المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
30/08/2010 06:00 AM GMT
في ديوان جديد يحمل عنوان "الكرسي" يتناول الشاعر شيركو بيكه س موضوعاً بطله مادة جامدة ذات جذر حي: الكرسي- الخشب المفطوم عن أمه الأشجار، فنسمع حوارية شعرية بين أفراد مجتمع الكراسي. لا يملك القارىء حيال هذه المسألة، تقييد خياله عن التجول في الباحة الخلفية للموضوع: الكرسي. وكيف يحتل عملياً واجهة الحياة اليومية، وعلى كل الأصعدة. فما هو الكرسي؟ ما أهميته في الحياة؟ أهو مكان جلوس فقط؟ أهو مادة جامدة نحركها وفق إراداتنا، ونشكلها وفق ديكورات أمزجتنا وألوانها لتناسب معمار نفسيتنا؟ هل ترتبط بمصير ما؟ لماذا تحول الكرسي رمزاً علوياً وأيقونة مقدسة للسلطة؟ السؤال الأهم كما يبدو لي: من يصنع من، هل نحن نصنع الكرسي أم هو من يصنعنا؟ بين أن تكون كرسي نفسك، وأن تكون كرسياً لآخرين، ثمة بون شاسع. فبين أن تكون نجّار كرسيك، وأن تكون كرسياً أنجزه نجّار آخر، مسافة وجود وتحقق ذات! في الحالة الأولى أنت صانع مصيرك، في الحالة الأخرى مصيرك ما يصنعه لك الآخر، يقول شيركو بيكه س: "ما تصيره مصيرك... مصيرك ما يصنعونه منك!". حين نتحدث عن الكرسي لا يغيب عن ذهننا ما كنا نفعله صغاراً في لعبة الكراسي حين تنطلق الموسيقى ويبدأ الدوران حولها، فتصير هي المركز، ونحن الذرات التي تدور في فلكها. في لعبة الكراسي تلك، يخرج من المنافسة من لا يتمتع بالسرعة اللازمة للقنص، والانقضاض على مكان جلوس! أي مكان هذا الذي عليك أن تخطفه، وأن تدوس الآخرين لتستمد كيانك من كيانه؟ إنه ليس أكثر من كرسي تفقده مع نهاية اللعبة! تتمتع الكراسي بعمر مديد، يقول شيركو بيكه س: "نحن قوم الكراسي... عمرنا أطول من عمر إلهنا النجار". فهل ظن أحد من أعضاء اللعبة أنه مالكٌ كرسيَّه إلى ما لا نهاية؟! الجالسون متغيرون والكراسي ثابتة، الجالسون أحياء، والكراسي لا حياة فيها! ولكن، أي مفارقة هذه التي تتخلق ههنا: جماد الكراسي يهب الحياة للجالسين عليها، ويعجز الجالسون الأحياء عن نفخ ذرة حياة في موات الخشب - الكراسي؟! جماد الكراسي قد يهب الخلود للأحياء، على رغم أن الخشب قابل للاحتراق والتحول رماداً، أما الأحياء فخالدون بخلود النوع. فكيف لحاضن الحياة أن يصنع مصيره كرسي؟! كيف يسمح لنجار آخر بأن يصنع مصيره؟! في كتابها "أحاديث مع والدي أدونيس" الصادر عن "دار الساقي"، تتحدث نينار إسبر عن الكرسي من منظور آخر، يتمم دائرة المعنى. تقول مخاطبةً والدها: "أنت أورثتني حبّ أشياء معينة، أولها الطاولة التي تتوسط غرفة الطعام. كنتما (وتقصد والديها) لا تبرحان جالسين أمامها كل يوم، ساعات طويلة على كرسيين، وفي يد كل منكما كتاب... كنت أراكما جالسين بلا حراك، ثم بعد لحظة لا أعود أراكما... كنت أرى طاولة وقنديلاً وكرسيين وكومة من الكتب... جسداكما منحلاّن في الكرسيين بلا فكاك، واليوم فإن الكرسي هو أحد العناصر التي أستخدمها في عملي"، ثم تضيف: "كان الكرسيان هناك وليس أنتما، وخاصة أنت، الذي كنت تسافر كثيراً... ومثلما جعلتني الكتبُ أفكر فيك، كذلك فعل الكرسي، كنت أنت تسافر والكرسي يبقى، وحينذاك تعلّقت بالكرسي وبالأشياء". لا أقصد الربط بين ما قاله شيركو بيكه س، وما قالته نينار إسبر، لكنني متوجهة الى ربط المعنى الذي أقصده عبر إيراد تلك الأقوال، وأسأل: لماذا أجلس الدينُ الله على كرسي العرش؟ هل يبرر هذا ما يعانيه العربي من فوبيا الكرسي، وما تتمتع به من سلطة مادية ومعنوية؟ كيف يمكن الجماد أن يحل محل الحي؟ كيف يمكن الكرسي أن يحل محل الأب؟ هل يمنح ذلك مبرر السعي والاقتتال والنفي والتدمير من أجل الجلوس على كرسي؟! هل تتماهى ههنا صورة الله في الجالس على كرسي! أرى أيضاً أن الكرسي الإلهي بقي منفياً بعيداً في السماء، غائباً أو مغيباً، وغير مرئي إلا من خلال تجسداته أو تجلياته، وغدا الحاكم ممثل الله المفوض بصلاحياته على الأرض، ولهذا الحاكم في طبيعة الحال أسماء مختلفة ليس أولها الأب وليس آخرها الحاكم! يغيب الكرسي عن مدى الرؤية، ويغدو الجالس عليه بعيد المنال حتى بالنظر. فليجرّب فرد عربي مقابلة رئيس الدولة أو ملك المملكة، فسيزرعون قبل الكرسي عتبات وأبواباً وحجّاباً وحراساً وسيوفاً، وهذا ما فعله الدين أيضاً. هكذا يغيب شاغلو الكراسي عن الملامسة والمواضعة، فيُلحَقون بالوهم أو بالخرافة أو بالغيب. هكذا تكثر التصورات والأقاويل والتفاسير، وحين يخلو الواقع من أولاء الشاغلين تتناسل مرادفات حضورهم بقوة، لتعوض عن الغياب: تكثر النواهي والأوامر، والقوانين والأنظمة، تكثر الحواجز والمخافر والصافرات، وكلما توطد الغياب، توطدت الخطوط الحمراء أعمق... فقط لتقول: إن شاغلي الكراسي موجودون. يغيب سكان الكراسي وتبقى مرادفاتهم بيننا على الأرض لتزرع وهمَ تحكم الغائبين بكل مفاصل وجودنا، ولتغدو هذه المرادفات بديلاً فعلياً حاضراً يمارس سلطات الغائبين في تحويلنا كراسي... مجرد كراسٍ قابلة للطي والتلوين والكسر والحرق والتلاشي. هكذا نتحول كراسي...
|