اين الموصل؟

المقاله تحت باب  قضايا
في 
22/09/2010 06:00 AM
GMT



سألني صحفي اجنبي قبل 3 اعوام عن مشكلة الأمن في العراق، فقلت له ان نصف سكان البلاد يعيشون في 3 محافظات كبرى تهمل الحكومة أمنها. ان نحو 13 ونصف مليون نسمة يعيشون في بغداد والموصل والبصرة، اي نحو نصف سكان العراق، بينما كان انهيار الامن في هذه المدن السمة الابرز للعراق. بغداد بملايينها السبعة مقسمة بين الميليشيات والقاعدة. الموصل تعبث بها القاعدة وقليل من المسلحين من الاطراف الاخرى. والبصرة بيد الميليشيات.

الحكومة كانت تهمل المدن الكبرى ذات الكثافة السكانية والموقع الاستراتيجي والثروة، وتخشى فتح ملفها الامني. ثم تحقق نجاح ما في البصرة، ونجاح نسبي ايضا في بغداد جعل خوفنا يتراجع الى النصف (مثلا). لكن الموصل بقيت منسية.

اين الموصل؟ لا احد يتذكرها. كيف تجاهلنا مدينة مثلها يا ترى كانت شقيقة حلب أيام ضمتنا الامبراطورية العباسية والعثمانية معا؟

تسأل أهلها، كما صنعنا في تقرير منشور اليوم في "العالم"، فيقولون بمرارة: لم تعد الموصل موصلة بين طرق التجارة الدولية كما كانت. بتنا خارج خارطة تبادل السلع التي كانت تضج بها آسيا الوسطى.

تسأل ضباطا كبارا عن حقيقة الامر، فيتذكرون بمرارة انهم انتقلوا من مقر عمليات صولة الفرسان في البصرة، مباشرة الى نينوى ليطلقوا عمليات مشابهة "أم الربيعين"، لكنهم عادوا بخفي حنين دون تحقيق نتيجة.

الاهالي يقولون ان "أم الربيعين" عملية عسكرية مستمرة اسميا، منذ 28 شهرا. لكنها لم تؤد اي نتيجة حتى الان، ومدينتهم لا تزال معسكرا كبيرا لا يصلح إلا لحياة عسكرية. الاستثمارات تهرب من المدينة نحو الضواحي، والمسلحون يصولون فيها ويجولون، والضباط هناك عجزوا عن كسب ثقة الاهالي، ولا وجود لقرار حكومي بوضع حد "للاحكام العرفية" التي تفرضها منظمة القاعدة، والقوات العراقية، معا هناك.

تسأل الضباط: لماذا عدتم ولم تعيدوا القانون الى نينوى؟ فيقولون انهم اكتشفوا ان المشكلة ليست مجرد وضع أمني منهار، بل ازمة سياسية بامتياز. قال ضابط شاب كان شارك في اطلاق تلك العمليات قبل اكثر من عامين: مستعدون لأن نضرب، وعملنا هو استعادة الارض وتطهير الاحياء من المسلحين، لكن على الساسة ان يتخذوا قرارا بذلك، وهم عاجزون.

الاكراد والعرب لم يحسموا خلافاتهم حول مصير الموصل! عجبا. اما الاقليات في المدينة التي يصفها بعض الزملاء بأنها "بلقان العراق" لجهة تعدد كثيف في عرقياتها ودياناتها، وأشكال المعابد الحجرية الانيقة التي ترصع بلداتها، فهي بين مطرقة هذا وسندان ذاك.

حين تتحدث مع المعنيين بشأن الموصل، تكتشف ان كركوك المتنازع عليها بيننا وبين اخوتنا الاكراد، ليست سوى واجهة للمشكلة. تكتشف ان الموصل بثقلها التاريخي وموقعها الاستراتيجي وأهميتها التجارية والثقافية، هي المشكلة الكبرى. مصير كركوك واضح، فإما ان تلتحق بكردستان او تبقى على حالها. اما الموصل فلا احد يدري ما سيحل بها. هل ستتعرض الى التقسيم؟ يقال لك: ربما. هل ستكون قسمين؟ يقال لك: ربما ثلاثة او حتى اربعة، اذا تحدثنا عن سهل نينوى المسيحي وبلدة تلعفر التركمانية.

هناك ثلاثة ملايين ونصف مواطن في الموصل، لا يعرفون مصيرهم اذن. توقفوا عن الحلم بتنمية اقتصادية او رفاه، وهم لا يحلمون بمؤسسات ترفيه حديثة، فقط يريدون ان يعرفوا مصير مدينتهم. يريدون ان يفهموا وحسب، لماذا لا تنتهي العمليات الامنية هناك، بنجاح او فشل حتى.

أقبل الموصليون وأهل نينوى على الانتخابات ايما اقبال، بحثا عن حل في صناديق الاقتراع، وحاولوا ان يساهموا في احداث تغيير قد يخفف من "عزلتهم" وسط الاطواق الامنية التي تفصلهم عن كل شيء. وحين يشعر كل سكان العراق بخيبة حيال تلك الصناديق، فإن خيبة اهل الموصل تكون اكبر، لأن معاناتهم أشد.

المدن التي تمتلك "فخرا تاريخيا" كمركز محافظة نينوى، تستحق ان لا نتوقف عن طرح الاسئلة بشأنها. لكن ما يحصل اننا نتحدث عن كل شيء، إلا الموصل.

هناك في أقصى الجنوب، تلمح الاشكال الموصلية المميزة تعيش في مناطق البصرة القديمة. يحدثونك عن نزوح اجدادهم قبل 200 عام، قادمين للعمل في الميناء والتجارة، وكي يرسلوا البضاعة الى ما تبقى من عوائلهم على اطراف هضبة الاناضول. احياء القادمين من الموصل، لا تزال هي الاجمل في البصرة، بل ان اثرهم في بغداد لا يمكن تجاهله، كما هو الحال مع لمساتهم الحاسمة في المنشآت السياحية في كردستان اليوم، وفي البلدة الوادعة بأربيل "عينكاوة"، وفي العديد من مدننا. كبير هو إسهام الموصليين في تاريخ العراق القديم والحديث، وحضورهم في جامعاتنا وصحافتنا ومؤسستنا العسكرية. لكن الموصل صامتة اليوم او تكاد.

نعم فنحن نريد ان نعرف عنها شيئا لكن كل شيء يتعسر. وبسبب الظرف الامني المعقد وتشابك الأسنة والرماح العربية والكردية وسواها هناك، لا يتاح حتى لكاميرات الصحفيين ان تلتقط شيئا، كي نفهم نحن أصحاب الاسئلة الملحة، الى اين تتجه مدينة "حدباء لاثغة بالراء" الجميلة، كالإيقونة العراقية التي نتحدث عنها.