المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
30/08/2010 06:00 AM GMT
النص الآتي، بقدر ما يمثل يوميات شخصية تنطوي على مكابدات امرأة تخوض حربها الخاصة دفاعاً عن حياتها وعملها الثقافي، فإنه يعكس حياة عامة يعيشها العراقيون وهم يعبرون اللهب محتمين بذاكرة ثقافة عريقة دونما تخلٍّ عن مراودة الحلم. يوميات، هي قبل كل شيء، قراءة للمكان تحت وطأة التناقضات والتشوش والمفارقة، أكثر منها قراءة لوجع بشري، ففي الحروب التي استباحت أعمارنا منذ 1980، لبث المأسوي الفاجع يجاور الهزلي التافه ويحاصرنا أنّى اتجهنا، عابراً الزمن ومكتسحاً فضاءاتنا وجهاتنا، حتى لكأننا كنا نعيش فصول ملهاة ركيكة يديرها مخرج سادي يمازج بين التعذيب والهزل الفاضح ونحن نواصل تأثيث حياتنا المبتورة بغرائبية أحوالنا وجنون الأحداث وميلودرامية الحلول السياسية. في خضم هذه الفوضى والتناقضات، كان لا بد لي من أن أدمج النبرة الذاتية برؤية كونية ذات مسحة مؤسطرة، علّني أضيء النقطة العمياء في المرأى المرتبك. كتابة الحرب تشبه أن نحتسي اللهب بكأس من جمر، وها أنا أرفع الكأس كمن ترفع نخباً وأهمس لنفسي: لا، لا تدوّني الحرب يا امرأة حتى تموت الحروب. الحرب مثل حكايات الحب، لا تنكتب إلا بعد أفولها، سوى أن كتابة الحب توقظ تاريخ المتع ورعشات العشق بينما تنفث كتابة الحرب سمومها في اللغة ورجفة الجسد، وحربنا التي ترتسم وشوماً على جلودنا وتغتذي على الدم وشجن النساء وعويل المدن لا تزال ماثلة في المدى بكل براهينها، فكيف لي أن أدوّن فناء الإنسان ومحنة الجمال، وسوق الموت لم تقفل مزاداتها المعلنة؟ كيف أكتبها والميادين مجتاحة بالأنين والجداول مترعة بالملح لتوفر لنا احتياطيا استراتيجيا من الدموع؟ لم آبه للتساؤلات، لم أعثر على إجابة، لكني أتقدم في الشفاء وابرأ من تاريخ الألم بتدوين الحكاية. هذه مقاطع مستلّة من كتابي غير المكتمل "مذكرات الحرب والمنفى"، الذي استبد بي وطاردني طويلاً وحمّلني ذنوب بلادي وتاريخ الألم. تهرّبت منه وراوغته وهو يتربص بي مثل قاطع طريق. خنته بكتابة روايات وكتب أخرى لكني لم أبرأ من تاريخ الألم. ولكي أحرر نفسي من إرثه الباهظ، كان عليَّ أن أكابده في استعادة موجعة، وأكتبه لأشفى منه. لم أكتبه لأنني أمجد الألم أو اسعى الى تحويل فظاعة الحرب أيقونة نتداولها، فهذه الكتابة نوع من ممارسة سحرية للخلاص بالكلمات. لم أكتب مذكرات الحرب لأضع الأشياء في نظام معيّن أو أصف المعارك أو أرثي المستبدين أو أتغنى بالحرية المثلومة، ولم أدوّنها لأعارض مبالغات الإنكار وتمارين تبرير الحروب والاحتلال التي يلعبها هواة التحليل السياسي وبعض الكتّاب ممن يحدقون الى النقطة العمياء، إنما أكتبها مستجيبة لغواية الأمل وشهوة النسيان.
