المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
15/10/2010 06:00 AM GMT
«يبدو التاريخ العراقي حركة متعرجة في منعطف كبير ليس فيه من القطع إلا هنيهات قليلة لا تعد بعمر الزمن الثقافي». إنه تشخيص دقيق تسجله لنا الباحثة فاطمة المحسن في كتابها «تمثلات النهضة في ثقافة العراق الحديث». وهو يكشف، في الوقت نفسه، مقدار الجهد الكبير والرائد، الذي بذلته الباحثة، أكاديميا وزمنيا، في التقاط تموجات هذه الحركة، وإخضاعها للدرس والتحليل، وكشف البؤرة المركزية في مستويات الواقع المتداخلة، بل المتناقضة لحد التصادم، وتعبيراتها الثقافية، بالمعنى الشامل للكلمة، أي طرق التفكير والسلوك، والممارسية الاجتماعية، بالإضافة إلى القيم الجمالية والفنية. لقد كتب الكثير عن محاولات التحديث العراقي، وتحديدا في بداية القرن العشرين، وخاصة في أدبيات اليسار العراقي، الذي أسهم إسهاما فعالا في تلك المحاولات عبر رموزه الثقافية، مثل محمود أحمد السيد وحسين الرحال. ولكن هذه الكتابات ظلت متناثرة في مجلات ودوريات قلما يطلع عليها أحد سوى المختصين، كما أن الكتب التي تناولت هذا الموضوع، غالبا ما كانت تركز على تناول أحد جوانبه، مهملة الجوانب الأخرى، وبذلك افتقدنا الصورة الكلية لتلك السنوات العاصفة، ومقدماتها، ومساراتها، وبالتالي نتائجها. ومن هنا أهمية هذا الكتاب الجامع، الذي تجنب، في الوقت نفسه، مطبات التجميع والتعميم في كتب مثل هذه، وركز على دور الفرد، «كنموذج ثقافي تنعكس فيه صورة الجماعة». ومن هذه النماذج الفردية التي تركت تأثيرات بالغة على تطور الثقافة العراقية اللاحق سلبا أم إيجابا، هذه الثقافة التي قامت على «التجاذب بين عناصر التقليد والتجديد، إذ كانت فكرة التقدم تستهوي مجموعة كبيرة من الكتاب والمشتغلين في ميادين الإبداع، وبينهم رجال الدين. وبرز التداخل بين الجانبين التقليدي والحداثي في سياق الفئة المثقفة بمجموعها، وداخل الفرد الفاعل الذي يتولى قضية نشر النهضة وتجديد الأفكار والقيم»، كما تقول الباحثة المحسن. كان محمد بهجت الأثري، رئيس مجمع اللغة العربية حتى فترة متأخرة من تاريخ العراق الحديث، يمثل التيار المحافظ، الذي تصدى لكل أفكار التجديد، وفي مقدمتها حقوق المرأة، والذي كان الرصافي يسميه «بوليس السماء». والتيار التجديدي، الذي كان على رأس ممثليه الرصافي نفسه، والشاعر جميل صدقي الزهاوي، المبهور بالغرب واختراعاته العلمية، وفلسفاته التي عكسها في شعره المتكلف والمصنوع. وبين هذين التيارين المتصارعين، كان هناك تيار وسط مثّله الشاعر محمد رضا الشبيبي. ولكن يبقى السؤال الجوهري: كيف نظمت أفكار هذه التيارات، وأي أنساق فكرية قد اتخذت؟ وهل ارتفعت إلى مستوى المنظومات الفكرية؟ لا يبدو أن الأمر كذلك، فلم يكن العراق بالطبع، وقد بدأ بالتشكل كمجتمع ودولة لتوه، قادرا على إنتاج أي معرفية منهجية، وهي الشرط الأساسي لأي نهضة حقيقية. ولم يفت ذلك على الباحثة التي أشارت إلى أن استخدام هذا المصطلح، وليس التنوير كما في الغرب، يعود إلى البعد الميثولوجي لمعناه، أي فكرة الانبعاث أو إحياء أو إعادة الإحياء، التي ارتبطت بحركة الإصلاح السياسي، أكثر مما يدل على المعنى الحقيقي للمصطلح، وخاصة بالمقياس الغربي، الذي أراد كثير من رواد «النهضة» العراقية محاكاته. والقضية الأخرى المهمة التي يطرحها، أن «النهضة العراقية» ذات خصوصية خاصة. أولا، أنها قدمت نفسها «كمشروع من خلال أصوات الشعراء الذين استكملوا مهمة الشاعر والمفكر، بل المهتم بالعلوم الحديثة»، وليس كما في بلاد االشام، ومصر، حيث نجد الكواكبي ومحمد عبده وعلي عبد الرازق وسلامة موسى وطه حسين. وهذا يؤكد الرأي المطروح سابقا، وهو إن هذه «النهضة» هي أقرب إلى حراك ثقافي محتدم، ونضال فكري شاق قياسا بطبيعة المجتمع العراقي آنذاك، ولكنهما لم يرتفعا إلى مستوى تشكيل منظومة فكرية متبلورة، كما حصل في النهضة المصرية مثلا، التي أجهضتها ثورة 52 - في تقديرنا. وثانيا، أن الثقافة العراقية لم تكن عربية صرفا، بل هي، كما تشخص فاطمة المحسن بحق، «نتاج ثقافات شعوب مختلفة تتساكن داخل جغرافيته، وهذه الشعوب لها حضارتها التي تتفاوت أزمنة التجديد والنهضة فيها». على الرغم من أن كتاب «تمثلات النهضة في ثقافة العراق الحديث»، يركز على التحولات الثقافية من نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، فإن أسئلة النهضة التي يطرحها، لا تزال هي أسئلة العراق المعاصر، الذي لا يبدو أنه مهيأ للتبصر فيها، وطرحها على نفسه بشجاعة، هذا إذا لم نقل إن ذلك الماضي المحتدم، الذي جمع بين الشاعر ورجل الدين، والكردي والعربي، وبغداد والموصل والنجف، في هم وطني واحد - يبدو ماضيا ذهبيا حقا قياسا بالراهن، رغم مرور قرن كامل من الزمن العراقي.
|