جان دوست: أنا شاعر منفي في وطن الرواية

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
05/09/2010 06:00 AM
GMT



     يرى أن الرواية الكردية متعثرة بـ«حجر الآيديولوجيا والهم القومي»

ليس من السهل تقديم كاتب من طراز جان دوست، فهو شاعر سابق (كما يصر) وروائي مجدد، ومترجم جيد، قدم الكثير للمكتبة الكردية وللمكتبة العربية من خلال ترجماته البديعة مثل «الحديقة الناصرية في تاريخ وجغرافيا كردستان» (أربيل 2001)، والملحمة الشعرية «مم وزين» (بيروت 1998)، و«رسالة في عادات الأكراد وتقاليدهم» («كلمة»/ أبوظبي 2010). «بدائع اللغة» (قاموس كردي/ عربي).
وترجم إلى الكردية «أنشودة المطر - مختارات من شعر بدر شاكر السياب (صدرت في إسطنبول 1996)، وقصيدة «مهاباد» للشاعر السوري سليم بركات، وعددا من الروايات الكردية لا تزال تنتظر الطبع.
وحين صدرت روايته الأولى «مدينة الضباب» 2004 لفت الأنظار بقوة إلى الرواية الكردية الجديدة التي كانت ترزح تحت الإنشاء والشعارات والقضايا الكبيرة جدا.
ولكن الرواية الأولى لم تكن طفرة كما اعتقد البعض؛ بل كانت بداية تجربة رواية تستفيد من كل الأجناس الأدبية وتطلق العنان لمخيلة روائية مدهشة، فكانت الرواية الثانية «ثلاث خطوات ومشنقة» 2007، و«رسالة الأمير» 2080. وبالإضافة إلى الكردية بلهجاتها المتعددة، يجيد كاتبنا العربية والتركية والفارسية أيضا. هنا حوار معه:

* حدثنا عن بداية اكتشاف اللغة الكردية وصعوبات الكتابة بلغة ممنوعة؟
- تنشقت رائحة الحرف العربي لحظة ولادتي. ولدت في غرفة تعبق بأنفاس الإمام الشافعي والغزالي وسيبويه وابن هشام في سيرته النبوية، وغيرهم كثيرون، ممن كان والدي يقتني مؤلفاتهم بحكم مرتبته الدينية. كان والدي «ملا»، يعني رجل دين باللغة الكردية. وكان يواظب على مطالعة الكتب في الفقه الإسلامي والمنطق الأرسطي والنحو والصرف. لكنني لم أجده يوما واحدا يقرأ كتابا كرديا!! تتلمذت على يديه وتلقيت المبادئ الأولية في الفقه واللغة العربية. كان شقيقي الأكبر مني يملك كتبا يحافظ عليها ويخفيها عن الأعين. يقرأ منها أشعارا باللغة الكردية، ثم يعود ليخفي تلك الكتب وأحيانا في باطن الأرض! اكتشفت أمي أن كتب أخي خطيرة بخلاف كتب والدي التي يضعها على الرفوف وراء واجهات زجاجية أنيقة. أدركت، على الرغم من طفولتي، أن كتب أخي لا بد أنها تحتوي على سر ما. دفعني الفضول الطفولي ذات يوم إلى معرفة مكان الكتب الممنوعة، وقرأت من أحدها قليلا، وما إن لمحني أخي حتى خطف الكتاب من يدي وأخفاه بسرعة وهو يقول: «لا تعد إلى ذلك مرة أخرى».
* لماذا لم تكتب مثل كثيرين من أقرانك باللغة العربية؟
- كتبت باللغة العربية. كانت اللغة العربية مطيتي إلى كشوفاتي في عوالم الأدب. لكنني لم أنشر شيئا. آثرت أن يكون الإبداع الذي أنتجه بلغة أمي وأبي. لكنني بقيت وفيا للغة العربية في مضمار آخر وهو البحث الأدبي والترجمة. أعشق اللغة العربية وأنا مدين لها إلى الأبد.
* بدأت بالشعر ثم انتقلت إلى الرواية، لماذا؟
- كثيرا ما طرح علي هذا السؤال، وأنا أرد بكل صراحة أنني لم أستطع خلق عالم شعري خاص بي. لم أتمكن من إضافة شيء إلى فن الشعر الذي أعتبره «وليعذرني الشعراء» فنا عجوزا. لكن لغتي الشعرية طاغية في أعمالي الروائية. هناك كثيرون من النقاد والقراء يقولون إننا نقرأ روايات جان دوست وكأنها قصائد طويلة! طبعا هذا يسرني لأنني أحمل جذوة الشعر وأنفخ فيها في لغتي الروائية كي تتوهج أكثر. لا يمكن أن أكتب بلغة جافة. لا بد من الشعر فهو على حد قول جان كوكتو «ضرورة.. وآه لو أعرف لماذا؟».