الاثنين 14 نيسان 2003
من نوم قلق يشبه انتحاراً فاشلاً، يوقظني وهج حريق تحمله الريح الى غرفتي. لدى الفجر اقتحم مشعلو الحرائق المخزن الحكومي المقابل لمنزلي وأحرقوه، نهبوا قبل إشعال النيران ثلاجات ومدافئ ومبردات هواء وادوات احتياطية ورخاما وسجادا وأشياء يجهلون ما يفعلون بها. لو امتدت النار الى شجر الحديقة لاحترق بيتي واشتعلت تعريشات الياسمين والجهنميات على ارتفاع الطبقتين أولا ثم احترقت النوافذ والستائر. يا للجنون، سيارات الاطفاء - إن وجدت – لا تنجد المنازل في الضواحي، ولكن كيف أستدعي سيارة اطفاء ولا هواتف تعمل في المدينة؟ أرتقي السلّم بقفزات جنون الى الطبقة الثانية، عبر النوافذ التي تحطّم زجاجها يلفحني وهج النار، ألسنة اللهب تطاول أشجار الكافور على الرصيف، تصوّح أغصانها في الوهج وتتهاوى، موجات الدخان تضبب الغرف العلوية، أشهق روحي بسعال جارح، استعمل بخاخ "فنتولين"، على عجل ارتدي ثيابا قاتمة كملابس راهبة في حداد وأخرج الى الجحيم الشاسعة فرارا من بؤس الموت حرقا. ان أموت الان فذلك موت بلا قضية، أن احترق مع الشجر والستائر، فتلك خديعة رخيصة من خدع الموت. هل كنت أحلم بميتة مختلفة؟ هذا بطرٌ غير متاح لأمثالنا. يا لعقم الأمل في نهارات الحرب. الأصدقاء لا وجود لهم، كل أحد معنيّ بمصيره الشخصي. الفوضى الخلاّقة تغلي في النفوس والشوارع وسموات المدن. قبل خمسة ايام اهدروا دم الثقافة بحرق المكتبة الوطنية ونهب الوثائق. محو الهوية وجعل الفراغ، بداية لزمن كابوسي بلا جذر تاريخي.
الجمعة 25 نيسان 2003
أعبر جسر الجمهورية إلى ساحـة التحرير. شجر ناعس تحت غبار عاصفة حمراء، نصب الحرية مكبل برائحة الرصاص وبخار الموت، الكتل البرونزية المعلقة كالأضاحي فوق النصب تنز دموعا ورملا أحمر، الحرية حزينة كمراهقة فقدت بوصلة الجسد في دوار التفتح، لا أحد يفقه ماهيتها ولا أحد يحميها من جنون عشاقها الحمقى، وعد الحرية بلغ عتباتنا فإذا هو كصفقة مختلة، كشراء كثبان متحركة في ليلة العاصفة. بسيارة تاكسي عتيقة اقتنع سائقها بالمجازفة بعدما أغريته بمضاعفة الأجرة، أجتاز عددا من نقاط التفتيش التي تستوقفنا بإطلاق الرصاص من البنادق الكلاشنيكوف، احتمال الاصابة والموت يقودني الى قدر أتوقعه، قد تصيبنا أنا والسائق الغضوب رصاصات عشوائية من أحدهم لحظة وقوفنا، السائق يهمهم: تورطنا، ما كان لي أن اعبر إلى جانب الرصافة، ورّطتني يا بنت الناس، لو احترقت سيارتي من يعوّضني؟ من يعيل أسرتي؟ المدينة تحلم ان تكون بغداد أخرى، في حلمها ينتابها جنون فاتك، وعلى الارض تركع بنات يافعات يبيعهن النخاسون تحت نصب الحرية، صبايا مخطوفات حجبوا وجوههن عن المارة واحاط بهن ملثمون مسلحون، يزايد عليهن تحت ظل النصب الرخامي رجال بدشاديش ناصعة ويصحبون بعضهن في سيارات مظللة النوافذ الى المجهول، يعبرون بهن الحدود إلى الجنوب والغرب، إلى الصحراء، إلى متاهة عبودية سوداء في بلاد عربية بلا قلب، الصفصاف الباكي ينحني على صورة المأساة، بنت في الثالثة عشرة او اكثر قليلا كانت تنتحب وتخمش وجهها يأسا وتنادي: "يا با يا با خلصوني منهم يا با". صوت طائر الشقراق - طائر اينانا الكسير الجناح - ينوح في المشهد، مرددا مرثيات إينانا لأهل البلاد التي حلمت بفردوس دلمون فإذا بها تغوص في وحل البدايات الفادحة. ممرات بيتي انخسفت بعد سلسلة انفجارات في شارعنا، نتأت البلاطات وحدثت صدوع في ارضية الغرف، أتعثر طوال الوقت وسط الظلمات، الهياج يعم كل شيء، قطعان العنف المخبولة تقتل امرأة في الحي القريب بعد اغتصابها وتلقي بالجثة على الرصيف (اسجل احداثا مروعة احتفظ بها لعمل روائي مقبل).
