مــمـــالـك.. لــمــؤيــد الــــــراوي

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
30/08/2010 06:00 AM
GMT



                  "ممالك" لمؤيد الراوي .. حصان فالت في براري المأساة
تباغتك قصيدة مؤيد الراوي، لأنها تفضي في قسماتها إلى أشكال كتابية أخرى. أو لأنها تبدأ من شكل كتابي ما، سردي، أو واقعي خارج نطاق الزخرفة الشعرية، لينتهي بالشعر. نصوصه في مجموعته الأخيرة "ممالك" (دار الجمل)، تستقل بكيانها الخاص، فلا تحتاج الى ضرورة التصنيف، ولا تستجدي بعليائها أي حكم نقدي. هي عبارة عن مساحات، مفتوحة، تسيل فيها المخيلة كيفما تشاء، أو إذا ما عكسنا الصورة، فسنقول إنها قصائد المخيلة المفتوحة، التي لا تعرف المحرمات ولا تخاف المساس علانية بأي معطى يومي أو سياسي كخبر في صحيفة مثلا، لتحوله نصاً وجدانياً في المقام الاول، يتيح للكلمات التكوّن بحسب حدة توتر الشاعر خلال الكتابة. إنها قصائد تتكوّن على طاولة مخيلة كثيفة، يختلط فيها الحاضر بالمكتسب التاريخي، والخرافة أو الأسطورة بأقاصيص يومية لها علاقة أساسا بعراق صدام حسين المليء بأصناف شتى من المعاناة. وهي إذا صح القول، كما أسلوب شاعرها، كتابات مهمَلة، أو أقله غير محتفى بها، لأنها ببساطة تثير ريبة الناقد، وريبة آخر تيار شعري كان له صوته وحجته في الكتابة. مؤيد الراوي، الذي يحمل ذاكرة تتكئ على التغرب، أو النأي القسري عن المكان، يصدح حضور ألمه في القصيدة، وربما منذ السطور الأولى. إنه ألم جهوري، صريح، يعكسه الراوي، بلا تضييع للوقت او التفاف على المأساة نفسها، لكي يمدده. فالالم هنا ليس عيبا، أما كتابته، فهي ما يؤرق عادة، إذ ينبغي لأحدهما أن يتوارى خلف الآخر: إما الالم وإما صاحبه. وبدل أن يمهد الشاعر في نصه للموضوع، نجد أنه يدخل مباشرة فيه كسيف مسنون، لكي يمزق كتلته، وينثرها أشلاء، بالقسوة عينها التي يقرأ فيها ذاته، او حتى يراجع فيها التاريخ، تاريخ العراق الحديث تحديدا.
يكون صحيحا أن الراوي غادر العراق مكرهاً، لكن هذا الرحيل يبدو كأنه اعطى الدافع الى الكاتب لكي يتجذر أكثر في التاريخ والميثولوجيا الخاصين بالعراق دون سواه. هذا الانقضاض على ما هو وراء منظر الأرض، يلعب دورا رئيسيا في تشكيل ذاكرة الراوي الشعرية، او على الأقل كما يبدو في كتاب "ممالك". فالتاريخ لا يجتزأ في القصيدة، ولا ينفصل قسم منه في حاضره، عن قسم آخر من حصة الماضي. حتى ليبدو كأنه تاريخ شذرات، بعضها إنساني وآخر ميتافيزيقي أو فلسفي، أو اسطوري. نكون في المحصلة أمام زحمة أصوات تاريخية ورموز إنسانية وسلطوية، مختلطة، بعضها آتٍ من بعيد وبعضها آني أو اكثر طزاجة في المخيلة، تكوِّن جميعها ألبوما تراجيديا كثيفا، لا يمكن الشاعر التخلص منه أو التخفف من كادراته المبعثرة حالما يكتب.
