المعدان شعب غامض يذهب إلى زواله |
المقاله تحت باب مقالات و حوارات ألا يزال المعدان (جمع معيدي وهم سكان المسطحات المائية في الاهوار) هناك؟ ذلك الشعب الغامض الذي عاش ألوف السنين في جنوب العراق، هو من الشعوب النادرة لجهة ثقافته المائية. هناك حيث يمتزج الإنسان بالطبيعة بطريقة لا فكاك لها، تصنع تلك العلاقة معادلة سحرية، يحتاج كل طرف من طرفيها إلى الطرف الآخر ليكون موجودا. لذلك حين جفّت المياه اختفى المعدان. ذهبوا إلى السماء. معهم اختفت واحدة من اكثر الحضارات نقاء وعمقا وجمالا وانصافا. شمسهم تطلع من المياه "السلام عليك ورحمة الله وبركاته"، يصرخ أحد الركاب وقد استيقظ فجأة كما لو أن عقرباً لدغته. تأتيه الأصوات من كل جهة كوقع صدى لجملته. يبدأ ذلك الوقع خافتا ثم يتصاعد متشنجا، ملتاعا، ومتضرعا. يوقف السائق الحافلة وهو يستعيذ بالله. اسمعه يتنفس بصعوبة ويقول: "لولا رحمة من الله كدت أمرّ من غير أن التفت إلى الأمام. منك الشفاعة ومعك المأوى يا ابن بنت رسول الله". يومئ بيده إلى جهة في عينها من الليل فيقلّده الركاب، من استيقظ منهم طبعا. كان الإمام في نقطة غامضة تقع على الجهة اليسرى. وعلى الرغم من أنني لم أكن أرى أي شيء واضحا في الجهة التي كانوا يومئون إليها غير أنني كنت أظن أن عيون الكبار تبصر ما لا تراه عيون الصغار. العيون الزرق المعدان قريبون من الله، بعيدون عن الأرض، وعن الناس أيضا. فالمسافة بين مياههم والسماء هي عبارة عن خطوة لا تُرى. خطوة يمكن اختزالها من طريق نظرة صافية تُلقى على الفجر الذي يستيقظ على أصوات الجاموس والبط والطيور المائية، أو من خلال ضربة كفّ سعيدة تقع على المياه الساكنة من أجل أن يستيقظ السمك، ومعه تستيقظ حوريات البلاد التي غطست منذ الاف السنين. لذلك يفضّل المعيدي أن يحلّق في السماء السابعة على أن يمشي بقدميه في شوارع اليابسة المحيطة بالأهوار. شيء من طبيعته يجعله قادرا على التحليق في الوقت الذي لا يكون فيه قادرا على المشي على اليابسة. لا أبالغ إذا ما قلت إن المعيدي لا يعرف المشي الذي نعرفه. فهو حين يمشي يقفز مثل طيور الماء. تكاد خطوته لا تقع، ذلك لأن قدمه لا تمسّ الارض بقوة. كما لو أنه يمشي على حبل وهمي، لذلك يرتّب خطواته قبل أن يقدم على المشي فيفشل. كائن لا يمكن استعادته بيسر. لنتخيل شعبا عاش الاف السنين في المياه من غير أن يحتاج إلى اسواقنا ولا إلى مستشفياتنا ولا إلى مدارسنا ولا إلى أفكارنا ولا إلى محاكمنا ولا إلى شرطتنا ولا إلى مصارفنا لكي يدير شؤون حياته. شعب وهبته الطبيعة كل ما يمكن أن يكون مادة لحضارة من نوع خاص، هي الحضارة التي اصطلح زوّار الأهوار الغربيون على تسميتها بـ"حضارة المعدان". وإذا كان سكان الأهوار عامة هم من المسلمين (هناك المندائيون الذين يؤمنون بالدين الصابئي) فإن اسلامهم يخلو من التعصب أو التطرف أو التشدد، وهذا ما سمح للمرأة هناك بأن تحتل مكانة لافتة في المجتمع. لقد رأيت نساء يخرجن الفجر إلى العمل. ما من وجبة فطور طازجة أشهى من القيمر (القشطة) والسياح (الخبز المصنوع من طحين الأرز على الصاج). غير أن المعيدية وهي واحدة من أجمل نساء العالم بالعيون الزرقاء والخضراء والقامة الطويلة، ليست مجرد ماكينة لخيال الطبخ، بل هي تخرج للصيد وجمع الحطب وقطف القصب والترويح عن الجاموس. تفعل ما يفعله الرجل وأكثر، لكن بأناقة فاضحة. هي التي تجمع في شخصيتها