الخميس 1 أيار 2003 نصب الحرية والسحر الاسود
تنشر الصفحة الأخيرة لجريدة "الزمان" لقاء مع منجم مشعوذ في عددها الصادر اليوم الخميس 1 ايار 2003، يستوقفني في اللقاء أمران: الاول: اللهجة التحريضية للمنجم بدعوته علانية وبلا مواربة إلى ازالة "نصب الحرية" الذي يعدّ أهم منجز فني عراقي معاصر ومعلما تاريخيا وسط ساحة التحرير في بغداد، بدعوى انطواء العمل علي ما دعاه المنجّم بـ"السحر الاسود" وهو الذي يتسبب بسوء طالع مستديم للبلاد، يقول المنجم: "يجب ان يرفع من ساحة التحرير في بغداد تمثال مشؤوم فإن بقي فستبقى مشكلة العراق قائمة، أزيحوا هذا التمثال لأنه سحر أسود ولو حللنا رموزه لوجدنا انها طلاسم من دون معنى. لكنها تجلب اللعنة فارفعوه لكي تعيش بغداد بسلام". الثاني: إغفال المحاور التعليق على مقولات المنجّم التحريضية كأن لطرحه قوة القول الفصل والنهائي في تقرير مشكلة العراق ومصيره، الذي وصلت مأساته حد ان يتدخل المنجّمون والمشعوذون والسحرة في مصيره والمطالبة بتدمير معالم ثقافته المعاصرة. بتبسيط ويقين مطلق يقرر هذا المنجّم الذي كدّس ثروة من الشعوذة، ان مشكلات العراق وعذابات اناسه وموضوعة الحريات العامة والعزلة الدولية وتدجين البشر تعود جميعها إلى "لعنة" هذا النصب، وان كارثة البلاد المستمرة منذ خمسين عاما معلقة في عنق النحات الكبير الراحل جواد سليم. يا لهول ما سيأتي. يا لهول الغد الذي تكبله الخرافة وفتاوى تدمير الثقافة.
الخميس 8 ايار 2003 النفط أخي وغريمي
ذخيرتي من الشموع تكاد تنفد. جسدي يرتعش في رجة الهلع، اتأمل نفسي في المرآة المضببة فلا أعرفني، امرأة غريبة تسكن الجسد الحزين، لا أتفجع ولا أبكي. الروح وحدها تنشج، لا انتحب بل أتدبر أمر كتابة مقالة طويلة عن "نصب الحرية وهذر المنجّمين". نور شمعة هزيل يرعش الظلال على الستائر. هل سيتاح للمشعوذ وقبله القاتل أن يشطب أجسادنا المنتحبة من لائحة الأحياء هذا المساء او ضحى يوم خارج التقويم؟ في السكون المريب بعد الانفجارات انصت الى نحيب الجسد، انصت الى الخوف يتردد لازمة موسيقى تطفح مع الانفاس. أجسادنا، ما أجسادنا؟ هلام يتشكل ويتجمد في عتمة الغرف والروح ضوء كتيم محبوس في الزوايا، أجسادنا مجبولة من نفط ودم، ما عادت الحياة تليق بنا أو نليق بها، مثل البلد إلا قليلا فنحن لا نشبه إلا البلاد التي اكتمل جنونها، البلاد التي ليست لنا، البلاد التي ليست لأحد. يرنّ جهاز تلفون الثريا، الشيء الوحيد الذي يربطني بالعالم، أهرع إلى الحديقة لعلني استطيع التقاط المكالمة في الفضاء المفتوح عند شجرة النارنج، صوت إبني يهاتفني من سويسرا: ماما، ما كان لك ان تبقي وحيدة في الجحيم، كفّي عن عنادك واخرجي من بغداد. - لا تخف، لا يزال الموت في منأى عن خطوتي. بعد المكالمة انتحب وحدي، كنت اكذب، أكابر أمامهم، أمام الموت، أمام القاتل المتربص بي، أدّعي بسالة لا أملكها، ارتعش هلعا وأخاف الموت كجميع الخائفين. علام أبقى هنا وأقترف النكران؟ أأخادع نفسي الأمارة بشجاعة زائفة؟ اضع في حقيبة صغيرة نسخة واحدة من جميع كتبي المنشورة. عشرون؟ اكثر قليلا، سأحملها معي عندما يحين الفرار. أول الضحى، يدفعني الخوف الى الخروج من زنزانة البيت لأقف في صف طويل تحت عاصفة ترابية خانقة قرب محطة الوقود لعلني أحصل على خمسة ليترات من النفط الثمين او البنزين الذهبي لأشغل "الجنريتر" وأحظى ببعض كهرباء. لا أعثر على خبز لدى باعة الارصفة، المخابز مغلقة، والدكاكين أحرقت على الهوية، حيواتنا يلتهمها الوحش المولود من يأسنا. أشباح النساء المرعوبات تركض محجوبة بالعباءات والشالات السود. يا للمفارقة. بعض الصبيان يلعبون الكرة في الشوارع المقفرة، والمقاتلون العرب يتقافزون بين اسيجة حدائقنا ووراءهم خطوط من دم وأنين. النفط يتفصد من غرين أجسادنا، أشمّ عبقه الثقيل يسيل بين رعبي وأرقي ويلطخ وسادتي. يجري نهر لهب ويحرق أبعد أحلامنا ثم يتفتح ترفا ويخوتا وطائرات خاصة وغانيات في جهات الآخرين، النفط لحم الجسد وعصب البلاد وهو ليس سوى خدعة الماس السائل ينبثق ذوبا من قلب الأرض وليس غير شهقة إمرأة تنوح عند الباب الوسطاني لسور بغداد بعد مقتل ولدها، ولا تبصر غير رماد تذروه رياح الجنون. لا تسمع سوى انين السلالات الموسومة بختم الزوال. مساء الوحشة المرقشة بالرصاص، اعزز أبواب البيت بالمزاليج والاقفال، أكمن في احدى الزوايا بعيدا من مرمى رصاص المتقاتلين، أتعطر بالنفط، أشهق أنفاسي بالبنزين، أنام في رداء الغاز كمومياء مشتعلة. يعلم النفط أنه سيد سادات العالم، وبه تدوم الدول أو تزول، ترى من أي بئر يستقي الموت خلوده؟ من يدل الموت كل آونةٍ على رائحتنا؟ أهو النفط أم لعنة تموز تلاحقنا من جيل الى جيل؟
السبت 4 ايلول 2004 دعوا السفينة تغرق
قالوا: ذلك شرط التراجيديا. دعوا الطوفان يطغى، ذلك شرط ظهور المنقذ وقيامه من غيبته. خضّبوا المدن واللغة بالدم ليقوم هادي الأنام من سباته. قالوا: علّقوا رؤوس النساء على باب الطلسم في سور بغداد، فتلك بشرى الخاتمة ودنوّ الخلاص. تناثرت الأقاويل والتأويلات حول ملاّحي السفينة الغارقة، نفى الكثيرون قصة الفلك، قيل إن رسول الخلاص لم ينشئ الفلك من القصب ولم يطل قاعه بالقار كما أمره الصوت السموي، ولم يحمل من كل الكائنات أزواجا. ماذا صحب الملاح في الفلك المنكود؟ أذكورا مخصيين، أم نساء عواقر، أم مسوخا ستسود الأرض بحدّ السيف، أم أزواج مومياءات وحبوب منع الحرب؟ لا أحد في وسعه معرفة الحقيقة. قيل إن الملاح حشد الفلك بالطلاسم وكائنات النار والتمائم، فما عدنا نراها أو نميزها عن لجج الموج. قيل إن الفلك شفّاف يعبره البرق كبلورة صافية، فأين الكائنات؟ في وسعنا أن نصدّق هذا كلّه إن شئنا السلامة، أو نشيح عن قصة الغرق وننسى الخديعة ونتابع سيل الحكايات التي تروى كما يروق لملفقي التاريخ ومعلّقي الفضائيات، غير أن الناس لا يزالون مشغولين بتأويل الحكاية والارتياب بالتفاصيل وتأويل التأويلات والظنون. صبي واحد كان يرقب فوضى التفاسير ويسخر من ظنوننا ويتفرج على حيرتنا وهو مستلقٍ تحت "نصب الحرية" يرسل اشارات هزء بنا. هل السخرية تعويذة الفتيان ضد الهلاك المباح؟ من علّم الفتى العابق باللقاح أن الفلك أكذوبة من صنع يأسنا؟ أهو الذي أوحى لنا أن نحلم أحلامنا لنفقدها في العصف؟ ومن تراه لقّن الفتى حكمة أن لا يؤمن بحكمة أبداً؟ لم نسأله، كان منشغلا بلهاثه، لم نقترب منه، كان يستحلب النشوة من فورة الجسد الفتي فيطفح منه الزبد، لم نره بعد انبثاق الشرر من الأصابع، أشعل الحرائق واختفى فيها.
