المقاله تحت باب قضايا في
14/09/2010 06:00 AM GMT
يكفي الهكتار الواحد من الأرض الزراعية لتزويد 14 شخصا بما يحتاجونه من الغذاء على مدار السنة، حسب إحصائيات منظمة التغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة، ومقرها في روما. أي بعبارة أخرى تستطيع العائلة المكونة من سبعة أشخاص أن تعيش حياة كريمة على دونمين من الأرض الزراعية (أو خمسة آلاف متر مربع). وإذا ما احتسبنا هذه الإحصائية في ظروف العراق، وعلى اعتبار أن مساحة الأرض الخصبة القابلة للزراعة فيه تبلغ 22 مليون دونم، فإن الإنتاج الزراعي في العراق يُفترض أن يكفي لتغذية 77 مليون مواطن. أما إذا احتسبنا مساحة الأرض المزروعة فعليا اليوم، والبالغة نحو 13 مليون دونم، فيمكن لنحو 45 مليون مواطن عراقي الحصول على غذائهم دون اللجوء إلى الاستيراد من الخارج! فإذا عرفنا أن العراق يستورد نحو 70% من حاجة السوق المحلية للمواد الغذائية، وأن نحو ربع سكان العراق يعيشون تحت خط الفقر - حسب إحصائيات الجهاز المركزي للإحصاء في وزارة التخطيط - وأن تفشي الجوع كان يمكن أن يكون أكثر قتامة لولا البطاقة التموينية المدعومة من الحكومة؛ أمكن تصور حجم مشكلة الأمن الغذائي - شبه المسكوت عنها وسط إعلام مهووس بتطور المشهد السياسي - النابعة من التراجع المرعب في إنتاجية الأرض، أو انعدام شروط الإنتاج الزراعي في المساحات المستصلحة أو المزروعة أساسا، أو تفشي الفقر بحيث لا يتمكن ربع السكان من شراء الغذاء المتوفر في الأسواق! أمن غذائي أم معجزة؟ كان تحقيق الأمن الغذائي في العراق - وما يزال حتى اليوم - تحديا استراتيجيا وهدفا للحكومات المتعاقبة، وإن لم يكن رئيسيا على الدوام، إلا أنه لم يتحقق منذ عقود. فقد كان الإنتاج الزراعي في النصف الأول من القرن العشرين - تجنبا للخوض في التاريخ القديم لوادي الرافدين - متناسبا، إلى حد ما، مع الاحتياجات المحلية. وباستثناء فترة البحبوحة التنموية التي تحققت في السبعينات، نتيجة للطفرة الكبرى في أسعار البترول، وما رافقها من زيادة القدرة الشرائية للمواطنين العراقيين، وبالتالي تحسن قدرتهم في الحصول على الغذاء، المستورد في غالبيته؛ فقد تفشى الفقر بصورة مريعة في المجتمع العراقي، وبلغ ذروته الكارثية خلال العقود الثلاثة الأخيرة وبالأخص قبيل الحرب عام 2003. لقد كان تدهور الإنتاجية الزراعية صفة مميزة للقطاع الزراعي، بسبب فشل سياسات وبرامج «الإصلاح الزراعي»، الذي أُفرغ من مضمونه الاقتصادي، لصالح شعاراته الأيديولوجية والسياسية، وأسفر عن إقحام الريف وسكان القرى بالنشاط السياسي الحزبي القسري، والهادف - حسب الأيديولوجية الحاكمة - إلى توسيع القاعدة الاجتماعية لنظام الحكم، دون خلق أي من شروط التنمية الريفية، أو تكاملها مع المدن، عن طريق تطوير شبكة المصالح الاقتصادية المشتركة، الرامية إلى خلق اعتماد متبادل بين المدن والريف، تسمح للطرفين بالاحتفاظ بخصائصهما الاجتماعية، في الوقت نفسه الذي يضمحل فيه التمايز النسبي بينهما لتتاح لجميع المواطنين فرص متساوية للتقدم. إجراءات قسرية: بالإضافة إلى السياسات المركزية، اشتراكية الطابع - كما كان يُسوّق - التي اعتمدتها السلطة، وتطبيقاتها في تحديد أسعار الخضر والفواكه والحبوب، اعتباطا وعبر البلاد، عن طريق خلية مركزية مرتبطة بأعلى أجهزة الدولة التنفيذية؛ وإنزال أقسى العقوبات