تُفهَم كتابة مؤيد الراوي من ثلاث زاويا: أولاً تمازج المكتسب المعرفي من جهة والبصري من جهة أخرى، ثانياً الحس الانساني المعزز بكثافة الذاكرة الشخصية، الأمر الذي يهيئه ليكون جاهزا كي يتماهى مع  "الآخر" الذي لا يعرفه: الإنسان الرقم، الضئيل الواهن، الذي يسعى الى مطاردة أحلامه، وتلمس سقف سعادته قبل أن يُسحق لسبب سياسي، اجتماعي أو ببساطة، لأمر متعلق بالطبيعة. اما الزاوية الثالثة، فهي المتصلة بالجانب التقني، الصارخ في وجه التفعيلة أولا، ومن ثم الوزن والقافية والايقاع، والمنصاع للأفق المفتوح، باعتبار أن ثمة احتمالا دائما بتلاقي أجناس الكتابة على أرض الورقة البيضاء. لكن هذا الجانب التقني لا يمكن عزوه فقط الى خبرة الكاتب اللغوية وموقفه الرافض لما أشيع في الستينات على أنها "الشعرية الجديدة". فهو جانب تقني مستند في الأساس إلى التجربة الشخصية للكاتب مع الامكنة والمنافي، وتشابه مفاصل زمنية عديدة في الجانبين التاريخي والحضاري للعراق، والهرب من مدينة إلى أخرى مجبرا، أو مطيعا الظرف، أو التحول في موازين القوى الكبرى. لذا تظهر اللغة كأنها تحميض لصورة مكان ضخم بلا جدران بل بأبواب كثيرة. مكان شبيه بدكان اللحوم، الذي يشترط النظافة، لكنه يعمل بتقطيع الانسجة وبيعها والتخلص من الدم والشحوم والعظم والشرايين إذا لزم الامر. فالراوي يسرد حكايات مهاجرين غرقوا في البحر، او ماتوا بطرق مأسوية، وغابوا نبأ عابرا في نشرة أخبار، أو يحكي قصة فاطمة التي ظلت تبحث عن ابنها حسين الموسوي، قبل ان تعثر عليه في إحدى المقابر الجماعية، فتتعرف اليه من خاتم في إصبعه الوسطى، وتنقل عظامه في كيس تضعه بالقرب منها في الباص، وتنام. أو قصة الفيلسوف الالماني هربرت ماركوز الذي نقلت جثته من الولايات المتحدة إلى ألمانيا نظيفة، ومحتفى بها في الوقت عينه. هذه حقائق، يعتمدها الشاعر، ويصارح بها قارئه، مذوِّبا إياها في عصير كتابة وجدانية مفتوحة ومكثفة، هي في عقلانيتها نثر، وفي مجازيتها شعر، وفي سرديتها نص حكائي. لذلك قد يصبح أيّ من الأخبار التي تحمل ملمحا دراميا قاسيا، خبرا منتميا إلى الشاعر، او مادة تتحرك بحسب حساسيته الداخلية: "هذا الصباح، وقد تكللت بالسنين، سأذهب في مهمة/ إلى الشوارع والشوارع مشذبة ملتوية متشابهة/ أقيس ارتفاع البنايات/ واحصي النوافذ/ مكللة بالأطياف معتمة/ بالدخان/ بيدي بوصلة وفي كيسي ارقام/ كم شاحنة حمِّلت بالنفط؟/ كم فأسا نزلت بين الناس؟/ من يفصل المودة عن المودة/ يغيِّر المودة الموعودة إلى محض إحصاء؟"
هي "الحقيقة"، كما يراها، بمظالمها السياسية، ومجاهلها الانسانية. وعلى هذه الحقيقة، أو على ما تبقّى منها، تتشكل القصيدة لدى الراوي، مقتادة بوعيه الفلسفي، وتفسيره الخاص ومخيلته التي تشبه حصانا منفلتا لا يمكن لجمه.

 مازن معروف