الموت، سهواً : السهو الاختياري

المقاله تحت باب  في السياسة
في 
30/08/2010 06:00 AM
GMT



في جلسات المحكمة الاخيرة أعرب بعض قادة النظام السابق عن دهشتهم لوجود مجازر وانتهاكات للحياة والحقوق الانسانية وهو أمر ليس جديدا، فلقد حدث في محاكم نورمبورغ ورواندة والصرب الأمر نفسه والاستغراب نفسه بل ان هناك من قال في تلك المحاكم إنه سمع بهذه الفظائع لأول مرة.

ظاهرة هذا النوع من السهو تتجاوز اعترافات هؤلاء في مؤسسة الحكم الى اعترافات قادة وزعماء أحزاب اختاروا هم أيضا هذا النوع من الاعترافات المتأخرة بعد أن بلغوا من العمر عتيّا ً وتلاشت المصلحة الذاتية أمام رهبة الموت واقتراب الاجل قبل ان ينكشف المستور من قبل الاجيال القادمة وبصورة خاصة ظاهرة مذكرات اعضاء في الحزب الشيوعي يسمون في التقليد العقائدي الحزبي منشقين عن الحزب وهي تسمية ملطفة من قاموس معروف خفت حدته مع الوقت بعد ما لم يوفر شيئا من التهم في السياسة والاخلاق للمختلفين في الرأي وربما لم يعد هناك من يشتري هذه البضاعة الفاسدة بل وليس هناك من لديه الرغبة في ان يبيع لأن السوق صار في أمكنة أخرى وأهواء أخرى، كثير من هؤلاء اعربوا في مذكراتهم عن قرارات مصيرية حزبية هامة اتخذت بلا علمهم أو بلا رغبتهم في افضل الأحوال، وبعد هؤلاء جاءت ظاهرة بعض الاعترافات الخجولة من مثقفين وكتاب ونخب وطنية تتعلق بدهشتهم هم ايضا بكل ما كان يدور في البلد خلال الفترة الدكتاتورية حتى ان محافظ نينوى في ذلك الوقت ـ طاهر توفيق ـ قال علنا في المحكمة إنه لم يكن يعلم بوجود مقابر جماعية في نطاق مسؤوليته الادارية، وبعض الكتاب قال إنه كان لا يعلم بضرب حلبجة بالاسلحة الكيمياوية الا بعد الاحتلال حين سمع بالمجزرة وبالخلوي والانترنت لأول مرة، أيضا، ويتكرر السماع الطارئ أو السهو عن المجازر اليوم ايضا حيث يؤكد مسؤولون بين وقت واخر عن دهشتهم من الحديث عن مقابر جماعية جديدة ومجازر وحالات تعذيب في السجون الوطنية أو سجون الاحتلال وكالعادة يعلن هؤلاء انهم يسمعون بذلك لأول مرة.

لا نريد الاستغراق في تقديم الامثلة وهي وافرة عن ظاهرة السماع لأول مرة أو الاعراب عن الصدمة والدهشة المتاخرة لأن الأمر سيطول ونكتفي بهذا القدر لأنه يكفي لتوضيح ظاهرة ليست جديدة على البشرية وهي ظاهرة( السهو الاختياري) التي تحدث عنها عالم التحليل النفساني والفيلسوف الألماني الأمريكي الجنسية اريك فروم في كتابه( ما وراء الأوهام) ومصطلح ( السهو الاختياري) هو من صياغة المفكر.ه.س. سليفان، ويقول أ.فروم( ان مثالا عن هذه الآلية ـ آلية كبت الحقائق ـ هو ظاهرة أن ملايين الألمان بما فيهم زعماء سياسيون وجنرالات يدعون أنهم لم يعرفوا شيئاً عن أشنع فظائع النازية... على أن اولئك الذين قالوا هذا نسوا أن عند الانسان القدرة على ألا يرى ما لا يريد رؤيته... المسألة هي مسالة صورة أخرى للكبت حين يتذكر شخص ما أوجهاً معينة لحادثة ما ولا يتذكر وجوها أخرى). ليس الأمر بعيدا عن الصدق ولا يستغرب ان يكون هؤلاء قد نسوا تلك الوقائع بعد ان تم نفيها عميقا ًولكن البراءة لا تتحقق عبر النسيان ولا من خلال السهو وهي حيل دفاعية دماغية للحماية والوقاية في لحظة حاسمة من حياة الانسان لأن البراءة تتحقق داخل الذات أولا حين يشعر الانسان بنظافة داخلية حية وواقية بصرف النظر عن ضجيج الخارج، وثانيا، ان البراءة من مسؤولية ما لا تتحقق من خلال الهروب الى الأمام بل عبر مواجهة الحقائق.