بالمخالفين، بغض النظر عن الجغرافيا، ومعطيات السوق، أو عاملي الربح والخسارة؛ فقد اتبعت السلطة سياسة المغامرات الطائشة، ودخلت حروبا متعاقبة، تُوّجت بعقوبات اقتصادية قاسية استمرت أكثر من 12 عاما، تقلصت خلالها مائدة العائلة العراقية إلى حدود مأساوية، وخيم شبح الجوع على المجتمع بكافة فئاته. كما لم تستجب السلطة آنذاك لفكرة «النفط مقابل الغذاء»، التي تجسدت بقرار مجلس الأمن الدولي 986 الصادر في أبريل (نيسان) 1995، والقاضي باستخدام جزء من عائدات بيع النفط العراقي لشراء مواد غذائية للعراق، إلا بعد أن عصف الجوع، واستفحل الفقر إلى حد لم يستطع معه الدكتاتور الاحتفاظ بكبريائه المزيف، فركع للإرادة الدولية لسد رمق مواطنيه بعد 13 شهرا من صدور ذلك القرار. كما ارتكب نظام الحكم قبل ذاك مجزرة إعدام جماعية، وقع ضحيتها أكثر من أربعين تاجرا من تجار المواد الغذائية في العاصمة بغداد في أبريل عام 1992 بحجة التلاعب بالأسعار، في الوقت نفسه الذي أتت فيه الحروب المتتالية على ما تبقى من بنى تحتية، ومنها تلك المرتبطة بالقطاع الزراعي، واستكملت فيه دول الجوار إنشاء سدود خزنية على نهر الفرات بشكل خاص، وبعض روافد نهر دجلة، مما قلل من حصة العراق المائية التي تعتمد عليها الزراعة كليا باعتبارها زراعة إروائية. وفي خضم الحرب مع إيران، قرر نظام الحكم تجفيف الأهوار العراقية، وهي المسطحات المائية الكبرى في جنوب العراق، التي كانت تزود السكان بجزء كبير من حاجاتهم الغذائية، خاصة الأسماك والمنتجات الحيوانية المختلفة، مما عرّض عشرات الآلاف إلى الموت أو الجوع والنزوح، حتى سقوط النظام عام 2003؛ حيث توفرت فرصة إعادة إنعاش الأهوار العراقية وغمرها بالمياه، وهو ما تزامن - لحسن الحظ - مع سنوات جريان معتدلة في نهري دجلة والفرات، وتمكن النازحون واللاجئون من العودة إلى مناطقهم، وأصبح بمقدورهم الحصول على غذائهم دون تدخل مباشر من الحكومة، قبل أن يضرب الجفاف مجددا منذ عام 2007! لا يسمح هذا الفضاء باستعراض كافة العوامل التي أدت إلى انعدام الأمن الغذائي في بلد يمكن فيه زراعة حتى الصحراء القاحلة، فضلا عن الأرض الخصبة! ولكن يمكن إجمالها بالأخطاء الفادحة في تسيير هذا القطاع (وقطاعات الدولة الأخرى بالطبع). وسوء الإدارة، الذي انعكس على شكل قرارات تعد بمثابة جرائم كبرى، كتجفيف الأهوار مثلا، التي كانت تغطي نحو (50%) من حاجة السوق المحلية من الأسماك ومنتجات الحليب، فضلا عن دورها في المحافظة على عذوبة شط العرب. وقرارات وحشية كمعاقبة الفلاحين الذين لا يلتزمون بقرارات التعسف السلطوية في السماح أو منع زراعة بعض المحاصيل، وإعدام التجار وممثلي القطاع الخاص الذين يسهمون في استقرار سوق الغذاء، وسياسات فاشلة أدت إلى انتشار مريع للتصحر، على حساب الغطاء النباتي، وحروب حولت الأراضي الخصبة إلى خراب شامل، وخلقت مجتمعا لم تعد له علاقة بالإنتاج إن لم يكن مرتبطا بآلة الحرب، وهو ما إن يخرج من حرب حتى يدخل أخرى. ففي عام 2003 فاق عدد السكان المصنفين تحت خط الفقر 12 مليون نسمة، من أصل 26 مليون نسمة هو مجموع سكان البلاد. وقد انخفض هذا العدد عام 2007 إلى 7 ملايين نسمة. وتهدف الخطة الحكومية المعلنة في نوفمبر (تشرين الثاني) 2009، تحت عنوان «الاستراتيجية الوطنية للتخفيف من الفقر 2010 - 2014» إلى تخفيض الرقم إلى خمسة ملايين شخص بعد