الأربعاء 3 تشرين الثاني 2004 مقام الحيرة والأين: كلهم أكلهم الذئب
هذه ليست بغداد حاضرة النخل وروضة الفل والرمان. اللافتات السود تبوح بمدينة محذوفة من جوهر الرؤيا ومغلولة الى بوابة الهلاك. هذه ليست ساحة التحرير لولا صرخة المرأة الثكلى في "نصب الحرية". هذا ليس الباب المعظم لولا اطلال كلية الهندسة، وهذه ليست الصالحية لولا خرائب مسرح الرشيد، وذاك ليس جسر الجمهورية لولا انقاض وزارة التخطيط، وهذا ليس شارع النضال لولا الأطلال الحزينة لبارك السعدون، وذاك ليس سوق الشورجة لولا عبير التوابل وشذى البخور والحناء ووصفات السحرة. واحسرتاه، هذه ليست بغدادنا، هذه ليست مدينة البهجة وشجن المقامات. آه يا أخواتي الآتيات من نفر واور والوركاء والسماوة وسامراء ونينوى وبابل، أيتها العرائس القادمات من بيت الفرح ومعبد الرغبة في اشنونا وبورسيبا وواسط، هذه ليست مدينة احلامكن المخضبة بالحناء والقرنفل. الخطيئة ضربت هواءها منذ سبعمئة حول، وتمترس الموت في جهاتها منذ ثلاث حروب. واحسرتاه، يا أخواتي القادمات من اريدو وآشور وبسمايا ولارسا واكد، هذه ارض الشقاء والشؤم والاهراء المملوءة قمحا والخزائن المكدسة ذهبا ولازوردا وعقيقا. هذه ارض القصائد وبطش الطغاة والغزاة وصداح الموسيقى وأرض الالام وترانيم الحب وهدر الدم، البلاد التي انبتت الشعراء والعارفين هي ذاتها التي انبتت المستبدين واللصوص، بلاد المراثي واغنيات العشق، التي بددها جنون ساستها منذ الف عام. هذه دار الحرائق والنار تمضي من شجرة الى مئذنة ومن قمر مشنوق الى مجزرة ومن عباءة حرير الى نافذة. واأسفاه يا أخواتي، يا بنات سومر وسيدات بابل وفاتنات آشور ومترفات الرصافة، البلاد مرصودة للرزايا والذباب، مهدورة اللغات لا صوت يسمع عند العتبات ولا ضحكة تتدحرج في الاروقة، لا أحد يرى في دروبها المظللة بالرصاص. أين مضت حشود الفتيان؟ اين البنات الساحرات يجدلن ترانيم الشوق في الشرفات؟ اين البلاد؟ اين المدينة؟ اين اللغة؟ اين النخيل؟ اين الطرق المزينة بالآس؟ اين الخزائن المكدسة بالفضة والعقيق واللازورد؟ اين المآذن؟ اين المحاريب والنفط؟ أين السدر؟ اين البنات اليافعات في شارع النهر؟ اين العشاق في كورنيش الاعظمية؟ اين المقاهى الغاطسة في احضان دجلة؟ اين الماء؟ اين القطارات؟ اين الاغانى الشجية والمواويل؟ اين الحليب؟ اين النبيذ؟ اين متحف الفن الحديث؟ اين الحرية؟ اين اشجار الزيزفون واشجار ملكة الليل؟ اين الاصابع ترجف من نشوة؟ اين الشغف الذي يذوب في نبرة المغني؟ اين الذاكرة والمتحف العراقي؟ اين اسماء الاشارة؟ اين الجغرافيا؟ اين حلوى العيد؟ اين المتنبي وتمثاله الاسيان لفرط الوحشة؟ اين المكتبات؟ اين الشهور والتقاويم؟ اين الاوز العراقي والبجع المطرود من جنانه؟ اين الرغيف ؟ اين شجيرات الغاردينيا وعباءة الحرير الموشاة بالشعر والتمائم؟ اين باب القشلة وساعة الوالي؟ اين سينما غرناطة؟ اين منتدى المسرح وترنيمة البجع الاخيرة؟ اين شارع الرشيد بمقاهيه وواحات انسه؟ اين قاعة الشعب للرقص الشعبي وباليه الحسن البصري وكسارة البندق؟ اين بهو الامانة وحفلات الكوكتيل؟ اين البلابل والببغاوات في سوق الغزل؟ اين سينما الخيام ولوحات الرباعيات؟ واين زوارق العشاق في دجلة؟ واين الماء في جرار كهرمانة ولصوصها الاربعين؟ اين حدائق الورد وباعة الزهور في ساحة بيروت؟ اين اللهفة والرغبات؟ واين ابو نؤاس وكأسه الخاوية الا من ثمالة دمع؟ اين قاعات الموسيقى؟ اين الجهات الخمس؟ اين البغداديات العاشقات يترنحن عند الغروب على النهر؟ أين شاي الساعة الخامسة مع الأحباب؟ اين غمائم عطر المتبخترات امام المسرح الوطني؟ اين كل أين يا اخواتي؟ اين الابناء واين النساء واين الرجال؟ واحسرتاه يا أخواتي. أجميعهم أكلهم الذئب؟
الاثنين 12 ايلول 2005
وحيدة أطوف شوارع البلد الذي يلفقون زمنه من نفط ودم وخرافة، هويتي خريطة قديمة مرسومة بالزعفران لبغداد العباسية أحتفظ بها داخل مغلف جلدي في حقيبة يدي مع وثائق قد تفشل في إثبات شخصيتي اذا ما تعرضت للموت على نحو مفاجئ، لا اصدقاء في وحشة الحرب، الصداقة انزوت في أنانية الارواح المستفزة، لا أحد، لا مقدسات بعد يدّعيها العشاق والاصدقاء، مقدسهم الوحيد ان يمدّوا حيواتهم برهة أطول في حفل الموت الصاخب، لا قيمة لما يدّعيه الكتّاب عن القيم وصناعة الامل. بأيّ مادة يُصنَع الأمل، والرماد وحده يغبر وجوهنا ويحدد مسارات الدموع؟ الاعاجيب توارت، جسدي يترمل كل ليلة في رائحة الرصاص فأموت ميتات ناقصة تشل وعيي وتبلبلني. في طريقي إلى عملي في المجلة، أخفي حقيبة أوراقي والكتب التي أحملها في كيس بلاستيكي قاتم حتى لا أثير شهية القتلة لدى رؤية إمرأة "تقرأ" المحرّمات وتعبر المدينة وحيدة بين الميليشيات. الطرق متاهات رعب، تاريخ يتقافز فيه الموت على حبل من خدع السياسة النتنة. أفاعي الشهوة تنسل من أذيال العباءات والعمائم وتسعى وراء رائحة النساء، جلابيب البنات المسرعات تفوح بالخوف وعرق المراهقة فيتبعهن الرجال الشبقون والخاطفون بأقراص الحلوى المخدرة وخشخشة النقود، النساء الناضجات يدخلن نهار الديموقراطية مترملات ثاكلات، وحدها اشجار الكافور المعمرة في الباب الشرقي تجاهد لترشّ نهارنا بشذاها المرّ، سفينة نوح – زيوسيدرا – تترنح في طوفان الهلاك، تغرقها تفجيرات المجاهدين ورصاص "بلاك ووترز"، تضيع السفينة في طوفان البلاد فلا تلوح منها سوى قلوع مدماة، تغطس الى قاع النسيان، ينسانا العالم بأجمعه ويشيح العرب بوجوههم وهم يتفرجون على هلاكنا، والكل يفتك باللحظة المائلة.