الغنج العميق بالقوة المستبسلة. من خلالها يمكننا التعرف الى رومنطيقية أمم بائدة، كان في إمكانها بيسر أن تنتج ملكات من نوع شبعاد. "مشحوفي طر الهور"، تضحك المعيدية بسريرة صافية. "لا تزال صغيرا على الغزل"، تقول لي. حين أتذكر أني كنت في العشرينات من عمري يوم وقعتُ مغشيا من الحب، تزحف المياه إلى زرقة ذاكرتي. كانت بنت المعيدي اسطورة شعب نائم على الحكايات الملغزة. قيل إنها كانت تجلب القيمر إلى المعسكر الانكليزي حين رآها الضابط فوقع في غرامها. ليلى كان اسمها، ويقال إنها بدرية. أنا أفضّل الاسم الثاني لأنه اسم امي. اتفق الضابط مع بدرية على الهرب معا إلى لندن. هو يهرب من مهنته وهي تهرب من أهلها. ليس أمامهما لتتويج حبهما سوى الهرب. في لندن لم يكفّ الزوج عن رسم زوجته. مرضت بدرية من الحنين إلى حياتها في الأهوار وماتت. غير أن صورتها المرسومة بيد عاشق ملتاع، صارت ايقونة. في كل بيت عراقي، هناك صورة للمعيدية التي غدت إلهة للحب بعدما ماتت من الشوق. رأيتُ صورتها للمرة الأولى في متاع جدتي، وبعد سنوات اكتشفت أن أمي تحتفظ بتلك الصورة في صندوق خشبي صغير يضم أغلى مقتنياتها وأعزّها. حين ذهبت ذات يوم إلى مسيعيدة، وهي قرية تقع على ضفاف الهور، رأيت العيون الزرقاء التي تقتلع المرء من طمأنينته بضحكاتها. "هي ذي المرأة الكاملة لا رمزها ولا اعلانها ولا أيقونتها ولا بقاياها"، قلت لنفسي وبكيت على سنواتي التي أمضيتها بعيدا من ذلك المكان. جنة الملوك في لندن لهم قبر إذاً. المعدان سبقونا إلى هناك. كل ما في ايدينا أن نذهب سائحين إلى هناك. كان الرئيس العراقي الراحل صدام حسين قد اعترف ذات مرة بأنه اغلق ستارة نافذة الطائرة حين عرف أن الطائرة قد هبطت في لندن، يوم كان قادما من كوبا. يكرهها ولا يطيق أن يرى منها شيئا. هو محقّ حين يتعلق الأمر بسياسة بريطانيا في العراق يوم احتلته بعد الحرب العالمية الأولى ويوم تآمرت عليه لتحتله مجددا، حليفة للولايات المتحدة عام 2003. ولكن هل كره المعدان لندن؟ بالنسبة الى المعدان فإن لندن لم تكن سوى مكان على اليابسة. الخطوة التي تأخذهم مخدوعين ويائسين إلى العمارة أو الناصرية أو البصرة، هي ذاتها التي تأخذهم إلى لندن. ما الفرق؟ لن يكون المعيدي معيديا خارج الهور وهو فضاؤه الروحي. لقد قيل الكثير في أصل المعدان. ربما الأقرب إلى المنطق أن يكونوا أحفاد السومريين. لِمَ لا؟ كانت أور تطل على الماء. كانت الطريق سالكة بين أور (المملكة) ودلمون (المقبرة - جنة الملوك). ومثلما لا يجيد المعيدي المشي على اليابسة، فإنه يكون آخر حين يضطر إلى العيش في مدينة. في بلاده، المعيدي لا يخون ولا يبخل ولا يغدر ولا يضجر ولا يتآمر ولا يخلف وعدا ولا يخاف سوى ربّه ولا يخضع إلا للقدر ولا يمتهن كرامته ولا يقبل بالذل. كائن مستقل وحر وكريم ومكافح. المعيدي هو مرآة خرافاته الصادقة. كره المعدان لندن. لأنها سلبتهم واحدة من جميلاتهم. حين أنظر إلى صورتها أقول لنفسي: "موناليزا الخيال العراقي وقد اكتشفها عاشق انكليزي". صارت تلك المرأة أثرا. مثل الثيران المجنّحة ومسلة حمورابي وتمثال الكاتب غوديا وحلى الملكة شبعاد ومكتبة آشور بانيبال. مشيت في شوارع لندن وأنا أبحث في وجوه النساء عن وجه ابنتها، حفيدتها، المرأة التي تركت فيها المعيدية، معيديتنا، شيئاً من أنوثتها. لو أني رأيتها هناك لصرختُ من أعماق روحي: "صلّوا على محمد" . |