خمسة أعوام. وبما أن عام 2010 دخل في ربعه الأخير، دون أن تدخل الاستراتيجية حيز التطبيق، فإن أهداف الاستراتيجية المؤمل تحقيقها، ستدفع عاما آخر إلى الوراء، أي إلى عام 2015. وإذا حصل أن تمكن العراق من تضميد جراحه، واستمر على أساس توفر نفس الشروط التي افترضتها الاستراتيجية الوطنية للتخفيف من الفقر، فسيتحقق جزء من الأمن الغذائي المنشود، أي حصول جميع المواطنين العراقيين على ثلاث وجبات يوميا، بحلول عام 2028، وهذا بالطبع أفق زمني بعيد، مقارنة بدول أميركا اللاتينية، الأكثر فقرا من العراق بالطبع، حيث التزمت القارة بالقضاء التام على الجوع بحلول عام 2025. القضاء على الفقر ليس حلما: إن انتشار الفقر والجوع وانعدام الأمن الغذائي، ظاهرتان تهددان مستقبل العراق تهديدا جديا (وإن لم يكن التهديد الوحيد). فالإرهاب الذي يتعرض له العراق اليوم هو خطر كبير، لكنه قابل للمعالجات السريعة، كالحسم العسكري مثلا. إلا أن الجوع والفقر وسوء التغذية مخاطر ذات مديات مستقبلية سيعاني منها المجتمع بأجياله الحاضرة والمستقبلية، وستظهر على شكل تقزم، ونقص في الوزن، وهشاشة، وعاهات جسدية ونفسية، وعجز وتلكؤ في التنمية الاقتصادية والبشرية، وانعدام فرص التكافؤ بين الجنسين، أو بين الفئات العمرية، إذ إن الأطفال هم ضحيتها الأولى، إضافة إلى أن مكافحة هذه الظواهر، ليست ممكنة فحسب، بل هي واجب إنساني وأخلاقي. إن مهمة القضاء على الفقر وتحقيق الأمن الغذائي لا تقتصر على وزارة الزراعة العراقية فقط - كما قد يتبادر للذهن - لأن الأمن الغذائي أكبر، وأشمل، وأكثر تعقيدا، من الإنتاج الزراعي، أو دعم الفلاحين، أو توفير المستلزمات المطلوبة للفلاحة، كمكافحة الآفات والخدمات الإرشادية، على أهميتها؛ بل هي مهمة وطنية كبرى تحتم إطلاق حزمة من السياسات والبرامج والإجراءات الطموحة، التي تشترك بها مؤسسات عديدة، على المستويين الوطني والمحلي، ويمكن من خلال ذلك أن تلعب وزارة الزراعة دورها الريادي في انتشال القطاع الزراعي من تدهوره المتراكم عبر العقود، كي يقف على قدميه، ويتأقلم مع الواقع الجديد بما فيه من تغيرات مناخية غير مواتية، وشحة متزايدة في موارد المياه المتاحة للزراعة، لتحقيق الانتقال المطلوب في الأنماط الزراعية التقليدية السائدة، باتجاه محاصيل أكثر ربحية وتحمل الظروف المناخية والطبيعية التي تزداد صعوبة مع الزمن. وإننا نرى أن الاستراتيجية الوطنية للتخفيف من الفقر تشكل نقطة انطلاق معقولة، إذا ما نقلت من الورق إلى حيز التنفيذ، وإذا ما تمت مأسسة هيئتها العليا بحيث تكون قادرة على العمل بغض النظر عن تشكيل الحكومة من عدمه، مثلها مثل أي مؤسسة حكومية أخرى. إن هذا العام يحمل مؤشرات إيجابية في إنتاج القمح، مثلا، وهو المحصول الذي يستورد منه العراق 3.7 مليون طن سنويا، فقد قدر إنتاج هذا العام بنحو ثلث الكمية المستوردة أي نحو 1.25 مليون طن، إلى جانب 300 ألف طن من الأرز وأكثر من 350 ألف طن من محصول الذرة، وكذلك الأمر في إنتاج التمور والخضر وغيرها. وتؤكد هذه المؤشرات على أن العراق قادر على تحقيق الأمن الغذائي لمواطنيه خلال وقت قصير نسبيا ولكنه بحاجة إلى قدر غير قليل من السياسات الذكية. * سفير العراق لدى المنظمات الدولية للغذاء والزراعة المعتمدة في روما (منظمة الفاو، وبرنامج الغذاء الدولي، والصندوق الدولي للتنمية الزراعية).
|