السبت 1 تشرين الاول 2005 المنام الذي يدعونه تاريخا
وحدي وسط طوفان النفط والانفجارات التي دكّت المباني وحوّلتها مدافن. أقطف زهور البوهينيا الليلكية وزنابق ملكة النهار وما تساقط من شجرة الياسمين لعلني أموّه رائحة الدم التي تفوح في أزقة الظهيرة، من ثقوب السفينة الغارقة بنا رأيت الدم يتسرب الى دجلة حتى اصطبغ الماء بأرجوان الغروب وسُميّ النهار نزيفا ونكأت العاصفة جرح الزمان. قال البعض إن السفينة محض وهمٍ، الذين كانوا يرصدون النجوم ويحاورون الشعرى اليمانية وبنات نعش السبع النادبات، كانوا يحدقون الى الأعالي والنهر طوفان دم يطغى على النخل والجبل والمنائر والاديرة والعمائر والسهول. قالوا إن سفن النجاة خدعة والرؤيا مصيدة والرحيل فخ للإيقاع بالبصيرة. قالوا ليس لك سوى الفرار، احملي زوادة خبز وتمر وزمزمية ماء واتبعي درب المفازة بين الشام والعراق أو بين وادي رم وبعلبك. تريثت، ارتبكت، لم يكن الخبز غير غواية الرغبة، ولم يكن الماء غير خديعة العبور إلى المتاهة، لست أكيدة من صواب قراري والبلاد تقضمها النار من جنباتها، تشوى على مهل وتختفي السهول وبوابات نينوى وزقورات اور، نتخثر سلالة بعد سلالة في المحرقة، فضاء الخرافة يضج بالملوك والخلفاء والمحظيات والمدّاحين واللصوص، لا أحد يصحو من المنام الممتد الى ما لا نهاية، المنام الذي يدعونه تاريخا ويحشوه المؤرخون بالاحداث الملفقة وحوليات ملوك، فإذا صحا أحد من هذا المنام، عاجلوه بترياق من ذرور الشهوة ومسك الغزلان ورحيق الخشخاش وأعادوه الى سباته الآمن في خرافة التاريخ ورتّلوا في مسامعه: نم حتى يظهر الغائب من غيبته الصغرى ويهدينا سواء السبيل. تأتي أعاصير لهب وتأكل ايامنا، رجال بسحنات غامضة يقلمون أرواحنا بكماشات أطلسية، ويجمعون النفط المتدفق من سلامياتنا المبتورة في سفن وصهاريج ويختمون على أيدينا بماء النار. الرجال المارينزيون شقر وسود وخلاسيون يسكرون بما يفيض من أرواحنا المنتحبة ويقلبون أجسادنا على السفافيد بتخويل من حاكمية الأمم. رائحة الشواء تثير شهية الضباع في الغابات المجاورة والرجال المخمورون يتبادلون الأنخاب فوق حدقاتنا، يمرّون فوق دباباتهم المحصنة امامي وانا أروي شجيرات الورد والآس في الحديقة قبيل الغروب، يحدقون اليّ وفوهات بنادقهم مصوّبة نحو الباب، نحو رأسي، يتجمد دمي في عروقي وأكابر ثانية وثالثة حتى لا يشمّوا رائحة غضبي وخوفي. أهذي بلا صوت: أتبحثون عني أم عن الحياة ذاتها لتردوها قتيلة أول المساء؟ اصحو من كوابيس النوم ولا افيق من كوابيس التاريخ، اصحو من الخوف المكثف تعصف بي رجفة أوصالي وأسمع الموت يجرجر خطاه الحذرة متنكرا بقناع عاشق يطرق نوافذي بزهرة جريحة .
|