* هل لأن الشاعر روائي مؤجل؟
- لا.. ليس بالضرورة أن يكون كل شاعر روائيا مؤجلا. أنا لم أكن أتصور أنني سأصبح روائيا. كنت مهووسا بالشعر، لم يبق ديوان شعر عربي بدءا من المعلقات وانتهاء بالشعر المعاصر لم أقرأه. قرأت الشعر الفارسي والكردي أيضا، وتصورت أنني سأصبح شاعرا يشار إليه بالبنان في كل محفل. لكنني في النهاية فشلت في الشعر. فنقلت كل قاموسي ومفرداتي و«ممتلكاتي» الشعرية إلى الرواية. يمكن أن تعتبرني شاعرا منفيا إلى وطن الرواية.
* ما سر ذلك؟
- ربما لأن الشعر لم يشبعني! يعني ليس فقط الفشل في الشعر هو الذي دفعني إلى الرواية، بل العوالم الروائية ذاتها بما فيها من أفكار وتقنيات، وحتى متعة الكتابة الروائية التي أنخرط فيها فأغيب عن العالم طيلة مدة الكتابة.
* المشهد الروائي الكردي.. كيف يمكن أن تصفه للقراء العرب؟
- هذا السؤال تصعب الإجابة عنه، خاصة أن الوطن الكردي أشلاء. وبالتالي، فالرواية الكردية أشلاء. باختصار يمكنني القول إن هناك نهضة روائية منذ التسعينات ومستمرة إلى الآن. وقد يكون من نصيب القراء العرب أن يطلعوا على نماذج من الرواية الكردية المعاصرة عبر مشروع «كلمة» للترجمة الذي تتبناه «هيئة أبوظبي». هناك على الأقل ثلاث روايات ترجمت إلى العربية تنتظر الصدور. ما يمكنني قوله في هذا المجال هو أن الرواية الكردية متعثرة بحجر الآيديولوجيا والهم القومي. باستثناء قلة قليلة من الروايات التي تعالج حالات إنسانية محضة.
* يحضر الجانب التاريخي بقوة في رواياتك. روايتك الأولى «مز آباد» تدور حول قيام جهورية مهاباد الكردية في كردستان إيران وانهيارها، وروايتك الثانية تدور حول ثورة الشيخ سعيد بيران، إحدى كبرى الثورات الكردية في كردستان تركيا، وفي «مير نامة» (رسالة الأمير) تتناول جانبا من تجربة وحياة الشاعر الكردي الكبير أحمد خاني صاحب ملحمة «مم وزين» المعروفة، لماذا كل هذا الشغف بالتاريخ؟
- في مسارب التاريخ أبحث عن لغز؛ لغز سبب كل هذا الظلم لشعب دافعت عنه الجغرافيا وظلمه التاريخ. شغفي بالتاريخ جزء من الأخذ بالثأر. أنا أثأر من هذا التاريخ الأسود فأفككه في رواياتي. أبحث في كل زاوية منه عن حلقة مفقودة وأعثر على كم هائل من الوثائق التي تدين التاريخ كحركة إلى الأمام. شغفي بالتاريخ ليس مرده إلى النوستالجيا؛ فأنا لا أدعي أننا عشنا عصورا ذهبية غابرة بل على العكس. أعود إلى التاريخ لأقرأ الواقع على ضوئه وأحاول رسم طريق المستقبل. وما أكتشفه خلال عودتي إلى الوراء أبثه في ثنايا رواياتي. نقطة أخرى تدعوني إلى كتابة الرواية التاريخية، وهي أن تاريخ الكرد لم يكتبه الأكراد أنفسهم على الرغم من أنهم كانوا مادة فعالة في رسم مساراته في الشرق وحتى في الغرب أيام الصليبيين! أحاول أن أكتب تاريخا مغايرا للمألوف وربما صادما في بعض الأحيان. لا أريد أن أجعل من التاريخ مشجبا أعلق عليه فشل الأمة الكردية في التوحد والعيش بكرامة كما يفعل كثيرون؛ إنما أنظر إليه بصفته بابًا ألجُ منه إلى ميادين لم يطأها قبلي كردي آخر. يسوءني مثلا أن أرى الكرد يعزون سبب فشل انتفاضة الشيخ سعيد التي أشرت إليها في سياق سؤالك إلى خيانة فردية. هذه قراءة خاطئة للتاريخ لا يمكن أن يصححها إلا المبدع في رواية تستكمل شروط الإبداع وتدرس كل الملفات المتعلقة بتلك الانتفاضة التي كانت تلك الخيانة جزءا من أسباب سقوطها وليست السبب الوحيد.
