمارته الجديدة المبهحة.
ما هي آخر مشاريعك المعمارية المبنية، وهل انت راضٍ عنها؟ - يتعين القول باني لم اصمم كثيرا، بسبب قوانين وتعليمات فرضها النظام الديكتاتوري السابق على المهنة وعلى المشتغلين بها. فبحكم ما كان يسمى "التفرغ الجامعي"، حرّم النظام على أساتذة الجامعة ممارسة العمل التطبيقي المهني. وهو أمر إضافة لكونه غير مبرر ولا عقلاني ولم يكم مهنيا على الاطلاق، فانه، ايضا، الحق أضراراً كثيرة وعميقة في الممارسة العملية، بخلاف جميع التقاليد الأكاديمية المتبعة في الجامعات الرصينة والداعية الى ضرورة مساهمة اساتذتها في النشاط المهني والتطبيقي. لكني مع هذا صممت. صممت في بلدي، وفي الاردن، التى عملت في جامعاتها، وكان ذلك آخر عمل تصميمي لي. اذ طلب مني ان اصمم بوابة لاحد الاقسام الدراسية، بالاضافة الى تنسيق فضاءات لساحة تجمع الطلبة. كان الموقع السابق للجامعة التى عملت بها ، وهي جامعة آل البيت بالمفرق، مخصص اساساً لثكنة عسكرية. وبالتالي لم تكن لا الابنية ولا التخطيط يتلاءمان مع المتطلبات الجامعية. كان ثمة نقص في امكنة تجمع الطلبة. وارتؤي ان يكون التصميم المقترح، متضمنا ايجاد حلول لتلك المعضلة. صممت البوابة على شكل "جسر" واستغللت المواقع على جانبي الجسر وتحته بالاضافة الى اعداد الساحة الواسعة ، كامكنة للقاء الطلبة ومكان تجمعهم واحاديثهم. ثمة احواض زهور عديدة وسواقي مياه ونوافير، جرى توظيفها بكثرة في المعالجات التصميمية، نظرا لأهميتها القصوى ورمزية حضورها في مناخ صحراوي، مثل مناخ المفرق. واصبحت البوابة مع ملحقاتها بعد التنفيذ ، المكان المحبب لجميع طلبة الجامعة، وبات، يوماً، شكل البوابة بمثابة "رمز" لابنية الجامعة. وقد تم افتتاحها من قبل ملك الاردن عبد الله الثاني عام 2000. لكني لم اشاهد، شخصيا، الموقع وهو "يشتغل" عمليا وبصورة متكاملة، اذ انتقلت الى جامعة أخرى؛ وبعدها غادرت الأردن نهائيا.
أخيراً ما هو تصورك لمستقبل العمارة في العراق؟ - على خلاف كثر، فاني متفائل بمستقبل العمارة بالعراق، واراه مشرقا وغنياً، وامل ان يكون متنوعاً. ذلك لان البلد يمتلك كل ما يمكن ان يجعل من تلك الامال المتفائلة واقعا ملموسا. انه يمتلك الكادر المهني الكفوء، والقدرة المالية على تحقيق مثل تلك المشاريع المستقبلية، بالاضافة الى امكانية زج كثر من المعماريين العالميين في هذه المهمة. وبما ان البلد يعيش حالة من"التصحر" المعماري الآن، وبنيته الاساسية متهرئة وضعيفة، فاني على ثقة بان العراق عن قريب سيشغل "العالم المعماري" بمشاريعه الضخمة، وتصاميمه المميزة والمتنوعة، وسيكون نشاطة العمراني والمعماري بؤرتي جذب للكثير من مكاتب الخبرة العالمية ومعماريها الكبار، مساهمة منهم في تسريع وتحقيق مهام تعمير البلد ونهضته، التى تأخرت كثيرا.
_______________________________
ببلوغرافيا
- ولد في الصويرة ، من أعمال واسط، في 9 / أيار 1941. - أكمل دراسته المعمارية عام 1966 من معهد موسكو المعماري مبعوثا من الحكومة العراقية . وأنهى دراسته العليا / الدكتوراه في المعهد نفسه عام 1973 . - عين في قسم العمارة / كلية الهندسة – جامعة بغداد بداية عام 1974 ولغاية 1996 عندما غادر العراق احتجاجاً على النظام التوتاليتاري . - عمل في الجامعات الأردنية من 1996 ولغاية 2000 ، وشغل مدير المعهد العالي للعمارة والفنون الإسلامية في جامعة آل البيت ، كما عمل أستاذاً في إحدى جامعات السودان . - مقيم في الدانمرك اعتبارا من عام 2002 ويعمل باحثاً في مدرسة العمارة /الأكاديمية الملكية الدانمركية للفنون في كوبنهاغن . - اشرف على رسائل جامعية عديدة في مرحلتي الدكتوراه والماجستير بالعراق والأردن . - صمم أعمالاً معمارية مختلفة الوظائف في العراق والأردن ، وحازت بعض أعماله على المراتب الأولى في المسابقات المعمارية.
- صدرت له الكتب التالية : - "حوار في العمارة"(1982 )، بغداد (سلسلة الموسوعة الصغيرة) . - "رؤى معمارية"(2000) بيروت /عمان (المؤسسة العربية للأبحاث والنشر). - "العمارة في العهد الأموي : الانجاز ..والتأويل" (2006) دمشق، (دار المدى). - "تناص معماري: تنويع على تطبيقات المفهوم"(2007)، دمشق (دار المدى). - "مئة عام من عمارة الحداثة"(2009)، دمشق (دار المدى). - "عمارة ومعماريون"(2009)، بغداد،(دار الشؤون الثقافية).
وله تحت الطبع: - " فعل العمارة... ونصها" بيروت. - " العمارة الحديثة في العراق : السنين التأسيسية ". - " منجز العمارة الإسلامية ".
|