اذا كان الذين في هرم السلطة في الماضي لا يعرفون ماذا كان يجري في هذا البلد ولا الذين في هرم المعارضة يعرفون أيضا ماذا يجري داخل الهيئات القيادية في أحزابهم حيث القرارات تصدر من حلقات ضيقة شبحية ولا بعض نخب السياسة والثقافة والادارة والتعليم تعرف ماذا يدور، فمن كان يعرف ماذا يجري؟

خلال متابعة طويلة لليلة الانقلاب العسكري في الثامن من شباط 1963وبقراءة مقابلات ويوميات ومذكرات لقادة أحزاب ومخابرات دولية وسير كثيرة وجدت ان النخبة السياسية العراقية كانت تلك الليلة إما في السجون أو المراقص أو الحانات او المقاهي ولم يكن شخصا واحدا من نخب الادب والثقافة على علم بليلة الانقلاب التي كانت معروفة على نطاق واسع والاستثناء الوحيد من (عالم الفن) اذا كان الرقص الشرقي في الملاهي يسمى فناً ان راقصة في أحد ملاهي بغداد كانت على علم بليلة الانقلاب على الزعيم من خلال ضابط عشيق هام بحبها لدرجة انه سلمها مصير الزعيم ومصيرنا حتى اليوم والجمهورية الاولى والاسرار العليا وربما غيرها ومن المؤسف ان تلك السيدة اختفت اثارها اليوم ولم نعثر رغم كل المشقة والبحث عن خيط يقود ولو من بعيد الى مصيرها لأن رواية تلك الراقصة عن تاريخ العراق كانت ستكون ذات قيمة تتجاوز الشهادة الى الفضيحة: فضيحة السهو الاختياري، النسيان، أو التناسي، الغفلة المستمرة، مؤسسة الاشباح المزمنة التي تحكم العراق دائما حيث يخرج الجميع من الكوارث مصعوقين من الوقائع التي سمعوا بها كالعادة لأول مرة.

لكن من كان يقظا في تلك الليلة، ليلة الانقلاب؟ رجال المخابرات الاجنبية الأمريكية والبريطانية على وجه الخصوص ومدراء شركات النفط وضباط الانقلاب وشخص آخر لا يذكر ابدا لأنه شخصية روائية متخيلة في رواية فؤاد التكرلي( الرجع البعيد) تتحدث عن تلك اللحظة الحاسمة من تاريخ العراق حيث كانت هذه الشخصية الثورية اليسارية تعيش في عالم تخيلي لذائذي خليفي حالم وفي غرام بـ"بجغ" تاركة كل شيء، السياسة والحزب الثوري والتاريخ إلا ربع العرق واخبار المعشوق الغائب ولم تستيقظ إلا على صوت الرصاص القادم من وزارة الدفاع الى خرائب وأزقة الحيدر خانة، وتُرك الزعيم للموت حين كان كثيرون على علم مسبق بليلة مقتله من دون أن يخبره أحد كما في رواية ماركيز( وقائع موت معلن) لأنه كان وحيداً وأعزل الا من نظافته ونقاوته الاخلاقية وهذه القيم في التقليد السياسي العراقي ـ النقاوة والنظافة الداخلية ـ قيم غير مستحبة لأنها تخدش صورة البشاعة العامة وتخرق مبادئ التلويث العام وهو تقليد مستمر حتى يومنا هذا كما لو ان البشاعة ظاهرة طبيعية ستبرر يوماً من باب السهو الاختياري أيضا لأن تاريخنا القريب لم تصنعه أسباب عميقة بل الاهواء والمصادفات وحتى التفاهات والنزعات الفردية ويمكن القول بثقة اننا نعيش اليوم نتائج تلك الاسباب المخجلة.

لا في الأمس ولا اليوم ومن المحتمل لا في الغد القريب هناك من يدري ماذا يحدث في هذا البلد لا الذين في السلطة ولا الذين خارجها كما لو اننا نعيش في عالم الأشباح ومع ذلك لا نعرف من يشتري حبال الشنق من السوق ومن يربط ومن يشنق ومن يطلق الرصاص ويغلق ابواب السجون ومن يدفن الناس في الصحارى ومن يضرب بالغازات ولا أحد يعرف أين ذهب الذين خرجوا من بيوتهم قبل وبعد الاحتلال ولم يعودوا حتى اليوم واين تذهب الأموال والأطفال والأشجار والآثار والأحلام والكتب والأمكنة والمشاريع والدموع والارامل والجثث والخطابات والفواجع المستمرة؟

ان الذين ينكرون درايتهم بفواجع الامس واليوم، داخل السلطة أو خارج السلطة، ليسوا دائما سجناء في قفص أو في حضرة موت وشيك على سرير كما في مذكرات القادة وسيرهم، بل سجناء وعي زائف متوهم وأعمى، وهؤلاء لا يرون الحقائق بما في ذلك المتعلقة بحياتهم وتجاربهم الخاصة الا من خلال منظار العطب والتشوه والقالب والنمط والحنديرة والاطار والبرنامج والبنية والقاعدة لأن رؤية الحياة من خارج الوعي المحارب والشقي والمأزوم والقائم على فكرة النصر والهزيمة حتى في مجال الفكر والبحث والتأمل يهز ويدمر الصورة الزائفة عن ذات متوهمة مخربة ممزقة وهوية فردية مفككة تعيش كالبوم على الانقاض والخرائب وعلى وهم خطير بأن ما تراه هو الواقع نفسه وانها تراه بكامل الحرية مع ان الحرية تتقاطع مع العمى العقلي الذي سنُقتل على مراحل بسببه، سهواً، وأخطر أنواع العمى ليس ناتجاً عن عمى البصر بل الرؤية عبر بنية وعي محارب لا يرى الآخرين الا من خلال منظار بندقية كقتلى أو مهزومين أو منتصرين وليس السهو هنا ناتج من عطب الذاكرة ولكنه ناتج عن رغبة وارادة واعية في الهروب من واقع مختلف لا يرى عبر منظار التشوه.