* أعدت ترجمة ملحمة «مم زين» التي سبقك إلى ترجمتها العلامة محمد سعيد رمضان البوطي، هل كانت الترجمة الأولى ناقصة أم ماذا؟
- في اعتقادي أن الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي لم يترجم الكتاب. هناك مقدمة مهمة جدا بلغت مائة وثمانية وثمانين بيتا غض البوطي النظر عن ترجمتها! لماذا؟ ربما لأنها تحمل معتقدات يعتبرها البوطي هرطقات، بالإضافة إلى أفكار قومية لم يستسغها البوطي. ربما كان للرقابة دور في عدم ترجمة تلك المقدمة المهمة، ولكن البوطي لم يشر إلى ذلك، وهذا ما لا يقبله المنطق الأكاديمي وحتى منطق الترجمة الأدبية الصادقة. «مم وزين» درة المؤلفات الكردية وقد اشتغلت عليها سنين طويلة حتى أخرجتها للقارئ العربي كاملة من دون عيب. لا أنسى فضل البوطي في إخراج هذا الأثر الخالد في حلة بلاغية أنيقة جدا، لكن الهدف الذي دفع الشاعر أحمد خاني إلى نظم تلك القصة، الذي بينه في مقدمته غاب عن ترجمة البوطي، لذلك كان لابد لي من إعادة الترجمة.
* هل استطاعت الرواية الكردية مجاراة الروايتين العربية والتركية في الاستفادة من المنجز الروائي العالمي.
- الرواية الكردية الآن تتقدم بخطوات ثابتة وكبيرة إلى الأمام. وأستطيع أن أجيبك بكل ثقة بكلمة «نعم»؛ نعم لقد استطاعت الرواية الكردية في السنين الأخيرة مجاراة الروايتين العربية والتركية في الحدود الدنيا طبعا. لا أدعي أن الرواية الكردية معافاة تماما، فهي لا تزال تقاوم بل لا تزال في مرحلة المخاض. لكن ما أنجزه الروائيون الكرد على الرغم من قلتهم شيء يبشر بالخير. المشكلة أن الروائي الكردي بخلاف الروائي العربي والتركي وغيرهما، لا يمكنه الاطلاع على المنجز الروائي العالمي كما سميته في سؤالك إلا عبر لغات وسيطة. لم أقرأ روايات شولوخوف وهيغو وميلان كونديرا وكازانتزاكيس وباولو كويلهو وغيرهم إلا باللغة العربية. هذه مشكلة كبيرة تؤثر على فاعلية المخيلة الروائية لدى الروائي الكردي. أن تقرأ بلغة وتكتب بلغة أخرى.
* ما يكتبه الأدباء الأكراد بلغات أخرى كالتركية والعربية والفارسية.. هل يمكن اعتباره أدبا كرديا أيضا كما يقول البعض؟
- إذا اعتبرنا ما ينجزه أمين معلوف أدبا عربيا وما ينجزه ميلان كونديرا بالفرنسية أدبا تشيكيا.. إلخ، فإننا سنعتبر ما ينجزه الأدباء الأكراد بلغات أخرى غير الكردية أدبا كرديا. وإن شئنا أن نبحث للأدب عن هوية، فلا بد من أخذ اللغة بعين الاعتبار. في اعتقادي أن هذه الإشكالية باتت من الأمور والقضايا التي تم حسمها في عالم الأدب. اللغة هي الأساس في هوية المولود الأدبي.
* أنجزت ترجمات مهمة من الكردية إلى العربية، كيف تصف لنا حركة الترجمة إلى اللغة الكردية سواء من العربية أو من اللغات الأخرى في ظل تنامي الاهتمام بالترجمة على مستوى العالم؟
- الترجمة إلى اللغة الكردية ضعيفة جدا بسبب غياب الدعم المادي. حركة الترجمة لدى الشعوب تقوم بها مؤسسات مختصة ولا يمكن للجهود الفردية القيام بعمل مهم في هذا المجال. المؤسسات الكردية تقوم بجهود خجولة في هذا النطاق، وليست هناك سياسة ترجمة أو استراتيجية ترجمة ممنهجة. الترجمة امتحان لقدرة اللغات، واللغة الكردية لم تنجح حتى الآن في هذا الامتحان العسير. القليل من الروايات والقصص ترجم من اللغات الأخرى إلى الكردية، وهذا بالطبع لا يفي بالغرض. حتى ترجمة النتاجات من اللغة الكردية إلى لغات الأمم الأخرى تعاني ضعفا شديدا. مؤخرا قبلت «هيئة أبوظبي للثقافة والتراث - مشروع (كلمة)» مشكورة ترجمة بعض النتاجات الكردية إلى اللغة العربية، وهذا سيؤدي بلا شك إلى التعرف على الشعب الكردي الذي يعيش منذ انتشار الإسلام مع جاره العربي ويقاسمه الأرض والتاريخ والمعتقد.